أسباب قيام الحروب الصليبية
أسباب هذه الحروب الصليبيةالحاقدة التي شنها الغربيون على الأمة الإسلامية .
و يمكن إجمال هذه اٍلأسباب فيما يلي :
1- قوة دولة السلاجقة :
فإن الدولة السلجوقية قامت للدفاع عن المسلمين ضد أعدائهم ، لذلك بدأت أولاً بمحاربة البويهيين الشيعة الذين سيطروا على الخلافة في بغداد ، وبعد أن قضوا عليهم اتجهوا إلى العبيديين الإسماعيليين في مصر والشام ، فطهروا منهم الشام وألجاؤوهم إلى مصر ، وفي نيتهم القضاء على دولتهم كلها ، ثم التفت السلاجقة للبيزنطيين في القسطنطينية فحصنوا آسيا الصغرى [ تركيا ] ، واستولوا على مدينة نيقية التي تطل على الساحل الشرقي لبحر مرمرة وتقابل مدينة القسطنطينية ، وحصنوها وأعدوها لحروب طويلة .
هذا الجهاد السلجوقي أخاف كلاً من البيزنطيين والعبيديين فالتجاؤوا إلى بابا الكاثوليك لنجدتهم وأغروه بالمقدسات النصرانية التي ببلاد المسلمين وبالخيرات الكثيرة عندهم .
2- لما قامت الحروب في بلاد الشام بين السلاجقة والعبيديين تعرض كثير من النصارى الأوروبيين الحجاج للأماكن المقدسة عندهم ببلاد الشام ، لكثير من الخطـف والأسـر والقتل ، خاصة وقد كثر حجـهم في تلك الفترة ، وهذا ما جعل بطـرس الناسك أحد الرهبان الفرنسيين الذي حضر حجهم يحقد على المسلمين وسيطرتهم على بيت المقدس ، فعاد إلى أوروبا يحرض الناس على قتال المسلمين ، وذهب ملوك أوروبا ، وإلى البابا الكاثوليكي أوربان الثاني فحرضه أيضاً ، فسر به البابا وحثه على مواصلة التحريض .
3- الحقد المتأصل في نفوس كثير من النصارى على الإسلام وأهله ؛ لقوته وسرعة انتشاره ولوراثته الأديان السابقة .
4- الحالة الاقتصادية المتردية في أوروبا حيث المجاعات والفقر الذي كان يفتك بهم ، وحرص أمرائهم على زيادة ممتلكاتهم وثرواتهم ، وحـرص العامة على التخلص من النظام الإقطاعي الطبقي الذي يعيشون في قاعه .
(2) : الحمـلة الصليبية الأولى
ومؤرثها هو البابا إيربان الثاني الذي اختير بابا لروما عام 481هـ وبعث رسائله إلى أساقفة فرنسا والبلاد المجاورة يطلب إليهم الاجتماع به في كليرمونت بفرنسا عام 489هـ .
وانعقد مجمع كليرمونت في نوفمبر 1095 م،وشهده نحو ثلاثمائة من رجال الدين، وأعـلن البابا أنه سيلقي بياناًَ هاماً بعد أيام .. ووصف البابا في خطابه ما يلقاه الحجاج المسيحيون أثناء سفرهم من العذاب والمتاعب،ودعا إلى الحروب الصليبية، ونادى الأمراء بترك الخـلافات القائمة، وقدم لهم الصليب، ثم قال: فلينطلق المسيحيون بالغرب لنجدة الشرق … ومن يلق مصـرعه في المعركة تحلل من ذنوبه وغفر الله له أخطاءه … فلا ينبغي التمهل والإرجاء، فليستعدوا للمسير عند حلول الصيف، وليكن الله هاديهم .
وكانت الاستجابة سريعة إذ تخلل الخطاب هتافات الحاضرين : هكذا أراد الله ، ولما انتـهى من خطابه نهض من مجلسه أسقف لي بويه فركع أمام عرش البابا والتمـس مـنه الأذن أن يلحق بالحملة المقدسة، ثم ركع الكاردينال جريجوري وأخذ يتلو بصوت جهـوري قــدّاس الاعتراف فيردده وراءه جموع الحاضرين ، فلما انتهت الصلاة نهض البابا وتلا التحلل وأمر سامعيه بالانصراف إلى بلادهم،وطلب إيربان الثاني من الأساقفة أن يباشروا قيادة الحـروب الصليبية بأنفسهم .
وانقسمت الجيوش في الحملة الصليبية الأولى إلى قسمين : قسـم على مستوى الشعـوب والفقراء وسـمي حمـلة الشعـوب، وقسـم عـلى مستوى الأمـراء والحـكام والقـواد والإمبراطورالبيزنطي .
أ- حملة الشعوب :
ويقودها بطرس الناسك، وكان مؤلفاً من الفلاحين وأهل المدن وصغار النبلاء وبعض قطاع الطرق والمجرمين،ولم تكن تنظمهم رابطة ما إلا أن تكون رابطة الحماس لغـزو الشـرق الإسلامي والاستيلاء على الأراضي التي تفيض عسلاً ولبناً والاستيلاء على قبر المسيح .
وتحرك بطرس ومعه هذه الجموع حتى وصلوا كولونيا في إبريل 489هـ، وتريث بطرس حتى انضم له بعض الألمان وحصل على المؤن لجيشه، ثم غادرها بعد أسبوع راكباً حماره متجهاً إلى المجر والألمان على خيولهم وبقية الجيش كانوا مترجلين ، وتبعه كذلك مجموعات ممن ألهبت كلمات الكنيسة حماسهم، وكان هذا الجيش يهاجم بعض القـرى الأوروبيـة في طريقه وينهبها وحاصر بعضهم مدينة سملن في المجر واستولوا على قلعتها وصرع هناك ما يقرب من أربعة آلاف مجري، ثم ولوا مسرعين باجتياز نهر الساف إلى الأراضي البيزنطية خوفاً من انتقام ملك المجر .
ووصل بطرس ومن معه إلى مدينة صوفية، ثم تحركوا حتى وصلوا القسطنطينية في أول أغسطس ، وهناك انحازت له جموع أخرى من الإيطاليين ، ثم عبروا البسفور إلى آسيا، وكانوا في طريقهم ينهبون ويسلبون، واقتـرح إمبراطور بيزنطة ألكسيوس على بطرس أن ينتظر حتى تصل القوات الصليبية المنظمة قبل أن يشن هجومه ولكن قواد بطرس أغراهم السلب والنهب وظلوا يواصلون زحفهم حتى أصبحوا على أبواب نيقية عاصـمة السلطان السلجوقي قلج أرسلان، وغنموا ما وقع بأيديهم وأتوا شنائع عظيمة منها: أنهم كانوا يشوون الأطفال على السفافيد، ثم خرجت جماعة منهم ينهبون متجاوزين نيقية حتى وصلوا إلى قلعة اكسير يجور دون واحتلوها غير أن الجنود المسلمين أرغموهم على الاستسلام .
وهاجمت فرقة أخرى من الصليبيين القرى والمدن الإسلامية، وانشـق القـواد بعضهم على بعض، وتحركت مجموعة فرنسية منهم إلى نيقية، وفي الطريق كمن لهم من الجنود المسلمين من أصلوهم ناراً وردوهم على أعقابهم إلى قلعتهم، بل اقتحموا عليهم القلعة وهزموهم هزيمة منكرة وأسروا منهم أعداداً كبيرة، فضلاً عمن قتلوهم، وطاردوهم إلى قلعة أخرى كان قد فر منهم إليها عدد منهم وهناك قضوا عليهم .
ب- حملة الأمراء والامبراطور البيزنطي :
وهي أكثر نظاماً وأدق إحكاماً فقد سبقها جمع الأموال وتجهيز الأدوات والآلات وإعـــداد الجيوش، وشارك فيها أبناء ملوك أوروبا والأمراء من فرنسا وإيطاليا وإنجـلترا واسكتلنده وغيرها، وقد أمرهم البابا أن يجتمعوا خارج أسوار القسطنطينية،ولما وصلت هذه الجيوش إلى القسطنطينية كان الإمبراطور البيزنطي يأخذ العهود والأيمان والمواثيق عـلى أمـراء الغرب الغازين على أن يمنعوا جنودهم من النهب في أراضيه، فرفضوا أولاً وبدأوا فمنع عنهم المؤن ثم أعطوه القسم على الاعتراف به سيداً على كل ما يفتحونه من بلاد المسـلمين وعلى أن لا يدخلوا القسطنطينية؛ وذلك أن الإمبراطور وإن كان قد استغاث بالغربيين إلا أنه خشي من هذه الجيوش الجرارة على نفسه وملكه بعدما رأى من كثرتها وقوتها .
وبعد أن عبرت هذه الجيوش البوسفور تنفس الإمبراطور الصعداء بعد أن تم التفاهم والتخطيط لمواجهة المسلمين بين الصليبيين الغربيين والصليبيين البيزنطيين .
وكان هدف الجيوش كلها هو الاستيلاء على نيقية عاصمة السلاجقة، واختـارت أن تهـاجم المدينة في غيبة سلطانها قلج أرسلان الأول، وحوصرت نيقية،وانضم مع الجيوش القادمة من بقي من حملة الشعوب ووصل السلطان السلجوقي للمدينة وحاول الدخول ودارت المعـركة يوماً بأكمله ولكنه لم يستطع الدخول وانسحب الصليبيون بعد أن خسروا أرواحاً كثيرة وطلبوا مدداً بحرياً من الإمبراطور فأعانهم ولكنهم لم يستطيعوا الدخول وإنما استسلم سكان المـدينة وكان معظمهم من المسيحيين ودخلها جيش الإمبراطور ليلاً بعد حصار دام حوالي شهر من الزمان .
ونقل السلطان مقره إلى قونية فأخذت الجيوش الصليبية أهبتها للزحف على قونية مستعينين بفرق من الجيش البيزنطي فضلاً عن الإمدادات والمؤن، وحينما كان الصليبيون ينصـرفون لمحـاربة المسلمين في داخل آسيا الصغرى كان البيزنطيون يتجهون لمحاربة المسلمين في الشواطئ الغربية لها .
ثم احتل الصليبيون نيقية بعد أن انسحب السلطان السلجوقي منها، وتوالت عليهم الإمدادات من أوروبا وهم في طريقهم إلى الشام ، ثم احتلوا فريجيا وضـورليوم وهرقـلة ، ثم انقسـمت الجيوش الصليبية قسمين : الأول اتجه صوب قيليقية والثاني صوب قيصرية، واستولوا عليها ثم بلاكنتيا ثم مرعش وأقاموا بها أياماً ، وأما الإمبراطور البيزنطي فاستغل الفرصة وهـاجم أزمير وإفسوس وليديا وغـرب فريجيا واستولى بذلك على الجـزء الغربي من الأناضـول ،بسبب انقطاع هذه المدن عن دولة السلاجقة، وكان استيـلاء البيزنطيين على الأناضول من أبرز نتائج الحملة الصليبية الأولى … يتبع
(3) : تتمة الحملة الصـليبية الأولى
اختلف القادة الصليبيون بعضهم مع بعض ، فاتجه بعضهم ( بلدوين البولوني ) إلى الرهـا تلبية لدعوة أميرها المسن الضعيف الذي لاعقب له ، فدخلها وفاوض حـاكم الرها على أن يتبناه ويجعله وريثه في الملك في مقابل حمايته له من أعدائه .
وقامت بعد ذلك بقليل ثـورة أهـلية في الرها قتلت حاكمها فانتقلت مقاليدها إلى بلدوين الذي أسس بها إمارة نصـرانية لاتينيـة ، وكان يطمح بتأسيس دولة صليبية في أرمينيا ، وقد دعمه في الأمر الأرمن .
وسار باقي القادة إلى أنطاكية، فألقوا الحصار عليها ودخلوها عنوة عام 491 ، بعد حصـار دام سبعة أشهر، وقتلوا من أهلها أكثر من عشرة آلاف ، ومثلوا بالقتلى وبالناس وفعلوا أبشع الجرائم، وولوا عليها أحدهم ( بوهيمند الإيطالي ) ، وقد استقبل النصارى من أهلها والأرمن الصليبيين بكل ترحاب .
ثم اتجهوا بعدها نحو بيت المقدس، فسار لقتالهم كربوقا صاحب الموصل، وصـاحب دمشق دقاق، وصاحب حمص جناح الدولة، غير أن الصليبيين قد انتصروا عليهم، ودخلوا معـرة النعـمان، ووصلوا إلى بيت المقدس ودخلوها عام 492، بعد حصار دام واحداً وأربعين يوما ، ًولمالم يصل حامية القدس المدد من مصر حيث الدولة العبيدية استطاع الصليبيون اقتحـام المدينة ، ولم يكن أمام الجنود إلا الاحتماء بالمسجـد ، بعد أن قاوموهم ما استطاعوا ، وقد تبعهم الصليبيون داخل المسجد وذبحوهم بوحشية بالغة ،ونهبوا قبـة الصـخرة ، وقتلوا من أهلها أكثر من سبعين ألفاً ، وخاضت ببحر من الدماء ، وانتخب جودفري الفرنسي ملكاً على بيت المقدس ، وأخذ لقب حامي قبر المسيح .
وكان العبيديون ( الملقبين زوراً وبهتاناً بالفاطـميين ) قد استغـلوا تقـدم الصلبييـن من الشمال،فتقدموا هم من الجنوب ودخلوا بيت المقدس وطردوا السلاجـقة منها قبل وصول الصليبيين إليها ، وجرت مفاوضات بين الأفضل الجمالي الوزير العبيدي وبين الصليبيين على أن يكون شمال بلاد الشام للصليبيين وجنوبيها للعبيديين ، ثم نقض الصليبيون العهد عندما شعروا بالنصر .
لقد فقدت هذه الحملة أكثر مقاتليها فقد جاءت بثلاثمائة ألف مقاتل، ودخلت إلى القدس بأربعين ألف مقاتل فقط، ومهما بالغنا بعدد المقاتلين الصليبيين الذين ساروا إلى الرها فإن عـددهم لا يزيد على أربعين ألفا، وبذا يكون عدد من بقي من الصليبيين الذين جاؤوا في الحملة ما يقرب من ثمانين ألفاً، ويكونوا فقدوا مائتين وعشرين ألفاً، قتلوا في المعارك وقتلوا على أيدي الناس الذين كانوا يثورون على تصرف هؤلاء القادمين، يثورون على كره، ورغم خوفهم الشديد ورغم معرفتهم بمصيرهم يثورون لأن تصرف الصليبيين كان على درجة من السوء والوقاحة والقباحة مايثير أية نفس مهما بلغ بها الذل والخوف .
وبسيطرة الصليبيين على بيت المقدس ارتفعت معنويات سكان الإمارات الإيطالية فبدأت سفنهم تجوب أطراف البحر المتوسط وتقدم المساعدات والدعم للصليبيين، فاستطاعوا أن يأخذوا حيفا وقيسارية عام 494 ، وأخذوا عكا عام 497، وأخذوا طرابلس عام ، 503 بعد حصار سنتين، كما أخذوا جبلة في العام نفسه، ثم أخذوا صيدا عام 504، وطلب المسلمون هدنة فرفض ذلك الصليبيون ثم وافقوا مقابل مبالغ مالية كبيرة يدفعها لهم المسلمون، وبعد أن استلموا الأموال غدروا بالمسلمين وذلك عام 504 ، وحاصر الصليبيون مدينة صور 505 وكانت بيد العبيديين فأمدهم بالمؤن والمساعدات طغتكين صاحب دمشق فامتنعت صور عن الصليبيين .
أما من جهة الداخل فقد جاء الصليبيون من جهة الجنوب فالتقى بهم صاحب دمشق أمين الدولة وهزمهم ولاحق فلولهم الذين وصل بعضهم إلى ملاطية، وقد استطاع أن يدخلها وأن يتملكها وذلك عام 493 .
وهاجم الصليبيون دمشق من جهة الشمال عام 497 ولكنهم هزموا، وأسر أمير الرها الصليبي غير أنهم استطاعوا في العام نفسه أن يدخلوا حصن أفاميا .
لقد دعم العبيديون الصليبيين في أول الأمر ووجدوا فيهم حلفاء طبيعيين ضد السلاجقة خصومهم ، واتفقوا معهم على أن يحكم الصليبيون شمالي بلاد الشام ويحكم العبيديون جنوبها، وقد دخلوا بيت المقدس غير أن الصليبيين عندما أحسوا بشيء من النصر تابعوا تقدمهم واصطدموا بالعبيديين، وبدأت الخلافات بينهما، فالعبيديون قد قاتلوا الصليبيين دفاعاً عن مناطقهم وخوفاً على أنفسهم ولم يقاتلوهم دفاعاً عن الإسلام وحماية لأبنائه، ولو استمر الصليبيون في اتفاقهم مع العبيديين لكان من الممكن أن يتقاسموا وإياهم ديار الإسلام .
لقد استقبل سكان البلاد من النصارى والأرمن الصليبيين استقبالاً حاراً ورحبوا بهم ترحيباً كبيراً،وقد ظهر هذا في أثناء دخولهم أنطاكية وبيت المقدس ،كما قد دعموهم في أثناء وجودهم في البلاد وقدموا لهم كل المساعدات، وقاتلوا المسلمين، وكانوا عيوناً عليهم للصليبيين .
وتشكلت أربع إمارات صليبية في بلاد الشام وهي : إمارة في الرها ، إمارة في طرابلس ، إمارة بيت المقدس ، إمارة أنطاكية .ولم يجد الصليبيون الأمن والاستقرار في بلاد الشام في المناطق التي سيطروا عليها وشكلوا فيها إمارات رغم انتصارهم إذ كان السكان المسلمون ينالون منهم كلما سنحت لهم الفرصة،كما يغير عليهم الحكام المسلمون في سبيل إخراجهم من البلاد ودفاعاً عن عقائدهم ومقدساتهم التي كان الصليبيون ينتهكونها .
(4) : الحملة الصليبـية الثانية
لم يصف العيش للصليبيين في ديار الإسلام إذ كانوا يتعرضون للغارات باستمرار ولهجوم المسلمين بشكل دائم ، وعندما نقضوا عهدهم مع العبيديين أصبح الهجوم يأتيهم من قبل العبيديين من الجنوب ومن قبل السلاجقة من الشمال .
وجه العبيديون حملة كبيرة بقيادة حاكم بيروت السابق عام 494 انطلاقاً من عسقلان نحو بيت المقدس ويافا غير أنها فشلت .
وجهز العبيديون حملة أخرى عام 495 واتجهت إلى اللد والرملة فخرج للقائها ملك بيت المقدس الصليبي ( بلدوين ) فانهزم وفر إلى الرملة ولاحقه المسلمون ففر من الرملة واستعادها المسلمون ، ثم حاصروه في يافا فجاءته نجدات بحرية فهاجم المسلمين فانتصر عليهم .
ثم أرسل العبيديون حملتين : إحداهما برية والأخـرى بحرية واستنجـد ( بلدوين ) بأمير الرها وأمير أنطاكية فأنجداه وانتصر .
وجهز العبيديون جيشاً كبيراً ودعموه بأسطول بحري ، وطلبوا دعم السلاجقة فأجابوهم ، وجرت أول معركة عام 498 ظهر فيها التعاون بين السلاجقة والعبيديين ، ولم تكن نتائجها واضحة .
واستمرت غارات العبيديين على البلدان التي سيطر عليها الصليبيون ، فقد أغاروا على يافا عام 499، وفي العام التالي على الخليل ، وفي العام الذي يليه وصلوا إلى أسوار بيت المقدس ، وفي عام 518 أغاروا على يافا ، وأغاروا على بيت المقدس .
وأما من جهة الشمال فقد قضى السلاجقة عام 494 على حملة صليبية جاءت من غربي أوروبا لدعم الوجود الصليبي في بيت المقدس .
ونصب الأمير كمشتكين كميناً لأمير أنطاكية الصليبي وأخذه أسيراً عام 494 ، واستطاع في العام التالي أن يستعيد ملاطية من الصليبيين وأن يأخذ أميرها أسيراً .
وفي عام 497 سار أتابك الموصل جكرمش والأمير سقمان بن أرتق صاحب ماردين لقتال الصليبيين في الرها ، وتمكنا من إبادة الجيش الصليبي ، ووقع ( بلدوين ) و ( جوسلين ) في الأسر .
وفي عام 499 أغار أمير دمشق طغتكين على بلاد الجليل ، وأغار أمير الموصل مودود عام 505 على الصليبيين ، وفي العام التالي سار إلى جهات طبريا ومدينتها .
وفي عام 514 هاجم النصارى الكرج ومن معهم من القفجاق – وهم من الكفار – ديار المسلمين وأحرزوا نصراً على المسلمين .
وفي عام 518 هاجم الصليبيون مدينة صور وكانت للعبيديين ، وسـار ( بلدوين الثاني ) أمير الصليبيين في بيت المقدس إلى الشمال لفك أسـر ( بلدوين ) و( جوسلين ) فأسرع إليه (بلك الأرتقي) ، فهزم جيشه وأخذه أسيراً أيضاً وضمه إلى بقية الأمراء الأسرى عنده .
وفي عام 523 حاصر الصليبيون دمشق ولكن فشلوا في اقتحامها .
وفي عام 527 جاءت أعداد كبيرة من التركمان من الجزيرة ، واتجهوا نحو طرابلس فقاتلوا الصليبيين فيها … إلخ .
وبدأ عماد الدين زنكي في عام 529 يوجه هجماته على مراكز الصليبيين الواقعة شرق نهر العاصي ليكون الفتح تدريجياً فاستولى على الأثارب و زردنا وتل أغدى ومعرة النعمان وكفر طاب وأغار على قنسرين وشيزر وحمص .
وأغار نائب زنكي على الصليبيين عام 530 فوصل إلى اللاذقية ، وفي سنة 531 أغار المسلمون على إمارة طرابلس فقتلوا أميرها وأسروا عدداً كبيراً من أتباعه .
واستطاع عماد الدين زنكي أن يفشل خطة ( حنا كوين ) إمبراطور البيزنطيين في الاستيلاء على حلب ، وامتاز زنكي عن غيره من أمراء المسلمين أنه جعل المعركة جهاداً في سبيل الله قبل كل شيء ، وجعل توحيد المسلمين وصفوفهم خطوة ضرورية قبل خوض أي معركة ضد الصليبيين .
واستطاع زنكي عام 539 أن يحاصر الرها وأن يستعيدها من الصليبيين ، واستولى على سروج عام 539 .
أما الحملة الصليبية الثانية فقد شجعها على الانطلاق فتح عماد الدين لإمارة الرها عام 539 ، وعندما انطلقت هذه الحملة عام 542 كان عماد الدين قد توفي ، واتجهت الحملة إلى بلاد الشام عن طريق البحر للخلاف الذي كان قائماً بين إمبراطور القسطنطينية وبين الصليبيين ، وكان على رأس الحملة ملك ألمانيا ( كونراد الثالث ) و ملك فرنسا (لويس السابع ) ، واتجهت الحملة نحو دمشق ، وكان أميرها مجير الدين يخشى من سيطرة آل زنكي على مدينته ويعتمد على الدعم الصليبي فيما إذا اتجه آل زنكي نحوه ، واتجاه الحملة الصليبية نحو دمشق جعل أمير دمشق يستنجد بنور الدين زنكي ضدهم ، وهذا ما هيأ لنور الدين احتلال دمشق عام 549 ، واضطر ملك ألمانيا بعدها العودة إلى بلاده ، كما تبعه ملك فرنسا بعد مدة وجيزة .
ولما قتل زنكي حمل الراية الجهادية ابنه نور الدين محمود الذي حاصر الصليبيين في الرها – استطاعوا الاستيلاء عليها بعد موت عماد الدين – وهزمهم هزيمة منكرة ، وقتل (بلدوين) وأصيب ( جوسلين ) إصابة بليغة ، واستعاد منهم الرها .
وواصل نور الدين جهاده فاستطاع في عام 542 أن يستولي على عدد من القلاع مثل : بسرفوت وأرتاح والأثارب وكفر لاتا وغيرها .
وهكذا كان الهجوم على الصليبيين من الجنوب والشمال ، ثم امتد على أمارة طرابلس في الغرب ، فكانت هذه الهجمات تقض مضاجعهم وتقلقهم باستمرار ، ثم بدأت تظهر دولة عماد الدين زنكي وتتوسع على امتداد إمارات الصليبية ،ويخطط عماد الدين وابنه من بعده محمود للسير بصورة تدريجية ومركزة .
وفي عام 544 دخل نور الدين محمود حصن أفاميا، وسار نحو أنطاكية وحاصر في طريقه مدينة حارم ، وصالحه أهلها على نصف أرزاقهم ، غير أنه هزم عام 546 عندما سار لقتال ( جوسلين ) أمير الرها ، ثم تمكن من أسره فيما بعد ، وظل في أسره تسع سنوات ، واستطاع أن يأخذ عزاز وعينتاب ومرعش .
وباختصار فإن إمارتي الرها وأنطاكية الصليبيتين أصبح معظمهما في أيدي المسلمين .
وفي عام 546 استطاع مسعود الاستيلاء على عينتاب ودلوك ، واستولى نور الدين على الراوندان ثم على تل باشر .
واستنجد مجير الدين بنور الدين محمود ضد الصليبيين فجاءه ودخل دمشق عام549 ، ثم سار إلى بعلبك ودخلها عام 550 ، ويعتبر عام الوحدة وتجمع القوى الإسلامية ، كما أخذ شيزر عام 552
(5) : الحـملة الصليبية الثالثة
هلك ( بلدوين الثاني ) ملك بيت المقدس الصليبي سنة 559هـ ، وتولى من بعده أخوه عموري الأول فامتد بصره إلى مصر غير أن نور الدين أجبره على الانصراف إذ هاجم حارم ، وهاجم إمارة طرابلس عام 558هـ .
وأرسل أسد الدين شيركوه الذي اصطحب معه ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي ، واستطاع شيركوه أن يفوت على الصليبيين أطماعهم في مصر ، واستقر الأمر لشاور الوزير ، وترك شيركوه مصر تحت قيادته في ظل ضعف سيطرة الخليفة العباسي.
ثم ساءت سيرة شاور واستنجد الخليفة الفاطمي العاضد بنور الدين فأرسل له شيركوه وصلاح الدين مرة ثانية ، واشتبك مع الصليبيين قرب المنيا وانتصر عليهم ، ثم حاصر الصليبيون صلاح الدين في الإسكندرية ، ووقع الاتفاق مرة ثانية على أن يترك الطرفان مصر لشاور .
وفي المرة الثالثة اتجه عموري نحو مصر وهاجم ( بلبيس ) واحتلها ، ثم اتجه إلى القاهرة ، ووجه نور الدين جيشاً إلى مصر بقيادة شيركوه وصلاح الدين الأيوبي ، ففر عموري ودخل القائدان مصر ، وأصبح شيركوه وزير مصر ثم توفي من قريب فخلفه في الوزارة صلاح الدين ، الذي حقق انتصارات كبيرة على الصليبيين في معارك كثيرة .
وانتصـر في عام 575 هـ في ( مرجعيون ) ، وقام أسطـول المسلمين بمهاجمة مدينة عكا اضطـر ( بالدوين الرابع ) إلى عقد صـلح مع المسـلمين ، كما قام صـلاح الدين بالهـجـوم على ( انطرطوس ) الأمر الذي أرعب ( ريموند الثالث ) واضطر إلى عقد هدنة مع صلاح الدين.
انصرف صلاح الدين بعد هذه الهدنة إلى تعزيز أوضاعه الداخلية وتقوية جيوشه غير أن أرناط أمير حصن الكرك الصليبي استغل فرصة انشغال صلاح الدين لأمور بلاده فاتجه إلى تيماء راغباً في الوصول إلى المدينة المنورة ، واستولى في طريقه على قافلة للحجاج المسلمين ، وسلب الأموال وأسر الرجال ووصل إلى ساحل البحر الأحمر ، فأغضب بذلك صلاح الدين فذكر الصليبيين بالهدنة ، وطلب من ملك القدس الصليبي أن يأمر أرناط بالكف عن تعدياته فلم يستمع أرناط ، ولا حزم الأمر ( بالدوين الرابع ) ، وهذا ما حدا صلاح الدين أن يسير من مصر للهجوم على حصن (الكرك) في الأردن ، وأن يسير نائبه على دمشق ابن أخيه ( فرخشاه ) للهجوم على طبريا وعكا ، وقد استولى على الشقيف ، والتقى الجيشان المسلمان مع الصليبيين في معركة كان النصر فيها حليف المسلمين .
وصل صلاح الدين إلى دمشق ثم خرج منها عام 578 ، وأرسل ابن أخيه للهجوم على ( بيسان ) ، وسار هو بعده وهزما الصليبيين هزيمة منكرةً .
رأى صلاح الدين أن أهم أمر لديه هو أن يفصل الإمارات الصليبية بعضها عن بعض ، وحشد جنده من دمشق ومصر وحلب والجزيرة ، وسـار عام 579 إلى ( بيسان ) فاستولى عليها ، وحاصر ( الكرك) و( الشوبك ) ، وانتصر على الصليبيين قرب ( صفورية ) ، وتجمع الصليبيون هناك فسار هو إلى (طبريا ) واحتلها ، ثم عسكر قرب ( حطين ) ، وتقدم إليه النصارى وهم متعبون عطشى، فاستقبلهم المسلمون فعملوا فيها قتلاً وأسراً ، فكان ممن أسر الملك وأخوه وأرناط وأمير جبيل ، وقتل صلاح الدين أمير( الكرك ) بيده نتيجة ما اقترف ، وكانت معركة حطين العظيمة في 25 ربيع الآخر عام 583 ، وهي من أعظم الانتصارات ، ثم تقدمت الجيوش الاسلامية على (الناصرة ) و(قيسارية )و(حيفا) و(صفورية) و(يافا) و( الرملة ) و(غزة ) و(بيت جبرين ) ، وعرض على الصليبيين تسليم القدس فدخلها عنوة في 27 رجب سنة 583 ، ثم استولى على (عسقلان )و(عكا) ، واستسلمت (صرفند ) و(صيدا) و(بيروت ) و(جبيل ).
ولم يبق للصليبيين بعد هذه الانتصارات التي حققها صلاح الدين من إمارة بيت المقدس سوى (صور) فكانت مركزاً لتجمعهم ، ومن إمارة طرابلس سوى المدينة نفسها و(حصن الأكراد) و(انطرطوس) ، ومن إمارة إنطاكية سوى المدينة نفسها و(السويدية ) و(حصن المرقب) .
وكان لفتح صلاح الدين للقدس وللانتصارات الواسعة التي حققها أثر كبير في أوربا إذ أخذت الصيحات الصليبية تتعالى ، والنصارى يتنادون للسير إلى بيت المقدس لدعم إخوانهم ومهاجمة المسلمين ، ووجه البابا (غريغوري الثامن ) كتباً إلى ملوك فرنسا وألمانيا وإنكلترا يحثهم على حرب المسلمين ، واستجاب هؤلاء لهذا النداء وحشدوا جموعهم وتحركوا نحو ديار الإسلام فكانت الحملة الصليبية الثالثة عام 585 هـ .
سارت الحملة الصليبية الثالثة بإمرة ملك إنكلترا ( ريتشارد قلب الأسد )، وملك فرنسا (فيليب أغسطس) ، وإمبراطور ألمانيا (فريدريك بربروسا) .
وقد انطلق ملكا إنكلترا وفرنسا إلى جزيرة صقلية عن طريق البحر وقضيا فصل الشتاء ، وأما إمبراطور ألمانيا فسار وانطلق براً ماراً على القسطنطينية رغم خلافه مع الإمبراطور البيزنطي ( إسحاق الثاني ) كذلك عبر أراضي سلاجقة الروم في قونية ، ولقي ترحيباً من الأرمن في( كيليكيا ) غير أنه غرق وهو يعبر نهر سيحان في ( كيليكيا ) فتفرق جنده ، وأصاب المرض بعضهم ، وتابع ابنه الطريق بعد أن عوفي واتجه نحو عكا فألقى الحصار عليها عام 586هـ ، ثم وصل إلى عكا ملكا إنكلترا وفرنسا مع جندهما وقاومت مدينة عكا ، والتقى صلاح الدين الأيوبي مع الصليبين في عدة معارك غير أنه اضطر أن يغادر المنطقة بسبب الأوبئة التي انتشرت ، وضيق الصليبيون الحصار على عكا فاضطرت إلى الاستسلام بعد حصار دام عامين ، وبرز ريتشارد قلب الأسد بين الصليبيين لما عرف عنه من قسوة وسوء فقد قتل أسرى عكا جميعاً .
وعاد ملك فرنسا إلى بلاده ، وطمع ريتشارد في دخول القدس فاستولى على (حيفا) و(أرسوف) بعد أن انتصر في الثانية منهما على صلاح الدين بعد معركة حامية ، ثم اتجه نحو (اللد) و(الرملة) فوقف صلاح الدين في وجهه وأحكم الدفاع عن القدس حتى يئس ريتشارد من الوصول إلى هدفه ، وانتشرت الأمراض بين الصليبيين ، واضطربت الأمور في إنكلترا فاضطر ريتشارد إلى عقد صلح مع صلاح الدين عام 588هـ عرف باسم صلح الرملة ، وبذا تكون الحملة الصليبية الثالثة قد فشلت ولم تصل إلى هدفها .
التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 6/331، والغزو الصليبي والعالم الإسلامي 97
(6) : الحملة الصـليبية الرابعة
تعد هذه الحملة نتيجة مباشرة لوفاة صلاح الدين الأيوبي في شهر صفر سنة 589هـ ، فمنذ وفاته دعا البابا ( أنوسنت الثالث ) إلى حرب صليبية ضمن خطة وضعها للكنيسة على رأسها مشروع محو آثار حروب صلاح الدين في الشرق واغتصاب بيت المقدس من المسلمين .
فدعا في منتصف سنة 594هـ إلى حملة صليبية رابعة ، واستجاب له فيها عدد من الأمراء وتولى قيادتها عدد من البارونات الفرنسيين وغيرهم .
وبعد مداولات بين أمراء الحملة وقوادها رأوا أن يتجهوا بها إلى مهاجمة مصر أولاً ، ثم بيت المقدس بعد ذلك .
وبدأت الاستعدادات بالتعاون مع البندقية لتمدهم بالسفن ، واحتشد الصليبيون في البندقية في صيف 598هـ ،غير أن البنادقة اشترطوا على الصليبيين ثمناً لهذا التعاون أن يهاجموا مدينة( زارا ) ويستردوها من ملك هنغاريا ، واستجاب الصليبيون لذلك من غير موافق البابا وعلى الرغم من غضبه وإصداره قرار الحرمان ضد الحملة كلها ثم قصره على البنادقة أخيراً .
وبينما يستعد الصليبيون للاتجاه نحو مصر إذا بثورة تنشب في القسطنطينية تطيح بالإمبراطور إسحاق الثاني ، فيفر ابنه الكسيوس قائد الثورة إلى الغرب بعد فشل ثورته طالباً المساعدة من البابا ومن الصليبيين عارضاً في مقابل ذلك إخضاع الكنيسة الشرقية للبابوية ومساعدة الصليبيين في حملتهم ضد مصر .
وصادف ذلك هوى في نفس البابا ومصلحة لدى البنادقة ، وتشفياً من الصليبيين في الدولة البيزنطية ، فاتجهت جموع الصليبيين إلى القسطنطينية واستولت عليها عام 600 هـ ، وقاموا بتخريبها والعدوان على أهلها حتى تمنى بعض البيزنطيين أن لو كانت القسطنطينية قد وقعت في أيدي المسلمين ، وقد أحرق الصليبيون بعض الكنائس والجامع القديم الذي بني في عهد بني أمية وقاموا بسلب المدينة .
واستولت الكنيسة الكاثوليكية على الكنيسة الأرثوذكسية ورأسها أول كاثوليكي منذ إ نشائها .
ولقد كان من نتائج هذه الحمل أن فترت همة المحاربين في الحروب الصليبية الآتية لاستيقان الناس بأنها غارات بربرية وليست حروباً دينية .
كما عمقت هذه الحمل الخلاف بين مسيحيي الشرق ومسيحيي الغرب ، وجعلت الطريق البري إلى الشام أشد وعورة وأعظم خطراً .
كما أغرت كثيرين من فرسان الصليبيين في الشام إلى أن يتركوا الشام ومتاعبه ويتجهوا إلى قبرص أو البلقان ليهنئوا بحياة مستقرة .
وبالجملة فقد أضعفت الحملة الصليبية الرابعة مركز الصليبيين في الشرق الإسلامي وزعزعت مكانتهم .
لذلك قرر أحد مؤرخي الحروب الصليبية ( أن الحمل الصليبية الرابعة جاءت نذيراً بفشل الحركة الصليبية بأكملها .
(7) : الحملة الصـليبية الخامـسة
حاول الصليبيون في حصن الأكراد الاستيلاء على حمص عام 604 فاستنجد صاحبها أسد الدين شيركوه الثاني بصاحب حلب الملك الظاهر وقاوموا الصليبيين .
وفي عام 604 هاجم القراصنة الصليبيون في قبرص بعض السفن المصرية وأخذوا من فيها أسرى ، فسار الملك العادل الأيوبي نحو عكا ، وأجبر الصليبيين أن يردوا الأسرى المسلمين ، ثم سار الملك العادل إلى حمص لدعمها ، وأغار على حصن الأكراد وعلى طرابلس فاضطر صاحب طرابلس الصليبي بوهيمند الرابع إلى عقد صلح مع العادل .
كما عقد الملك حنا برين صلحاً مع الملك العادل لمدة ست سنوات ولكنه في الوقت نفسه كان يراسل البابا ويطلب منه الدعم والعمل لإرسال حملة صليبية جديدة تصل إلى بلاد الشام مع انتهاء الصلح الذي يمتد من 608-614 .
دعا البابا أنوسنت الثالث إلى تعبئة جيش صليبي جديد يتجه إلى بلاد الشام مباشرة ، وسارت الحملة بقيادة دوق النمسا ليوبولد ، وملك هنغاريا أندريه الثاني ، ثم لحق بهما ملك قبرص بهمايو ، ووصلت هذه الحملة الصليبية الخامسة إلى بلاد الشام عام 615 ، واجتمعت جموعها في عكا، وساروا فاستولوا على بيسان في الغور ، ووصلوا إلى بلدة نوى ، ولم يتفق ملك هنغاريا مع دوق النمسا لذا قرر العودة إلى بلاده .
وخرج حنا برين للهجوم على دمياط وجاءته جموع صليبية بإمرة مندوب البابا الكاردينال بلاغيوس وجموع من قبرص .
وتوفي الملك العادل وخلفه ابنه الكامل الذي جاءه دعم من أخيه المعظم صاحب دمشق ، ولكن بدأ في هذا الوقت الهجوم المغولي ، فعرض الكامل الصلح فلم يقبله الصليبيون الذي استولوا على دمياط ، وشعروا بنشوة الظفر فقرروا الهجوم على القاهرة ، لكنهم فشلوا بسبب الفيضانات التي حدثت بقطع المسلمين السدود فطلبوا الصلح وسلموا رهائن وهم صاغرون حتى يجلوا عن دمياط ، وتم الجلاء عام 618 ، وهكذا فشلت الحملة الصليبية الخامسة ولم تحقق شيئاً .
(8) : الحمـلة الصليبية السادسة
بعد فشل الحملة الصليبية الخامسة اضطربت أحوال الصليبيين في الشام ووقع بينهم من الخلاف ما زعزع مكانتهم وما جعل بعضهم يتجه إلى أوروبا والبابا من جديد طالبين حملة صليبية تعزز وجودهم في الشام .
وقد كان نزاع حاد قد نشأ بين البابوية والإمبراطورية في غرب أوروبا ، وقد استمر هذا النزاع قرنين من الزمان على وجه التقريب ، وكان سببه التنافس بين السلطتين الدينية والعلمانية في أوروبا .
ومن أجل هذا الصراع بين الكنيسة والسلطة العلمانية لم تحدث استجابة لطلب الصليبيين في الشام بعد فشل الحملة الخامسة على مصر .
فإذا أضفنا إلى تلك الأحداث أحداثاُ أخرى جرت للمسلمين وبالتحديد لأبناء العادل : الكامل والمعظم والأشرف أبناء أخي صلاح الدين وما وقع بينهم من خلاف حاد أوشك على التحارب والتقاتل ، بل دخلت فيه فعلاً حرب مرئية وأخرى غير مرئية .
بالإضافة إلى خطر خارجي أخذ يهدد الدولة الأيوبية من الخوارزميين الذين شتتهم جنكيز خان ، فتجمعوا في أصفهان وأخذوا يهددون الشام والعراق ، كل ذلك جعل الملك الكامل يستعين بالإمبراطور فردريك الثاني إمبراطور ألمانيا للتغلب على متاعبه الداخلية مع أخويه ، والخارجية مع الخوارزميين في مقابل أن يتنازل له عن بيت المقدس وكل ما حققه صلاح الدين من انتصار في حطين .
وقبل فردريك الثاني هذا العرض وتجهز وأعد جيشاً لمساندة الملك الكامل ضد الخطرين اللذين يهددانه .
وفي ذات الوقت أخذ البابا هنريوس الثالث يلح على الإمبراطور فردريك الثاني ليعد حملة صليبية للشرق تستعيد هيبة الصليبيين والكنيسة هناك .
ولما مات البابا هنريوس الثالث خلفه جريجوري التاسع وأخذ يلح كذلك من أجل أن يقوم الإمبراطور بهذه الحملة ، فأبحر الإمبراطور من برنديزي جنوب إيطاليا قاصداً بلاد الشام ، ولكنه عاد مدعياً المرض ، فاعتبر البابا هذه العودة نكوصاً فأصدر ضده قرار الحرمان فخشي الإمبراطور غضبة البابا فخرج قاصداً عكا ، وكان جزء كبير من جيشه قد سبقه إلى بلاد الشام .
وكان فردريك لا يحب أن يدخل في حرب مع المسلمين لأسباب كثيرة ربما كان منها عناده للبابا وكراهيته للكنيسة ، وربما كان منها حبه للمسلمين والإسلام بحكم نشأته في صقلية المسلمة .
وكانت حملة فردريك هي الحملة الصليبية الملعونة من الكنيسة ، وأخيراً وصل رجال الإمبراطور إلى عكا في 625هـ بينما تخلف الإمبراطور في قبرص ، فخابت آمال الكنيسة والصليبيين والملك الكامل في حملة فردريك ، وعندما وصل فردريك إلى عكا في أخريات عام 625هـ بهدف الحصول على بيت المقدس من الملك الكامل مقابل حمايته من أخيه المعظم وجد المعظم قد مات والكامل قد أمن من الشر ، وأصبح فردريك في حرج من أمره ، وكذلك الملك الكامل ، فالكامل لا يود أن يحارب الصليبيين في هذه الظروف القلقة داخلياً وفردريك ما خرج ولا استعد لحرب المسلمين وإنما لحماية الكامل في مقابل بيت المقدس دون حرب ، ولو فكر في الحرب فلن يستجيب الصليبيون له وهو محروم من الكنيسة ، فلم يجد أمامه إلا أن يفاوض ويستعطف ليأخذ بيت المقدس فيعزز مكانته في أوروبا كلها ، وبلغ من استعطافه أن كتب للسلطان الكامل : ( أنا مملوكك وعتيقك ، وليس لي عما تأمره خروج ، وأنت تعلم أني أكبر ملوك البحر ، وقد علم البابا والملوك باهتمامي وطلوعي ، فإن رجعت خايباً انكسرت حرمتي بينهم ، وهذا القدس فهي أهل اعتقادهم وضجرهم ، والمسلمون قد أخربوها فليس لها دخل طائل ، فإن رأى السلطان أن ينعم علي بقبضة البلد والزيارة فيكون صدقة منه ، ويرتفع رأسي بين ملوك البحر ) .
ومن عجب أن وافق الكامل وأجاب فردريك إلى ما طلب وعقد معه اتفاق يافا سنة 626هـ وفيها هدنة بين الطرفين لمدة عشر سنين ، ويأخذ فردريك بيت المقدس ، ولكن لا يجدد سور القدس ، وتكون قرى القدس للمسلمين لاحكم فيها للفرنج ، وأن يكون الحرم كله بأيدي المسلمين وليس للفرنج إلا الزيارة .
وبدموع فردريك واستعطافه حقق ما عجز عنه ملوك الفرنج وأمراء الصليبيين منذ انتزع صلاح الدين القدس منهم .
وقد كان لذلك أسوأ الأثر في نفوس المسلمين حتى إنهم أقاموا المآتم وقالوا المراثي في القدس ، وذهب فردريك إلى بيت المقدس وتوج نفسه لأن الكنيسة رفضت أن تتوجه ، وعندما زار فردريك المسجد الأقصى علم أن السلطان الكامل أمر المؤذنين بعدم إقامة الأذان طيلة وجود الإمبراطور في المدينة فاستاء فردريك لذلك وقال للقاضي شمس الدين : ( أخطأت فيما فعلت ، والله إن أكبر غرضي في البيت المقدس أن أسمع أذان المسلمين وتسبيحهم في الليل ) .
ثم إن فردريك رأى قسيسا ًبيده الإنجيل يهم بدخول المسجد الأقصى من الفرنج فزجره الإمبراطور وطرده ، وهدد كل من يدخل المسجد الأقصى من الفرنج بغير إذن وقال : ( إنما نحن مماليك هذا السلطان الملك الكامل وعبيده ، وقد تصدق علينا وعليكم بهذه الكنائس على سبيل الإنعام منه ، فلا يتعدى أحد منكم طوره ) .
ثم ذهب فردريك إلى يافا ثم غادرها إلى عكا تاركاً بيت المقدس ، وكانت عكا تعيش صراعاً بين الصليبيين الذين فيها ، وحاول فردريك أن يبرر أعماله أمام رجال الدين ولكنه عورض .
وكان البابا قد أمر جيوشه بالاعتداء على أراضي فردريك وممتلكاته في إيطاليا وساعده في ذلك حموه حنا برين ، فوجد أن مصالحه تقتضي أن يغادر عكا ويتجه إلى مملكته ، فرجع إلى لإيطاليا .
وهكذا انتهت الحملة الصليبية السادسة وقد أخذت بيت المقدس هدية من الملك الكامل الذي ضيع جهد عمه صلاح الدين في الاستيلاء عليه .
(9) : الحمـلة الصليبية السابعة
منذ عقد الملك الكامل صلح يافا مع فردريك الثاني إمبراطور ألمانيا ، وشؤون البيت الأيوبي في اضطراب .
وقد أحس الصليبيون بذلك ، بخاصة الاسبتارية فأغاروا على منطقة بعرين سنة 627هـ ونهبوا البلاد وقتلوا وأسروا وسبوا .
وكان الملك المظفر صاحب حماة غير مستعد للدخول معهم في حرب فقبل أن يدفع لهم مبلغاً من المال ، ولما لم يستطع الوفاء بما وعد تجمع الاسبتارية والداوية في قوة كبيرة ، وهاجموا الملك المظفر ، فاشتبك مهم في معركة عند أفيون بين بعرين وحماة وأنزل بهم هزيمة منكرة سنة 628هـ وساق أمامه الأسرى .
وفي سنة 630هـ رغب الاسبتارية في الحصول على أموال فرضوها على المظفر فاستعانوا بجميع قوى الفرنجة مثل الداوية وإمارة أنطاكية وطرابلس ومملكة بيت المقدس وصليبي قبرص ، ثم زحفوا على حصن بعرين ليلاً ، فاحتلوا البلد واستعصت عليهم القلعة وعادوا بأسلاب وأموال كثيرة دون أن يصطدموا في حرب مع المسلمين .
وقد كان الأيوبيون في ذلك الوقت مشغولين بمناوأة علاء الدين كيقباد سلطان سلاجقة الروم الذي استولى عل خلاط .
وفي هذه الفترة كان الداوية يحتلون حصن بغراس بينما كان الأيوبيون يسيطرون على حصن ردبساك وبين الحصن مسافة قصيرة ، مما كان يجدد الاشتباكات بين الطرفين ، ويولد الرغبة عند كل طرف في الاستيلاء على حصن الطرف الآخر .
فأغار الداوية على حصن دربساك سنة 634هـ ولكن المسلمين قاوموهم ووصلت للمسلمين قوة من حلب فاستطاعوا التغـلب عل الداوية وقتلوا معظمهم وأسروا عدداً منهم .
ودارت بين الأيوبيين أنفسهم معارك عديدة تغلبوا بعدها – إلى حد ما – على انقساماتهم الداخلية ، وحاربوا علاء الدين ثم حالفوه ، وحاربوا الخوارزمية ومعهم حليفهم علاء الدين حتى قضوا عليهم وأجلوهم عن خلاط ، ثم حاربوا علاء الدين ثانياً .
ثم توفي الملك الكامل سنة 635 هـ بعد قضائه على مؤامرة من إخوته تستهدف القضاء عليه وخلفه في حكم مصر ابنه الصالح أيوب ، وطمع الصليبيون في خلافات الأيوبيين فدعت البابوية إلى حرب صليبية فاستجاب لها عدد من أمراء فرنسا وأعدت حملة بقيادة ( ثيبوب الرابع ) وصلت إلى عكا ، وكان الناصر داود صاحب الأردن قد استطاع أن يستولي على بيت المقدس من الصليبيين لأنهم نقضوا الهدنة وحصنوها ، وعندئذ فكر قواد الحملة الصليبية الفرنسية في مهاجمة بيت المقدس أو دمشق أو مصر أو عسقلان ، واختلفوا ثم هاجموا عسقلان ، واستولوا في طريقهم إليها على قافلة من المسلمين ، واتجهوا صوب غزة لملاقاة جيوش سيرها ضدهم العادل الثاني ، فلقوا هناك هزيمة منكرة وعادت فلولهم خائبة إلى عكا .
ولكن الصالح إسماعيل تصاحب دمشق تحالف مع الصليبيين ضد بقية أمراء بني أيوب ، وفي مقابل ذلك سلمهم القدس وعسقلان وطبرية ، وذلك في إثر عزل العادل الثاني وتولية الصالح أيوب أمور مصر في 637 هـ ، وثار الناس بقيادة العز بن عبد السلام على الصالح إسماعيل وانحازوا مع المصريين ضد الصليبيين وهزموهم هزيمة منكرة .
وعادت الحملة الفرنسية إلى بلادها بعد أن عقدت هدنة مع الصالح أيوب ، وما إن عادت حتى جاءت حملة إنجليزية إلى عكا بقيادة ( ريتشارد كورنوول ) أخو ملك إنجلترا ، واتجه إلى تحصين عسقلان ، وكان هدفها تثبيت عمل ( ثيبوب ) وإتمامه ، ثم قفل راجعاً إلى بلاده .
وفي سنة 642هـ استعان الصالح أيوب بالخوارزمية ضد أقربائه الذي تحالفوا مع الصليبيين لغزو مصر ، فاندفع الخوارزمية نحو الشام واستولوا على قرى كثيرة ، واتجهوا نحو الجليل واستولوا على طبرية ونابلس ، ثم استولوا على بيت المقدس في صفر سنة 642هـ ، وقضوا على كل معالم النصرانية فيها وطردوا منها الصليبيين إلى غير رجعة .
واستطاع الخوارزمية مشتركين مع المصريين بقيادة ركن الدين بيبرس أن يهاجموا الصليبيين ومن حالفهم من منافقي المسلمين في غزة سنة 642هـ ، وأن يوقعوا بهم هزيمة نكراء كانت أعظم كارثة حلت بالصليبيين بعد حطين حتى سماها بعض المؤرخين ( حطين الثانية ) .
وفي سنة 645هـ استطاعت جيوش الصالح أيوب أن تستولي على قلعة طبرية من الصليبيين ، وفي نفس العام على عسقلان ، وأصبح الصالح أيوب يسيطر على مصر والشام وبيت المقدس ، وفيه جاء ملوك البيت الأموي لتقديم الولاء والطاعة .
وحاول بطريق القدس أن يستقدم حملة صليبية بإلحاحه المستمر غير أنه لم يوفق بسبب الخلافات التي بين الأوروبيين أنفسهم .
كان لويس التاسع ملك فرنسا مريضا ًآنذاك ، فنذر إن شفي أن يشن حملة على المسلمين ، فلما شفي أخذ يستعد طيلة ثلاث سنوات ، ثم أبحر قاصداً الشرق ومعه زوجه وأخواه : روبرت وشارل عام 646هـ، وكن هدف هذه الحملة توسيع النفوذ الفرنسي ، واتجهت نحو مصر ، وتوقفت في قبرص لتجمع الجنود والإمدادات والسفارات مع المغول ونصارى المنطقة .
ثم تحركت الجيوش إلى دمياط ، وكتب لويس إلى الصالح أيوب : ( إن مسلمي الأندلس يحملون إلينا الهدايا ، ونحن نسوقهم سوق البقر ، ونقتل الرجال ، ونرمل النساء ، ونستأسر البنات والصبيان ، فلو حلفت لي بكل الأيمان ودخلت على القسوس والرهبان ، وحملت قدامي الشمع طاعة للصلبان ما ردني ذلك عن الوصول إليك ) ، فرد عليه : ( فلو رأت عيناك أيها المغرور حد سيوفنا ، وعظم حروبنا ، وفتحنا منكم الحصون والسواحل ، وإخراجنا منكم الديار الأواخر والأوائل ، لكان منك أن تعض على أناملك للندم ) .
ووصل لويس إلى دمياط ، ودارت معركة رهيبة ، وكانت الغلبة للصليبيين لكثرة عددهم ، واتجه الجيش الأيوبي إلى أشموم طناح ، تاركاً دمياط لهم ، وخرج من دمياط أهلها وحاميتها ، بعد أن أشعلوا النار في سوقها ، وتملكها الصليبيون .
ثم بقي الصليبيون في دمياط خمسة أشهر في انتظار مدد من أوروبا ، وكان الصالح أيوب ينظم الدفاع من فراش الموت .
ووصل ألفونس أخو لويس ومعه المدد ، وقرر الصليبيون الزحف على القاهرة ، وفي اليوم التالي من زحفهم توفي الصالح أيوب ، فأخفت زوجه شجرة الدر نبأ موته من أجل المعركة ، وجمعت الأمراء والقواد وأخذت منهم البيعة لتوران شاه ابن الصالح أيوب ، وأرسلت في إحضاره من حصن كيفا ، وكانت المراسيم تصدر باسم السلطان الميت .
وعرف الصليبيون خبر الوفاة ، فأسرع لويس في الهجوم على القاهرة عن طريق الدلتا ، ولكن المياه حاصرتهم ، وهاجمهم الأمير فخر الدين ، فتعرقل سيرهم ، ووقع عدد منهم في الأسر .
وأدرك لويس أنه عاجز عن العبور إلى المنصورة ، والمسلمون أمامه على الضفة الأخرى للنهر ، واستطاعوا مع ذلك العبور عن طريق سلمون بمعاونة نصارى مصر ، فتصدى لهم الأمير فخر الدين ثانية .
وعبر روبرت مع مقدمة الجيش الصليبي ، وبادر باقتحام المنصورة ومعه الملك لويس ، غير أن جيوش المسلمين بقيادة بيبرس البندقداري انقضوا على الصليبيين فزعزعوهم ، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة ، وقتل روبرت نفسه ، وقتل من الداوية أكثرهم ، وهزت الصدمة لويس فأقام على النيل جسراً ليعبر عليه النيل تداركاً للموقف إلا أن الجيوش المسلمة هاجمت معسكره ، وقاوم لويس طوال اليوم ، وعادت جيوش المسلمين إلى المنصورة .
ثم حضر توران شاه إلى مصر ففرح به المسلمون ، وفكر لويس في التراجع عن القاهرة إلى دمياط غير أن المسلمين كانوا قد قطعوا على الصليبيين بسفن أعدها توران شاه ، واستولت تلك السفن على سفن الإمدادات الصليبية ومن كان فيها ، وانتصرت السفن الإسلامية عليها في ثلاث معارك .
وقرر لويس التراجع إلى دمياط وما إن وصلوا إل فارسكور حتى هاجمهم المسلمون ، ودارت معركة رهيبة وقع فيها الجيش الصليبي ما بين قتيل وأسير، حتى لويس نفسه سيق مكبلاً بالأغلال إلى المنصورة حيث سجن في دار ابن لقمان ، ووضع توران شاه من الشروط ما شاء لتسليم لويس وأسراه ، واتفق على أن تسلم له دمياط ، وأن تعقد هدنة مدتها عشر سنوات ، ووافق لويس التاسع .
وقبل أن تتم المعاهدة دبر المماليك البحرية وشجرة الدر لقتل توران شاه لسوء سيرته وظلمه فقتلوه ، واستولت شجرة الدر على الحكم ، ثم تزوجت عز الدين أيبك وصار هو السلطان على مصر ، وأخذ يحكم مصر والشام منذ ذلك الحين نظام حكم جديد يتولاه المماليك .
ونفذوا المعاهدة مع لويس التاسع بعد أن أضافوا ما يرون ، وتسلموا دمياط في 6 مايو سنة 1250م ، وغادرها لويس منسحباً عام 652هـ فوصل إلى عكا ، وحاول أن يصنع شيئاً للصليبيين في الشام فلم يستطع ؛ إذ حاول أن يتفق مع الأيوبيين في الشام ضد المماليك في مصر فلم يوفق .
وهكذا انتهت الحملة الصليبية السابعة دون أن تحقق شيئاً مما كانت تطمع فيه .
(11 ) : الحـمـلة الصليبـية الثامنة
دولة المماليك هي التي قضت على الوجود الصليبي في العالم الإسلامي القضاء الأخير بعد أن قضت على الوجود الأيوبي في مصر .
ثم لما جاءت جموع التتار الهادرة وأسقطت دول الإسـلام في المشـرق واستولوا على بلاد الشام لم يعد أمامهم سوى مصر واليمن ، وأرسل قطز سلطان مصر من المماليك جيشاً إلى غزة احتلها من المغول ، ثم التحم الجيشان في عين جالوت وانتصر المماليك ، وبهذا الانتصار استطاع المماليك بسهولة القضاء على الأيوبيين في الشام .
وبعد مقتل قطز وتولي الظاهر بيبرس مكانه كان من أبرز أعماله القضاء على الصليبيين في الشام ، فأعد لهم حملة كبيرة تحركت من غزة سنة 663هـ أخذت تستولي على حصون الصليبيين حصناً بعد حصن حتى وصل إلى أرسوف ، ثم جاء دور عكا فاستعصت عليه ولكنه فتح صفد وهونين وتبنين والرملة .
وفي سنة 665هـ اتجه بيبرس إلى أرمينية الصغرى وإمارة أنطاكية وطرابلس لعقابهم على تحالفهم مع المغول ضد المسلمين ، وكانت جيوشه تلك تحت قيادة قلاوون .
فاستطاعت جيوش بيبرس أن تستولي على حصون ( القليعات وحلباء وعرقه ) ، وهي أهم مراكز تحمي طرابلس .
كذلك استولت هذه الجيوش على المصيصة وأذنة وطرسوس وميناء إياس ، وهي أهم مراكز تحمي أرمينية . وقتلت أحد أبناء هيثوم ملك أرمينية وأسر ابنه الثاني ، أما الملك المنصور الأيوبي فقد اتجه إلى سيس عاصمة أرمينية واستولى عليها وأشعل فيها النار ، وعادت الجيوش إلى الشام وفي صحبتها أربعون ألف أسير وغنائم لا تحصى .
وحاول هيثوم أن يفتدي ابنه ولكن بيبرس أصر على أن يكون فداؤه دربساك التي تتحكم في طريق المواصلات بين أرمينية وأنطاكية ومرزبان ورعبان وشيح الحديد ، وكلها كانت في إقليم مرعش ، وتتحكم في الطريق بين الجزيرة حيث المغول حلفاء هيثوم وأرمينية الصغرى .
ثم اتجهت جيوش بيبرس إلى يافا فاستولت عليها ، وفي نفس العام 666هـ الذي استولت فيها على يافا استطاعت أن تستولي على أنطاكية بعد حرب خطط لها بيبرس وأدارها بمهارة تلفت الأنظار ، وبذلك سقطت ثاني إمارة أسسها الصليبيون في الشرق الإسلامي في أيدي المسلمين ، وكان نصراً عظيماً مؤزراً ، أبرز ما فيه من مكاسب للمسلمين أنه قطع الصلة بين الصليبيين في طرابلس وعكا بأرمينية من جانب ، وقضى على فكرة التحالف بين أرمينية وأنطاكية والمغول من جانب آخر .
وهكذا استطاع المماليك وقد جمعوا في أيديهم من جديد بين مصر والشام أن يجعلوا الوجود الصليبي في الشرق الإسلامي يعيش أيامه الأخيرة .
غير أن حملة صليبية جاءت بقيادة الملك لويس التاسع ملك فرنسا فأنقذت طرابلس من الوقوع بيد بيبرس الذي ترك طرابلس وأسرع إلى مصر خوفا ًمن أن تسير الحملة الصليبية إلى مصر ، غير أن الحملة الصليبية الثامنة قد اتجهت إلى تونس بناء على طلب أخي لويس التاسع الذي كان ملكاً لصقلية إذ كان يريد أن يغزو تونس ويقاتل حكامها من الحفصيين ، ولم يكن لويس التاسع ببعيد عن هذه الرغبة ، إلا أن الحملة ما كادت تصل إلى تونس حتى أصيب لويس التاسع بمرض الحمى ومات ، وانتهت الحملة .
(12 ) : الحـــمـلـة الصليبـية التاسعـة وما بعدها
بانتهاء الحملة الصليبية الثامنة بهلاك لويس التاسع اطمأن بيبرس ، وبعد أن كان يستعد لمواجهة الحملة ترك استعداده ، وانطلق ثانية إلى طرابلس عام 670هـ غير أن أميرها بوهمند قد طلب المسالمة والصلح فأجابه السلطان بيبرس إلى ذلك لأن حملة صليبية جديدة قد جاءت بقيادة الأمير إدوارد ونزلت في عكا ، وكان الصلح بين الظاهر بيبرس وأمير طرابلس الصليبي بوهمند لمدة عشر سنوات .
وغزا السلطان بيبرس قبرص التي كان ملكها هيو الثالث من ألد أعداء الإسلام وله أطماع صليبية ، واتخذ الصليبيون من بلاده قاعدة ينطلقون منها وإليها للوصول إلى بلاد الشام أثناء الإبحار ، لكن الأسطول الإسلامي قد تحطم عند شواطئ الجزيرة عام 669هـ بسبب عاصفة بحرية .
وحارب أرمينيا الصغرى وهي بأرض كيليكيا انتقل إليها الأرمن بعد انسياح السلاجقة في آسيا الصغرى إثر معركة ملاذكرت ، وأسسوا فيها دولة كانت دعامة للصليبيين طيلة أيامها ، وقفت تعادي الظاهر بيبرس وتدعم الصليبيين ، وتمنع تصدير الخشب والحديد إلى مصر ، واستطاع الانتصار عليها وأسر عدداً من قادتها منهم ابن أميرها هيثوم الأول ، وغدت هذه الدولة ضعيفة بعد ذلك .
ويلاحظ أن الدول التي تحالف معها بيبرس لم تدعم الصليبيين فأفاد هذا التحالف فعلاً ، إذ رأينا أن الدولة الرومانية الغربية هي عادة التي تدعم الصليبيين وتحرضهم قد وقفت على الحياد تقريباً على حين قاد الحملتين الصليبيتين الثامنة والتاسعة الفرنسيون والإنكليز ، إذ كانت الأولى منهما بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا ، على حين كانت الثانية بقيادة الأمير الإنكليزي إدوارد .
ولما حكم السلطان المنصور قلاوون فتح المرقب وماحو لها عام 684هـ وخافه أمير طرابلس الصليبي فهدم الحصون تقرباً بناء على رغبة السلطان .
وفي عام 688هـ سار السلطان المنصور قلاوون إلى دمشق ومنها إلى طرابلس فحاصرها وفتحها ، وكانت قد بقيت بأيدي الصليبيين منذ عام 503هـ .
وكان قلاوون قد عزم على فتح عكا ولكنه مات قبل ذلك ، فلما تولى ابنه الأشرف صلاح الدين خليل سار إليها من مصر ، ودعا الجند من دمشق وطرابلس وحماه ، فجاء المجاهدون وحاصروا عكا ، وتم فتحها يوم الجمعة السابع عشر من جمادى الأولى من عام 690هـ ، وفر الصليبيون عن طريق البحر ممن لم يقتل ، كما تسلم الأشرف صيدا وصور ، ثم أخذ نائبه على دمشق بيروت ، كما سلمت له جبيل وطرسوس ، ولم يبق للصليبيين في السواحل وبلاد الشام أي أثر .
وهاجم بلاد الروم بعدها ، وأرسل قوة إلىكسروان في جبيل لبنان لأن النصارى في هذه المنطقة كانوا دعماً للنصارى .
( 13 ) : الحــمـلات الصليبية الجديدة من قبرص
في عام 767 استولى الفرنجة ومعهم ملك قبرص على الإسكندرية ، وذلك أن الحروب الصليبية لم تنته بطرد الصليبيين من عكا عام 690 والانتهاء منهم من كل بلاد الشام أيام الأشرف صلاح الدين خليل بن المنصور.
لقد تم طردهم من جزيرة أرواد عام 702 أيام السلطان الناصر محمد بن قلاوون ، واستمرت الحروب الصليبية بعد ذلك لأن كثيراً من الصليبيين قد لجؤوا إلى جزيرة قبرص بعد طردهم من بلاد الشام ، واتخذوا هذه الجزيرة مستقراً لهم ، وأخذوا يقومون بالإغارة على بلاد المسلمين كلما وجدوا الفرصة سانحة لهم .
وكانت أسرة ( لوزجنان ) التي حكمت الجزيرة في تلك الآونة تقوم بهذه المهمة ، وقد تولى أمر هذه الأسرة وحكم الجزيرة عام 760 بطرس الأول ، وقد زار غربي أوروبا ، ودعا البابا لمساعدته للقيام بحرب ضد المسلمين ، فحصل على بعض التأييد ، وسار مع من جاءه من الصليبيين ووصل إلى شواطئ الإسكندرية عام 767 في يوم جمعة والمسلمون في المساجد ، فاستطاع أن يعيث في الإسكندرية فساداً ولكنه فر لما تحرك المماليك إليه ، وقد أخذ معه قرابة خمسة آلاف أسير ، وفرحت بذلك أوروبا وهنأ ملوكها بعضهم بعضاً ، كما هنأهم البابا.
وفي عام 827 أرسل الأشرف برسباي حملة استطلاعية إلى جزيرة قبرص ، وقد اتجهت إلى ميناء ( ليماسول ) كرد فعل على تلك الحملات التي قام بها ملوك تلك الجزيرة على الإسكندرية ودمياط في أثناء اشتداد حملات تيمورلنك على بلاد الشام ، فلما تصدعت دولة تيمورلنك بعد وفاته ، قام السلطان الأشرف برسباي بهذا الرد .
وفي العام التالي 828 أرسل حملة ثانية وكانت جهتها في هذه المرة مدينة ( فاما غوستا ) ، وقد أحرزت النصر ، ومكثت أربعة أيام ، ثم اتجهت إلى مدينة ( ليماسول ) ، وتمكنت من فتحها بعد جهد ، ثم رجعت الحملة إلى مصر .
وبعد عام خرجت حملة جديدة سارت نحو ( ليماسول ) ففتحها ، ثم اتجهت نحو الداخل فالتقت بجيش كبير يقوده ملك قبرص ( جانوس ) بنفسه فجرت معركة طاحنة بين الفريقين انتصر فيها المسلمون انتصاراً كبيراً ، وأسروا الملك ، وحملوه معهم ، وساروا نحو( نيقوسيا ) فصلوا الجمعة في كنيستها ، ثم رجعوا إلى مصر والملك معهم أسير ، وفي القاهرة فدى الملك نفسه ، ووافق على أن تكون قبرص تابعة لدولة المماليك ، وبقيت بعدها كذلك مدة بقاء الدولة المملوكية ، وبذا انتهى الأثر الصليبي نهائياً إذ بقي في قبرص بعد طرده من بلاد الشام .
( 14) : نهاية الحـروب الصليبية
في عام 767 استولى الفرنجة ومعهم ملك قبرص على الإسكندرية ، وذلك أن الحروب الصليبية لم تنته بطرد الصليبيين من عكا عام 690 والانتهاء منهم من كل بلاد الشام أيام الأشرف صلاح الدين خليل بن المنصور.
لقد تم طردهم من جزيرة أرواد عام 702 أيام السلطان الناصر محمد بن قلاوون ، واستمرت الحروب الصليبية بعد ذلك لأن كثيراً من الصليبيين قد لجؤوا إلى جزيرة قبرص بعد طردهم من بلاد الشام ، واتخذوا هذه الجزيرة مستقراً لهم ، وأخذوا يقومون بالإغارة على بلاد المسلمين كلما وجدوا الفرصة سانحة لهم .
وكانت أسرة ( لوزجنان ) التي حكمت الجزيرة في تلك الآونة تقوم بهذه المهمة ، وقد تولى أمر هذه الأسرة وحكم الجزيرة عام 760 بطرس الأول ، وقد زار غربي أوروبا ، ودعا البابا لمساعدته للقيام بحرب ضد المسلمين ، فحصل على بعض التأييد ، وسار مع من جاءه من الصليبيين ووصل إلى شواطئ الإسكندرية عام 767 في يوم جمعة والمسلمون في المساجد ، فاستطاع أن يعيث في الإسكندرية فساداً ولكنه فر لما تحرك المماليك إليه ، وقد أخذ معه قرابة خمسة آلاف أسير ، وفرحت بذلك أوروبا وهنأ ملوكها بعضهم بعضاً ، كما هنأهم البابا.
وفي عام 827 أرسل الأشرف برسباي حملة استطلاعية إلى جزيرة قبرص ، وقد اتجهت إلى ميناء ( ليماسول ) كرد فعل على تلك الحملات التي قام بها ملوك تلك الجزيرة على الإسكندرية ودمياط في أثناء اشتداد حملات تيمورلنك على بلاد الشام ، فلما تصدعت دولة تيمورلنك بعد وفاته ، قام السلطان الأشرف برسباي بهذا الرد .
وفي العام التالي 828 أرسل حملة ثانية وكانت جهتها في هذه المرة مدينة ( فاما غوستا ) ، وقد أحرزت النصر ، ومكثت أربعة أيام ، ثم اتجهت إلى مدينة ( ليماسول ) ، وتمكنت من فتحها بعد جهد ، ثم رجعت الحملة إلى مصر .
وبعد عام خرجت حملة جديدة سارت نحو ( ليماسول ) ففتحها ، ثم اتجهت نحو الداخل فالتقت بجيش كبير يقوده ملك قبرص ( جانوس ) بنفسه فجرت معركة طاحنة بين الفريقين انتصر فيها المسلمون انتصاراً كبيراً ، وأسروا الملك ، وحملوه معهم ، وساروا نحو( نيقوسيا ) فصلوا الجمعة في كنيستها ، ثم رجعوا إلى مصر والملك معهم أسير ، وفي القاهرة فدى الملك نفسه ، ووافق على أن تكون قبرص تابعة لدولة المماليك ، وبقيت بعدها كذلك مدة بقاء الدولة المملوكية ، وبذا انتهى الأثر الصليبي نهائياً إذ بقي في قبرص بعد طرده من بلاد الشام .
(15 ) : نتائج الحـروب الصليبـية في العـالـم الإسلامي
أولاً : في الجانب الاجتماعي والاقتصادي :
– شيوع روح العجز والفشل :
وذلك بسبب الهزائم التي حصلت للمسلمين في بدايات هذه الحروب ، حتى اقتنع بعض المسلمين بعدم إمكانية الانتصار ، واتجه بعضهم إلى اعتبار جهاد الصليبيين بالقلم واللسان قد يغني عن جهادهم بالسيف والسنان .
– ترك الجهاد كلية :
فشغل كثير من المسلمين أنفسهم بالعبادة من صلاة وصيام واعتكاف وذكر وتسبيح ، واتخذ ذلك صوراً عدة ، فمنهم من يهاجر إلى مكة والمدينة ليجاور أحد الحرمين .
ومن ذلك الدعوة إلى الزهد في الدنيا واحتقار ما فيها ، والعيش منها على الكفاف ، فمدحوا الجوع والعري والفقر، مما أصاب الناس بالكسل والتراخي ، فكان ذلك من أسباب تفوق أعدائهم عليهم .
ومنهم من اشتغل عن الجهاد بتأليف الكتب والرسائل والمقالات في يوم القيامة والدجال وظهور عيسى عليه السلام والجنة و ما فيها من النعيم والحور العين .
كما لجأ عدد من الشعراء إلى القصائد النبوية يمدحون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو يستشفعون به ، أو يطلبون منه النصر على الأعداء ، وبعض هذا غير جائز شرعاً .
– استحداث مدن لم يكن لها وجود ملحوظ :
مثل مدينة قوص وثغر عيذاب على البحر الأحمر ، وذلك أن الصليبيين قد استولوا على فلسطين وثغورها فأصبح الطريق للحج لأهل الأندلس وشمال أفريقية غير مأمون ، فاتجه الحجاج إلى مصر ، ثم يسلكون طريق النيل إلى جنوبي القاهرة حيث مدينة قوص ، ومنها إلى ثغر عيذاب ، ثم يركبون البحر إلى البلاد المقدسة .
وترتب على ذلك أن عظم شان قوص وكثرت بها المدارس والمعاهد والمساجد ، وقصدها العلماء ، وبزغ منها علماء في الحديث والفقه والنحو ، وكثر بها الأدباء والشعراء ، و كذلك عيذاب .
ثانياً : في الجانب الاقتصادي :
– في الجانب الإيجابي : ترويج التجارة :
ونقل حاصلات الشرق ومنتجاته إلى أوروبا ، عن طريق جنوا والبندقية وبيزا ، وغيرها من الموانئ الأوروبية التي اشترطت للدخول في الحرب حصولها على امتيازات تجارية في ممالك الصليب بالشام .
وأصبحت مثل عكا وصيدا وصور واللاذقية مراكز تجارية هامة حملت حاصلات الشرق لأوروبا من مثل المنسوجات القطنية والحريرية والأواني الزجاجية واللآلئ والأحجار الكريمة والعاج والأخشاب والعقاقير والتوابل التي كانت ترد للشرق الإسلامي من الشرق الأقصى .
كل ذلك كان يأخذه الغربيون عن طريق العراق حيناً والشام حيناً لتستقر في الثغور التي احتلها الصليبيون في الشام ، ومنها تعبر البحر إلى أوروبا . كما استفادوا كذلك من بعض الثغور المصرية التي احتلوها كدمياط والإسكندرية .
ولا شك أن هذه الاستفادة التجارية لم تكن موضع رضا المخلصين ، بسبب أنها تجارة بين صاحب الأرض والمحتل الغاصب ، كما أن استمرار الجهاد ضد المحتلين لم يعط الفرص الكافية لاستقرار التجارة .
– الجانب السلبي : الخسائر في الأرواح والممتلكات والأموال :
وربما أدت الحروب الصليبية إلى دمار كامل لبعض المدن والثغور ، وهذا يحدث كساداً تجارياً وخللاً اقتصادياً .
وصاحب الحروب تعطيل لكثير من الصناعـات ، وتضييع لكثير من الحاصلات الزراعية ، واختلال الأمن ، وإشاعة للسلب والنهب ، أدى ولا شك إلى ارتفاع الأسعار لدرجة أعجزت الناس عن الحصول على ضرورياتهم .
ثانياً : في الجانب السياسي :
وتجلى هذا الأثر في مجالين هما :
– اتحاد المسلمين وجمع كلمتهم تحت قيادات مخلصة .
– إضعاف الدولة الرومانية الشرقية – بيزنطة – مما أدى إلى الاستيلاء عليها نهائياً ، بعد انتهاء الحروب الصليبية بزمن غير بعيد .
أما وحدة المسلمين في مواجهة الصليبيين فقد كانت الدولة العباسية عند بدء الحروب الصليبية ضعيفة مفككة الأوصال على شكل ولايات متعادية يطمع رئيس كل ولاية أن يوسع ولايته على حساب ولاية جيرانه . وكانت الدولة الفاطمية في أضعف قواها وظروفها ، وهذا قد أدى لظهور شخصيات لمعت في جمع شمل المسلمين وتوحيد صفوفهم ضد الصليبيين ، وأشهرهم عماد الدين زنكي ، وابنه نور الدين محمود ، وصلاح الدين الأيوبي الذي دانت له مصر والشام واليمن واسترجع المسجد الأقصى من أيدي الصليبيين .
أما إضعاف الدولة البيزنطية فقد كانت هذه الدولة سداً منيعاً في وجه الفتوح الإسلامية والتي منعت امتداد الإسلام إلى أوروبا ، فلما استغاثت الدولة البيزنطية بأوروبا ضد السلاجقة المسلمين قامت الحملات الصليبية بتقوية الدولة البيزنطية في البداية ولكن أطماع الأوروبيين امتدت نحو هذه الدولة فحرصوا على الاستيلاء على البلدان التي تقع تحت أيديهم من المسلمين وإن كانت في الأصل للدولة البيزنطية ، مما تحول إلى صراع بين قادة الصليبيين في الشرق الإسلامي وأباطرة الدولة البيزنطية ، حتى حول الصليبيون الأوروبيون الدولة البيزنطية إلى دولة لاتينية إقطاعية ، ثم استعادت بعض نفوذها من الأوروبيين لكن العثمانيين جاؤوها وقد ضعفت وتضعضعت فأزالوها .
ثالثاً : إذكاء العواطف الدينية :
إذ ثاب المسلمون إلى رشدهم ، وعادوا إلى مصدر عزهم وانتصارهم ، واستيقظت في نفوسهم حمية الإسلام ، وعاشت في قلوبهم آيات الجهاد وأحاديثه ، ورفعوا علم الجهاد في سبيل الله تعالى ، وظهر القادة المجاهدون المخلصون وتبعتهم الأمة ونصرتهم .
وكره المسلمون النصارى الذين كانوا يقيمون معهم في البلدان الإسلامية ، وكذلك اليهود الذين وقفوا إلى جوار الصليبيين ضد المسلمين ، فعاملهم المسلمون بالتضييق والشجب وعدم الثقة وسحبت منهم بعض الأعمال والمناصب التي كانوا يتولونها من قبل ، وظهرت كتب ومؤلفات في الرد على أهل الكتاب وتبيين التحريف في أديانهم مثل كتاب : هداية الحيارى من اليهود والنصارى لابن القيم ، وكتاب : الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية ، وكتب في ذكر مثالب الصليبيين ومفاسدهم ، وكتب في الثناء على الحكام المسلمين الذين قاتلوهم .
رابعاً : في التأثر ببعض العادات :
وهي مبدأ توريث الإقطاع بأن يقطع كل أمير وقائد جند في جيشه قطعة كبيرة من الأرض بحيث يتكفل بإدارة الإقطاع والإشراف عليه مالياً وإدارياً وعسكرياً ، ويؤدي من دخله ما عليه من مال للسلطان ، وأعظم سيئات هذا العمل ظهور نظام الطبقية في المجتمع وما يتبعه من مشاعر سيئة لدى الفقراء ، وظهور منافقي السلاطين ليعيشوا من أموالهم .
وكذلك رباطات الصوفيين و تكاياهم ، التي تشبه أديرة النصارى في بلدانهم ، فقد احترف بعض المسلمين الانقطاع للعبادة والقعود في رباطات بناها لهم السلاطين ، إيثاراً للعافية والدعة على حرب الصليبيين ، وأشاع الصوفيون بهذا روح التواكل حتى ترك كثير من الناس الجهاد مما جعل بعض الحكام يأتي بالجنود من أماكن بعيدة .
وأخيراً انتشار الرقيق والاتجار فيه ، فقد توسع أثرياء المسلمين في اقتناء العبيد والجواري والغلمان لتمام الزينة والرونق ، وجر هذا على المسلمين فساداً أخلاقياً عظيماً وتسربت معه عادات لا يقرها الإسلام في التحية والملابس ، وظهرت أماكن أعدت للهو والغناء وشرب الخمر وغير ذلك .
( 17) : نتائج الحـروب الصليبـية عـلى الدول الأوروبية (1)
كما كان للحروب الصليبية آثار على العالم الإسلامي فقد كان لها أبلغ الأثر كذلك على الدول الأوروبية ، ويظهر هذا الأثر في الجوانب التالية:
أولاً : في الاجتماع والسياسة :
1- إضعاف نظام الإقطاع :
وهو يعتمد على قاعدة عريضة من العبيد الذين كانوا يقومون بفلاحة الأرض وخدمتها لصالح سادتهم من الأمراء والفرسان والنبلاء ، وكانوا يعاملون معاملة آلات الحرث والسقي التي تلزم الأرض ولا تقوم حياتها إلا بها ، وليست لهم حقوق على أسيادهم إلا الطعام الضروري واللباس والمأوى على أحط المستويات وأدناها ، ويكون أبناؤهم كذلك عبيداً لأسياد آبائهم ، وليس لأحد منهم الحق في الخروج عن إرادة سيده قط .
وقد كان هذا النظام يفتت المجتمع الأوروبي من داخله ويولد العداوة والبغضاء في نفوس العبيد تجاه السادة ، كما كان يولد تنافساً بغيضاً بين أصحاب الإقطاع يؤدي للتنازع والتعادي .
وكانت الحروب الصليبية فرصة للعبيد للهروب من عناء الإقطاع ، ولم يكن السادة قادرين على منعهم من المشاركة في تلك الحروب لأن الكنيسة باركتها ومن يشارك فيها ، ولقد أدى ذلك إلى أن يبحث أصحاب الإقطاع عن عمال من الأحرار الذين يأخذون على عملهم أجراً ويشترطون حقوقاً ولا يعملون مسخرين مقهورين ، وأدى ذلك إلى تصدع نظام الإقطاع وانقراضه فيما بعد .
2- تقوية السلطة المركزية لملوك أوروبا :
فقد كان الإقطاع في أوروبا من أهم أسباب إضعاف السلطة المركزية لملوك أوروبا ، حيث كان يستعصي عليهم إخضاع كبار الإقطاعيين أو السيطرة عليهم ؛ لأن هؤلاء الإقطاعيين يعتدون بقوتهم وثروتهم وعبيدهم ولا يرون للملوك سلطاناً عليهم ، فكانت بعض ممالك أوروبا من داخلها ممالك متعددة بتعدد أصحاب الإقطاع .
فلما جاءت الحروب الصليبية وضعف نظام الإقطاع وشارك بعض كبار الإقطاعيين فيها وهلك بعضهم في تلك الحروب _ عادت السلطة المركزية في بعض ممالك أوروبا وأصبح بعض ملوكها في مكانة قوية .
3- إحداث تغييرات اجتماعية وسياسية في أوروبا :
وذلك بسبب ضعف نظام الإقطاع ، ومن تلك التغيرات تقارب الفوارق بين طبقات المجتمع ، وظهور الطبقة الوسطى من العمال الأحرار غير العبيد ، وظهور القوميات المتعددة في أوروبا بعد أن كان الإقطاع هو الذي يوحد بين الناس في ظل السيد فلما ضعف الإقطاع آوى الناس إلى ظل قومياتهم .
4- ظهور جماعات دينية تحترف الحرب :
كفرسان المعبد ( الداوية ) هي هيئة عسكرية دينية تابعة للكنيسة . والاسبتارية وهي هيئة عسكرية دينية تابعة لمستشفى القديس يوحنا المقدسي . وفرسان تيوتون وهي هيئة عسكرية ألمانية دينية .
وجميع هذه الجماعات تأسست بسبب الحروب الصليبية ، وجميعها كذلك شارك في هذه الحروب ضد المسلمين في أماكن متعددة وعلى مدى زمن غير قصير .
5- دعم مركز البابا وتقوية نفوذه :
وأصبح ملوك أوروبا الذين كانوا كثيرا ًما يتمردون على سلطان البابا خاضعين لنفوذه ، إذ يقود حرباً مقدسة يمنح المشترك فيها حق غفران الذنوب بينما يصدر قرار الحرمان ضد كل من يتقاعس عن الاشتراك فيها ، كما قويت تبعاً لذلك مراكز بعض ملوك أوروبا الذين أسرعوا بالاستجابة لدعوة البابا بالمشاركة في هذه الحروب .
ثانياً : في الاقتصاد :
1- انخفاض أثمان الأراضي والعقارات :
إذ لما اشتد الإقبال على النقود لإعداد المقاتلين والمؤونة والأسلحة فضلاً عن الإعداد للمعركة ، رغب حينئذ كثير من الناس في بيع ممتلكاتهم ومزارعهم للحصول على المال فأدى ذلك لانخفاض أثمانها .
وهنا برز اليهود فقدموا قروضاً بربا فاحش فعاش الأوروبيون في القلق والاضطراب والضيق ، فاستاؤوا من مسلك اليهود ، فحقدوا عليهم ، وعندما حانت لهم الفرصة اضطهدوا الكثيرين منهم .
2- فرض ضرائب جديدة من أجل الحروب الصليبية :
من قبل بعض الملوك كما فعل لويس التاسع لتجهيز الحملة الصليبية ، وكذلك فعل فيليب أوغسطس وريتشارد قلب الأسد .
3- انتعاش بعض المدن الأوروبية اقتصادياً :
حيث أصبح النشاط التجاري يحتل مكان النشاط الزراعي ، وأصبحت بعض المدن مراكز اقتصادية مثل : جنوا والبندقية وبيزا ومرسيليا وبرشلونة .
وأدى ذلك إلى اتساع المصارف واتساع نطاق عملها ، كما أدى إلى تحسين طرق التجارة وإنشاء بعضها ، وإنشاء طرق ملاحية ذات خطوط منتظمة .
ثالثاً : في النهضة العلمية والحضارية :
إن الحروب الصليبية عرّفت دول غرب أوروبا على الحضارة الإسلامية بشكل أعمق وأعرض ، وتركت في حضارة أوروبا في عصر النهضة سمات ودلائل تشير إلى التأثر بالحضارة الإسلامية والنقل عنها .
ففي الوقت الذي كانت الكنيسة تحرم صناعة الطب لاعتقادها أن المرض عقاب إلهي لا ينبغي للإنسان أن يصرفه عمن يستحقه ، في هذا الوقت كان المسلمون يمارسون الطب منذ زمن مبكر عن ذلك ، فقد توسع المسلمون فيه وترجموا موسوعات فارسية ويونانية وهندية في الطب إلى اللغة العربية ، وألفوا موسوعات لم يوضع لها نظير في الضخامة والتمحيص ، وكانت بعض أمهات هذه الكتب تدرس في جامعات أوروبا لمدى زمني طويل .
أما سائر العلوم كالرياضيات والفلك وعلوم الطبيعة كالكيمياء والنبات والحيوان والمعادن والصيدلة ، فقد تفوق فيها المسلمون قبل عصر النهضة بوقت كبير ، فأخذوا يترجمون الذخائر العلمية وينقلون إلى العربية علوم الإغريق والرومان والفرس والهنود ، وأقيمت دور الكتب والمكتبات ، وفتح الخلفاء والأمراء قصورهم للعلم والعلماء وتنافسوا في رعاية العلم وأهله ، وأضاف العلماء كثيرا ًمن الآراء والنظريات التي نسبت لغيرهم .
وبرزت أسماء كبيرة مثل : ابن مسكويه ، والخازن ، وابن خلدون ، وابن النفيس ، وابن الهيثم ، والبتاني ، والفرغاني ، والكندي ، والخوارزمي ، والبيروني ، والغافقي ، والقزويني ، وجابر بن حيان ، وابن البيطار ، وداود الأنطاكي … وظلت مؤلفات هؤلاء العلماء المراجع المعتمدة في جامعات أوروبا حتى القرن التاسع عشر ، واعترف عدد كبير من مؤرخي العالم بفضلهم على العالم والإنسانية حتى قال قائلهم : إنه لولا أعمال العرب لاضطر علماء النهضة الأوروبية أن يبدءوا من حيث بدأ هؤلاء ، ولتأخر سير المدنية عدة قرون . وحتى قال آخر : إن كثيراً من الآراء والنظريات العلمية حسبناها من صنعنا ،فإذا العرب سبقونا إليها .
وكانت جهود المسلمين في الجغرافية ذات أثر واضح في النهضة الأوروبية ، وبخاصة الجغرافية الوصفية والفلكية ، وكانت كتابات المسلمين وأبحاثهم وآراؤهم نبراساً اهتدى به علماء الغرب ، فلقد ظهر بين المسلمين علماء أفذاذ أضافوا إلى العلم أحسن التحقيقات عن طريق الأرصاد الفلكية ، ومشاهد الرحلات وتمحيص الروايات والمقارنة بينها لتبين السليم من الزائف .
وقد استمر الرحالة الأوربيون يعتمدون إلى حد كبيرعلى المصادر الإسلامية في ارتياد ما كان مجهولا ًلديهم من أرجاء الأرض ، يقول جوستاف لوبون : فالعرب هم الذين انتهوا إلى معارف فلكية مضبوطة من الناحية العلمية عدت أول أساس للخرائط ، فصححوا أغاليط اليونان العظيمة في المواضع ، والعرب من ناحية الريادة هم الذين نشروا رحلات عن بقاع العالم التي كان يشك الأوربيون في وجودها فضلاً عن عدم وصولهم إليها.
ومن أبرز آثار الحروب الصليبية في أوروبا أن أخذت بعض مدن أوروبا تنشئ مدارس لتعليم اللغة العربية ، إذ أدركوا أن تعلم اللغة العربية أمر ضروري للوصول لأهدافهم الدينية والاقتصادية ، وكان هذا سبباً في إهمال اللغة اللاتينية والإغريقية إلى حد كبير وإحياء اللغات الشعبية ، وصنفت كذلك المعاجم العربية الأوروبية لمعاونة المترجمين والمتعلمين .
رابعاً : في إثارة المطامع في العالم الإسلامي :
لقد كان الهدف في الحروب الأولى دينياً في الغالب ، أما محاولة العودة للعالم الإسلامي مرة ثانية فقد سيطر عليها طمع مادي في بلدان العالم الإسلامي.
ولقد شجع الأوروبيين على العودة لاحتلال الشرق الإسلامي بعد انتهاء الحروب الصليبية جهات متعددة :
أولها : الكنيسة التي كانت تحلم أن تكون من أجل ذلك جيشاً أوروبياً ضخماً يعيد للكنيسة هيبتها،ويعطيها السلطة التي كانت لها على ملوك أوروبا أثناء الحملات الصليبية،ثم أضافت هدفاً آخر وهو العمل على دعوة المسلمين للدخول في النصرانية .
ثانيها: رجال المال والاقتصاد الذين بهرهم الشرق بمصنوعاته وخاماته .
ثالثها :ملوك أوروبا الراغبين في أن يحصلوا لتجارة ممالكهم وتجارها على أسواق رائجة وموانئ إسلامية حافلة ، عن طريق سيطرة السادة الغزاة لا المتحالفين المتعاهدين .
وقامت هذه الجهات بالتخطيط للعودة للشرق الإسلامي ، فكان من أبرز أعمالهم في هذا السبيل :
• الاهتمام باللغة العربية : ليسهل أمامهم التفاهم والتعرف الدقيق على هذا العالم الإسلامي تاريخه وعاداته وتراثه .
أما الكنيسة فليسهل على رجالها نشر النصرانية بين المسلمين ، والتجار ليسهل عليهم التعامل ، والملوك ليقوم بينهم وبين بلدان العالم الإسلامي سفراء يعرفون العربية .
فتم تصنيف معاجم عربية أوروبية تعين المتعلمين للعربية ، فصنف المعجم العربي القشتالي سنة 1505 م ، وكتاب ( وصف أفريقية ) للحسن بن الوزان المشهور بليون الأفريقي ، ونشر جيوم بوستل المستعرب الفرنسي كتاب ( جمهورية الترك ) الذي يعد نواة صالحة اعتمدت عليها أغلب الدراسات العربية واتخذها المستشرقون مصادر أساسية لما قاموا به من دراسات عن الإسلام والعرب .
• ترجمة القرآن الكريم إلى عدد من اللغات الأوروبية : لتيسير عمل من يقومون بهذه الدعوة أو الدعاية .
• ترجمة الإنجيل إلى اللغة العربية ، ليستعين به الداعون إلى النصرانية من جانب ، وليكون في متناول المسلمين لقراءته والاطلاع عليه من جانب آخر .
• الاستشراق : وهو دراسة تراث الشرق وتاريخه وعاداته وتقاليده ، وقد بدأت طلائع المستشرقين تعنى بهذه الدراسات منذ القرن العاشر الميلادي إلى يومنا هذا ، وكان هدفه التمهيد لغزو أرض المسلمين .
• إنشاء مكتبات شرقية في أوروبا : مثل مكتبة باريس الوطنية سنة 1654 م ، وفيها حوالي سبعة آلاف مخطوط عربي ، ومكتبة جامعة ستراسبورج ، ومكتبة المدرسة الوطنية للغات الشرقي الحية ..
• إنشاء المطابع الشرقية : كمطبعة إيطاليا ، ومطبعة فرنسا .
• إنشاء المجلات الشرقية : التي كان للمستشرقين الفرنسيين فيها جهود معروفة ، مثل صحيفة العلماء ، ومجلة الجمعية الملكية الآسيوية ، والمجلة الإفريقية ، والمجلة التاريخية ، ومجلة تاريخ الأديان وغيرها ، وبعض هذه المجلات ما زال يصدر إلى هذا اليوم .
ولقد تولد عن هذه الأعمال احتلال ثان لكثير من بلدان المسلمين غداة تحالفت دول أوروبا الغربية والشرقية على دولة الخلافة العثمانية حتى قضت عليها وورثت أملاكها وراثة غير شرعية .
الغزو الصليبي والعالم الإسلامي ، لعلي عبدالحليم ، ص 265
ثالثاً : في النهضة العلمية والحضارية :
إن الحروب الصليبية عرّفت دول غرب أوروبا على الحضارة الإسلامية بشكل أعمق وأعرض ، وتركت في حضارة أوروبا في عصر النهضة سمات ودلائل تشير إلى التأثر بالحضارة الإسلامية والنقل عنها .
ففي الوقت الذي كانت الكنيسة تحرم صناعة الطب لاعتقادها أن المرض عقاب إلهي لا ينبغي للإنسان أن يصرفه عمن يستحقه ، في هذا الوقت كان المسلمون يمارسون الطب منذ زمن مبكر عن ذلك ، فقد توسع المسلمون فيه وترجموا موسوعات فارسية ويونانية وهندية في الطب إلى اللغة العربية ، وألفوا موسوعات لم يوضع لها نظير في الضخامة والتمحيص ، وكانت بعض أمهات هذه الكتب تدرس في جامعات أوروبا لمدى زمني طويل .
أما سائر العلوم كالرياضيات والفلك وعلوم الطبيعة كالكيمياء والنبات والحيوان والمعادن والصيدلة ، فقد تفوق فيها المسلمون قبل عصر النهضة بوقت كبير ، فأخذوا يترجمون الذخائر العلمية وينقلون إلى العربية علوم الإغريق والرومان والفرس والهنود ، وأقيمت دور الكتب والمكتبات ، وفتح الخلفاء والأمراء قصورهم للعلم والعلماء وتنافسوا في رعاية العلم وأهله ، وأضاف العلماء كثيرا ًمن الآراء والنظريات التي نسبت لغيرهم .
وبرزت أسماء كبيرة مثل : ابن مسكويه ، والخازن ، وابن خلدون ، وابن النفيس ، وابن الهيثم ، والبتاني ، والفرغاني ، والكندي ، والخوارزمي ، والبيروني ، والغافقي ، والقزويني ، وجابر بن حيان ، وابن البيطار ، وداود الأنطاكي … وظلت مؤلفات هؤلاء العلماء المراجع المعتمدة في جامعات أوروبا حتى القرن التاسع عشر ، واعترف عدد كبير من مؤرخي العالم بفضلهم على العالم والإنسانية حتى قال قائلهم : إنه لولا أعمال العرب لاضطر علماء النهضة الأوروبية أن يبدءوا من حيث بدأ هؤلاء ، ولتأخر سير المدنية عدة قرون . وحتى قال آخر : إن كثيراً من الآراء والنظريات العلمية حسبناها من صنعنا ،فإذا العرب سبقونا إليها .
وكانت جهود المسلمين في الجغرافية ذات أثر واضح في النهضة الأوروبية ، وبخاصة الجغرافية الوصفية والفلكية ، وكانت كتابات المسلمين وأبحاثهم وآراؤهم نبراساً اهتدى به علماء الغرب ، فلقد ظهر بين المسلمين علماء أفذاذ أضافوا إلى العلم أحسن التحقيقات عن طريق الأرصاد الفلكية ، ومشاهد الرحلات وتمحيص الروايات والمقارنة بينها لتبين السليم من الزائف .
وقد استمر الرحالة الأوربيون يعتمدون إلى حد كبيرعلى المصادر الإسلامية في ارتياد ما كان مجهولا ًلديهم من أرجاء الأرض ، يقول جوستاف لوبون : فالعرب هم الذين انتهوا إلى معارف فلكية مضبوطة من الناحية العلمية عدت أول أساس للخرائط ، فصححوا أغاليط اليونان العظيمة في المواضع ، والعرب من ناحية الريادة هم الذين نشروا رحلات عن بقاع العالم التي كان يشك الأوربيون في وجودها فضلاً عن عدم وصولهم إليها.
ومن أبرز آثار الحروب الصليبية في أوروبا أن أخذت بعض مدن أوروبا تنشئ مدارس لتعليم اللغة العربية ، إذ أدركوا أن تعلم اللغة العربية أمر ضروري للوصول لأهدافهم الدينية والاقتصادية ، وكان هذا سبباً في إهمال اللغة اللاتينية والإغريقية إلى حد كبير وإحياء اللغات الشعبية ، وصنفت كذلك المعاجم العربية الأوروبية لمعاونة المترجمين والمتعلمين .
رابعاً : في إثارة المطامع في العالم الإسلامي :
لقد كان الهدف في الحروب الأولى دينياً في الغالب ، أما محاولة العودة للعالم الإسلامي مرة ثانية فقد سيطر عليها طمع مادي في بلدان العالم الإسلامي.
ولقد شجع الأوروبيين على العودة لاحتلال الشرق الإسلامي بعد انتهاء الحروب الصليبية جهات متعددة :
أولها : الكنيسة التي كانت تحلم أن تكون من أجل ذلك جيشاً أوروبياً ضخماً يعيد للكنيسة هيبتها،ويعطيها السلطة التي كانت لها على ملوك أوروبا أثناء الحملات الصليبية،ثم أضافت هدفاً آخر وهو العمل على دعوة المسلمين للدخول في النصرانية .
ثانيها: رجال المال والاقتصاد الذين بهرهم الشرق بمصنوعاته وخاماته .
ثالثها :ملوك أوروبا الراغبين في أن يحصلوا لتجارة ممالكهم وتجارها على أسواق رائجة وموانئ إسلامية حافلة ، عن طريق سيطرة السادة الغزاة لا المتحالفين المتعاهدين .
وقامت هذه الجهات بالتخطيط للعودة للشرق الإسلامي ، فكان من أبرز أعمالهم في هذا السبيل :
• الاهتمام باللغة العربية : ليسهل أمامهم التفاهم والتعرف الدقيق على هذا العالم الإسلامي تاريخه وعاداته وتراثه .
أما الكنيسة فليسهل على رجالها نشر النصرانية بين المسلمين ، والتجار ليسهل عليهم التعامل ، والملوك ليقوم بينهم وبين بلدان العالم الإسلامي سفراء يعرفون العربية .
فتم تصنيف معاجم عربية أوروبية تعين المتعلمين للعربية ، فصنف المعجم العربي القشتالي سنة 1505 م ، وكتاب ( وصف أفريقية ) للحسن بن الوزان المشهور بليون الأفريقي ، ونشر جيوم بوستل المستعرب الفرنسي كتاب ( جمهورية الترك ) الذي يعد نواة صالحة اعتمدت عليها أغلب الدراسات العربية واتخذها المستشرقون مصادر أساسية لما قاموا به من دراسات عن الإسلام والعرب .
• ترجمة القرآن الكريم إلى عدد من اللغات الأوروبية : لتيسير عمل من يقومون بهذه الدعوة أو الدعاية .
• ترجمة الإنجيل إلى اللغة العربية ، ليستعين به الداعون إلى النصرانية من جانب ، وليكون في متناول المسلمين لقراءته والاطلاع عليه من جانب آخر .
• الاستشراق : وهو دراسة تراث الشرق وتاريخه وعاداته وتقاليده ، وقد بدأت طلائع المستشرقين تعنى بهذه الدراسات منذ القرن العاشر الميلادي إلى يومنا هذا ، وكان هدفه التمهيد لغزو أرض المسلمين .
• إنشاء مكتبات شرقية في أوروبا : مثل مكتبة باريس الوطنية سنة 1654 م ، وفيها حوالي سبعة آلاف مخطوط عربي ، ومكتبة جامعة ستراسبورج ، ومكتبة المدرسة الوطنية للغات الشرقي الحية ..
• إنشاء المطابع الشرقية : كمطبعة إيطاليا ، ومطبعة فرنسا .
• إنشاء المجلات الشرقية : التي كان للمستشرقين الفرنسيين فيها جهود معروفة ، مثل صحيفة العلماء ، ومجلة الجمعية الملكية الآسيوية ، والمجلة الإفريقية ، والمجلة التاريخية ، ومجلة تاريخ الأديان وغيرها ، وبعض هذه المجلات ما زال يصدر إلى هذا اليوم .
ولقد تولد عن هذه الأعمال احتلال ثان لكثير من بلدان المسلمين غداة تحالفت دول أوروبا الغربية والشرقية على دولة الخلافة العثمانية حتى قضت عليها وورثت أملاكها وراثة غير شرعية .
والسموووحه منكم