الحركة السنوسية
أولاً: اسمه ونسبه
هو الإمام المجتهد الولي الصالح الداعية الأستاذ سيدي محمد بن علي بن السنوسي بن العربي بن محمد بن عبد القادر بن شهيدة بن حم بن القطب الشهير السيد يوسف بن القطب السيد عبد الله بن خطاب بن علي بن يحيى بن راشد بن أحمد المرابط بن منداس بن عبد القوي بن عبد الرحمن بن يوسف بن زيّان بن زين العابدين بن يوسف بن حسن بن إدريس بن سعيد بن يعقوب بن داود بن حمزة بن علي بن عمران بن إدريس الأصغر بن إدريس الأكبر بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن سيدنا علي بن أبي طالب وسيدتنا فاطمة الزهراء بنت إمام المرسلين مولانا وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم [1].
فالإمام السنوسي ينتمي إلى السلالة الطاهرة والنسب الطيب الشريف ، وهذا مما يوجب زيادة المحبة وزيادة الاتباع ، لما ورد في كتاب الله تعالى: (( قل لا أسئلكم عليه أجراً إلا المودة في القربى )) .
والناظر في التاريخ الإسلامي يجد أن كثيراً من الدعوات ، سواء الحقة والباطلة أول ما تبدأ تبدأ بالدعوة إلى مذهب العترة الطاهرة ، وذلك لأن المسلمين يكنون كل الحب والولاء لأهل بيت نبيهم عليه الصلاة والسلام إذا كانوا على المحجة البيضاء .
ويذهب بعض الباحثين إلى أن من عوامل حركة السيد السنوسي هو نسبه الطاهر ، حيث إن المنتسبين لآل بيت الرسول الكريم صلوات الله عليه وسلامه يشعرون – غالباً – بثقل الأمانة ووجوبها عليهم .
بالجوهر المضيء من ضوء سما
أجلت ظلاماً كان قبل قد طما
شمس علاه بهرت شمس السما
روضاً نظيراً نامياً منمنا[2]
سلسلة من عسجد قد نظمت
فانبعثت شعشعة من نورها
وابتهجب بابن السنوسي الذي
فانظر هنا منثور در تنظرن
ثانياً: مولده ووفاته
لم تختلف المصادر التي تحدثت عن الحركة السنوسية في يوم مولد الإمام السنوسي ، ذلك أنه كان من الموافقات الربانية أن يولد الإمام السنوسي في يوم ذكرى مولد النبي الأعظم صلى الله عليه وعلى آله وسلم من سنة 1202 هـ ، الموافق لـ 22/ 12/ 1798 م ، في بلدة تسمى (مستغانم) من بلاد الجزائر .
ولذلك تبرك أهله بهذا اليوم فسموه محمداً .
وتشير المصادر أنه قد نشأ يتيماً ، فقد توفي والده وهو صغير فنشأ في حجر عمته وكانت من الصالحات ، فأشغلته بعلم العقائد والتوحيد صغراً بعد أن جمع القرآن الكريم [3].
وفي قراءته على شيوخ بلده لاحظ عليه شيوخه إتقان ما درس عليهم ، حتى قال له أحدهم: إن هذا القدر الذي معك من أصول علم الدين على صغر سنك لا يوجد عند أكابر علماء بلدك[4] .
وتجمع المصادر على أن الإمام السنوسي توفي في التاسع من صفر الخير سنة ست وسبعين ومائتين وألف 1276 هـ بمدينة الجغبوب بليبيا ، طيب الله ثراه وأعلى منزلته .
وهذا يعني أنه عاش 74 سنة ، تكللها العمل الدؤوب والحركة المستمرة ، لم توان خلالها ولم يتوقف .
ثالثاً: شيوخه ورحلاته
وفي تاريخ الإمام السنوسي نجد أنه قد سار في طلب العلم ورحل ، وذلك شأن علماء هذه الأمة .
فقد رحل أول طلبه العلم إلى فاس التي كانت تمثل كعبة العلم في بلاد المغرب ، وذلك لوجود جامع القرويين بها الذي كان منارة المغرب ، كما كان الجامع الأزهر في مصر .
ويلاحظ على هذا الإمام أنه شغف بالعلم منذ صغره ، ولذا كان إلى وفاته معطاء لما حصله وغير متكبر على كل من يستفيد منه .
ولا شك أن بركة شيوخه واحترامه لهم وتقديره لجهودهم تنتقل إلى الطالب ، كما هو معلوم في آداب العلم والعلماء .
وتشير المصادر إلى أنه مكث مدة تقارب الثمان سنوات ، درس فيها كثيراً من العلوم ، ولم يتوقف طلبه على العلوم الدينية الشرعية ، بل نراه قد قرأ العلوم العصرية على علماء فاس ، فقرأ الهندسة والحساب والهيئة والطبيعة ، وغيرها[5] .
ثم بعد إقامته بفاس سافر إلى الحجاز ومصر ، وفي هذه الفترة من حياته حدث في الأمة – أو ظهر فيها – الضعف ، فاحتلت الجزائر وبدأ الفرنسيون الهجوم على تلك البقعة من العالم الإسلامي ، مما لا نشك أنها قد أخذت حيزاً من تفكيره في كيفية إعادة مجد هذه الأمة الذي بدأ يبهت .
ولا بد لي من التعريج على ذكر بعض شيوخه من علماء عصره الذين أخذ عنهم العلم ، ولست أريد حصرهم هنا ، وإنما أذكر أشهرهم .
1- السيد محمد السنوسي ، وهو أول من قرأ عليه في بلده مستغانم ، فقرأ عليه القرآن الكريم وأتقنه ، وقرأ عليه ما تيسر من العربية والفقه والتفسير والحديث والتصوف ، وكان هذا الشيخ من كبار مشايخ بلده ، ويبدو أنه من نفس العائلة أو القبيلة .
2- العلامة الأوحد أبو عبد الله سيدي محمد بن الكندوز ، الذي قتله حاكم الجزائر حسي بك سنة 1244هـ ، وكان هذا الشهيد من أعاظم علماء عصره وأجلهم مكانة وورعاً .
3- الإمام العارف بالله سيدي أحمد بن محمد بن عجيبة الحسني الإمام الصوفي المحقق صاحب التفسير العجيب وشرح الحكم العطائية والمباحث الأصلية .
4- العلامة الإمام الأصولي السيد الطيب بن كيران الفاسي ، شارح عقيدة ميارة ، وهو من أكابر علماء التوحيد وأصول الدين ، وتخرج على يديه جمع من أكابر العلماء .
5- الإمام الولي الصوفي الشيخ العربي بن أحمد الدرقاوي الشريف الحسني ، من أهل الاستقامة ، صاحب الطريقة الدرقاوية أحد فروع الطريقة الشاذلية .
6- العلامة الهمام سيدي محمد بن طاهر الفيلالي ، قرأ عليه مختصر السعد وجمع الجوامع لابن السبكي والسلم وجملة صالحة من مختصر خليل في الفقه المالكي ، وهو يروي عن الحافظ بن كيران .
7- العلامة المتقي المتفنن أبو المواهب سيدي أبو بكر بن زياد الإدريسي ، قرأ عليه الفرائض وعلوم الحساب والأربعين ومضاعفاتها والإسطرلابين وصناعتها وعلوم الرياضة الأربعة والهندسة والهيئة والطبيعة وغيرها من العلوم .
8- وقرأ أيضاً في مصر على الشيخ الصاوي المالكي ، والعلامة العطار ، والقويسني شارح السلم ، وغيرهم .
وبالجملة فشيوخه كثر ، وله منهم الإجازات بالأسانيد العالية في علوم الرواية والدراية .
وأسجل هنا كلمة لأحد مشايخ الأزهر ، قالها عند مجيء السيد السنوسي إليهم ، فقام قائلاً:
( أنصتوا أيها العلماء ، لقد حل بين أظهركم إمام الأمة المحمدية ، ونبراس الشريعة المطهرة ، وشمس سماء المعارف الإلهية ، ألا وهو الشيخ الكامل محمد بن علي السنوسي ) [6].
وهنا نسجل مدى تقدير شيوخ الأزهر لهذا الإمام أولاً ، وإن كانوا فيما بعد من أحد المعوقات لدعوته الإصلاحية[7] .
يقول الأستاذ محمد الطيب الأشهب: " إن هذه الأسفار الشاقة التي قام بها الإمام الأكبر السيد محمد بن علي السنوسي بين فاس إلى مصر والحجاز ، باحثاً ومنقباً عن الوسيلة التي تمكنه من خدمة الإسلام ورفع شأن المسلمين ، ما هي إلا جزء من برنامج ضخم أخذ يعمل على تنظيمه ووضع الخطط الخاصة به .
وفي الوقت نفسه كانت عاملاً من عوامل الاطلاع والاستطلاع إذ كان أثناء هذه التنقلات يقابل العلماء والحكام والأفراد ، وكان يعمل على توسيع مداركه وزيادة تعليمه وإن لم يكن في نظر عارفيه محتاجاً إلى علوم أخرى بالنسبة لما تحصل عليه ، إلا أنه عليه رضوان الله كان يتمثل له نصب عينيه قول الله تعالى: (( وفوق كل ذي علم عليم )) ، وفي هذه الأسفار كان يتجلى له بوضوح كل ما يعانيه المسلمون من تدهور وانحلال وتأخر وانحطاط .
وفي ذلك يقول المؤرخ التركي شهبندر زادة ، عندما أخذ يتحدث عن زيارة الإمام لمصر فقال: وقد أحدثت هذه الزيارة في نفسه تبدلاً عظيماً ، وانتقش في ذهنه أن الدولة العثمانية هي في طريق الانحطاط والاضمحلال " [8]
وتجدر الإشارة هنا إلى شخصية كان له أثر كبير في نفس وفكر الإمام السنوسي ، وهو الإمام العالم أحمد بن إدريس ، ذلك الصوفي الصالح الذي أخذ عنه الإمام السنوسي حيث جعل السيد أحمد بن إدريس السنوسي خليفته في طريقته ودعوته ، وكأنما تبلورت فكرة العمل من خلال الزاوية المتطورة ( الزاوية السنوسية ) بعد لقياه لهذا العالم .
رابعاً: مؤلفاته وآثاره:
لا شك أن عالماً كبيراً وداعية مجتهداً مثل السيد السنوسي بما توفر فيه من نظر ورأي سديدين كان يبدي آراءه وينشرها بين أتباعه ، ولذا فإنه كان مضطراً في بعض الأحايين إلى كتابه هذه الآراء والاجتهادات .
كما أن الباحث لا يستطيع الحكم على الآخرين إلا من خلال آثارهم وما نقل عنهم .
وللإمام السنوسي رحمه الله مؤلفات كثيرة في مجالات شتى ، حصرها الدكتور الدجاني على النحو التالي:
أولاً: المطبوع منها:
1- المسائل العشر المسماة: بغية المقاصد في خلاصة الراصد ، موضوعه عشر مسائل فقهية ، خالف فيها السنوسي مشهور مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى ، بين أدلة مأخذه في هذه المسائل ، مناقشاً ومحرراً لمشهور المذهب في هذه المسائل .
2- السلسبيل المعين في الطرائق الأربعين ، تكلم فيه عن سلسلة الطرق الصوفية الموجودة في وقته ، وبين طرق اتصالها إلى أصحابها .
3- إيقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرآن ، وهو في أصول الفقه ، بين فيه وجهة نظره في الاجتهاد .
4- المنهل الروي الرائق في أسانيد العلم وأصول الطرائق ، بين فيه أسنايد روايته للكتب الحديثية والفقهية ، كتبه استجابة لمن سأله بيان أسانيده في السنة .
5- الدرر السنية في أخبار السلالة الإدريسية .
6- المسلسلات العشرة في الأحاديث النبوية .
7- رسالة مقدمة موطأ الإمام مالك رضي الله عنه ، مقدمة رائقة في بيان بعض تاريخ هذا الكتاب العظيم ، وذكر بعض شروحه ومنزلته من كتب السنة .
8- شفاء الصدر بأري المسائل العشر ، وهو مختصر بغية المراصد السابق ذكره .
ثانياً: المخطوط:
1- الشموس الشارقة في أسانيد شيوخنا المغاربة والمشارقة .
2- البدور السافرة في عوالي الأسانيد الفاخرة .
3- الكواكب الدرية في أوائل الكتب الأثرية .
4- سوابغ الأيد بمرويات أبي زيد .
5- رسالة جامعة في أقوال السنن وأفعالها .
6- هداية الوسيلة في اتباع صاحب الوسيلة .
7- طواعن الأسنة في طاعني أهل السنة .
8- رسالة شاملة في مسألتي القبض والتقليد .
9- رسالة السلوك .
10- شذور الذهب في محض محقق النسب .
ثالثاً: ما ذكر اسمه ولم يعلم مكانه ، وهي كثيرة جداً تبلغ 23 رسالة وكتاب[9] .
ويكون مجموعها أكثر من أربع وأربعين مصنفاً ، في مختلف العلوم وإن كان الغالب فيها السنة والتصوف .
وفي هذه المؤلفات توجد ملاحظة مهمة ، هي التأصيل الشرعي المستمد من تراث الأمة في السير بالدعوة والحركة والفكر ، والله أعلم .
الأسس الفكرية للحركة السنوسية
بعد أن استعرضنا جزءاً من ترجمة الإمام السنوسي لا بد لنا من التطرق إلى الأسس والأصول الفكرية التي دعا إليها الإمام السنوسي وتلقاها أتباعه ودعوا إليها وساروا بها إلى الناس في حركتهم .
والحقيقة التي يلاحظها المتتبع لسير الحركة السنوسية أنها ( فكر وحركة ) ، و( تصور ومنهج) ، ( ومنهج وعمل ) ، وليست مجرد دعوة فكرية أو مذهب أيدلوجي فحسب .
يقول الأستاذ أحمد حلمي زادة أحد مؤرخي تاريخ الدولة العثمانية:
( الطريقة السنوسية هي عبارة عن جمعية مذهبية وطريقة صوفية وسياسية واجتماعية ، ولو أنها من الناحية السياسية ليس لها أغراض تمردية على الدولة )[10] .
وفي هذا إشارة إلى تكاملية الدعوة والحركة السنوسية ، فلم تقتصر على جانب دون جانب، وإن كانت تحكمها ظروف العصر ، فهي قد نشأت في ظل الدولة العثمانية التي كانت دولة الإسلام والخلافة .
وهذا يفسر لنا قول المؤرخ المذكور ( ليس لها أغراض تمردية على الدولة ) ، فذلك أنها لا تحارب دولة الخلافة ، وإنما ترفدها وتسندها ، على العكس مما كانت عليه بعض التيارات الأخرى كالحركة الوهابية مثلاً .
ويمكن إرجاع السبب في هذا الفهم إلى كون الإمام السنوسي من العلماء الكبار في علوم الشريعة ، فهو المحدث الأصولي الفقيه المجتهد ، وهو الصوفي المربي ، وهو أيضاً ذو اطلاع تاريخي وصاحب اطلاع على علوم عصره من الهندسة وغيرها كما مر معنا .
هذا كله مع السبب الأول والمهم الذي هو توفيق الله تعالى ، الذي رعى هذه الدعوة ، وإلا فلولا الله لم يكن ما كان .
وأستطيع أن أجمل الأسس الفكرية والتصورات التي سارت عليها الدعوة السنوسية فيما يلي:
أولاً: دعوة الناس كافة إلى الالتزام بأحكام الإسلام الظاهرة والباطنة ، وذلك أن المسلمين في تلك الحقبة كان قد انتشر فيه الجهل وقلة الالتزام ، فكان تعليم الناس أحكام الشريعة هدفاً أولياً ، حتى يحقق المسلم معنى إسلامه .
وفي ذلك يقول الإمام السنوسي في إحدى الرسائل التي بعثها إلى بعض رؤساء العشائر: " وثانياً فإنا ندعوكم بدعاية الإسلام من طاعة الله ورسوله ، قال تعالى في كتابه العزيز: (( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول )) ، وقال تعالى: (( من يطع الرسول فقد أطاع الله )) ، وقال تعالى: (( ومن يطع الله ورسوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً )) .
والطاعة هي امتثال أمر الله ورسوله من إقامة الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وأداء زكاة الأموال وحج بيت الله الحرام واجتناب ما نهى الله عنه من الكذب والغيبة والنميمة وأكل أموال الناس بالباطل وشرب الخمر وقتل النفس بغير حق وشهادة الزور وغير ذلك مما حرم الله ورسوله فبذلك تنالون الخير الأبدي والربح السرمدي الذي لا يعتريه خسران ولا يحوم حول حماه حرمان .
وقد طلب منا أناس من ذلك الطرق أن نبعث معهم بعض إخواننا يذكرون عباد الله ويعلموهم ما فرض الله ورسوله عليه ويهدوهم إلى سبيل الرشاد ، وعزمنا على ذلك لكون هذه الوظيفة هي التي أقامنا الله عليها: ننبه الغافل ونعلم الجاهل ونرشد الضال " [11] .
ويمكننا ملاحظة عالمية الدعوة عند الإمام السنوسي من حرصه على إنشاء زواياه في كل مكان قدر عليه ، فأول زاوية أنشأها كانت في الحجاز ، ثم في مصر وليبيا والجزائر والسودان الإفريقي ( تشاد ومالي ) .
وهذه سمة مهمة وخاصية تنبه لها الإمام بسبب حياته مع القرآن الدستور العالمي ، وملاحظته ضعف المسلمين في كل مكان من العالم الإسلامي .
ثانياً: من خصائص وأسس الدعوة السنوسية ما يمكن تسميته بـ ( سياسية عدم المواجهة مع الاتجاهات الإسلامية ) .
وهذا يتضح لنا جلياً من خلال عدة مواقف للإمام ، مثل موقفه من الحركة المهدية ودعوتها ، وحيث بعث إليه محمد أحمد المهدي صاحب الدعوة المهدية في السودان كتاباً فلم يرد عليه بنفي ولا إثبات ، حيث ادعى المهدية ، أي أنه صاحب الدعوة في السودان ادعى أنه المهدي المنتظر ، فلم يواجهه مع رفضه لفكره[12] .
وأيضاً عدم مواجهته الدعوة الوهابية ، مع أنها كانت ترى بطلان مبادئ الإمام السنوسي المتمثلة في التصوف والمعتقد السني الأشعري !! ورغم ذلك فلم يؤثر عن الإمام السنوسي كلمات أو ردود على تلك الطائفة[13] .
استمع إلى الإمام السنوسي رحمه الله يقول في إحدى رسائله ، بعد أن سئل عن خلاف بعض الناس في عصمة الأنبياء ، فأرشدهم إلى مراجعة كتب أهل العلم من علماء المسلمين كالإيجي والشريف الجرجاني والرازي والآمدي وغيرهم ، ثم قال:
" إنكم تعلمون أن مادة الخصام ليس من دأبنا ، وقد علمتم أن شأننا هو امتثال قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( من ترك الجدال وهو مبطل بنى الله له بيتاً في الجنة ، ومن تركه وهو محق بنى الله له بيتاً في وسطها ، ومن حسن خلقه بنى الله له بيتاً في أعلاها ) .
هذا وشأن أهل الله أن يكونوا أرضاً لمن سواهم ، يحملون من الأذى حملها وينتجون خيرها … وأما الخوض والجدال في الأمور الاعتقادية فهو الطامة الكبرى والداهية الغرى " [14] ؟! .
وهذا يعطي لنا ضوءاً نفسر به انتشار الدعوة في بلاد المغرب والحجاز وغيرها من أماكن الصراع الفكري .
ويجب التنبيه هنا إلى أن هذا المبدأ لا يعني تمييع القضايا كما قد يفهمه البعض ، بل هو مبدأ ينطلق من العلم الشرعي الصحيح ، واختيار الرأي الصحيح والترجيح ، ثم بعد ذلك لا نلتفت للخلاف ، فهنا الخلاف ليس معوقاً للحركة وإنما هو رصيد تختار منه ما تراه صواباً وحقاً ثم تتجاوزه ولا تقف عنده .
وأيضاً لا تقبل الدعوة البحث في الأمور العقائدية ، ذلك أن العقيدة أمر لا يسع الخلاف فيه، لأنها متقررة ثابتة متوارثة عبر أجيال المسلمين .
ثالثاً: من الأمور التي تميز هذه الدعوة عن غيرها من الدعوات في ذلك العصر هو رؤيتها الصحيحة للوضع السياسي ، ولذا نراها لا تواجه الخلافة العثمانية ، وتعتقد صحتها ، وإن كان هناك بعض الملاحظات من أهمها الضعف الديني وعدم استيفاء بعض الشروط كشرطية القرشية في الخليفة ، ولم توجه حربتها إلى صدر الخلافة .
هذا في حين نجد أن الدعوة الوهابية قد حملت السلاح في وجه دولة الخلافة ، والحركة المهدية لم تعتبر ولم تقم للخلافة وزناً .
وهذا يفسر لنا سبب رضا الدولة العثمانية للحركة السنوسية ، فقد أصدرت الدولة العثمانية مراسيم تبين فيها رضاها عن الحركة وتقر فيها أوقاف الحركة وزواياها وتوصي بدعمها [15] .
يقول د. الدجاني: " وفي رأينا أن ابن السنوسي مع إيمانه بأحقية القرشي بالخلافة لم ير إثارة موضوع الخلافة ، لأنه رأى أن من غير المناسب وليس من مصلحة المسلمين إثارة هذا الخلاف حول الخلافة ، ولذلك ركز تفكيره على جوانب الإصلاح الأخرى "[16] .
وفي المقابل نرى الإمام السنوسي يعد ويستعد للمواجهة مع الدول الغربية التي احتلت الجزائر في تلك الفترة ، فوجه اهتمامه إليها .
فلا شك أنه قد تأثر بهذا الحدث في العالم الإسلامي ، فلم يستطع السكوت فيما بعد ، فكان يدعو الناس إلى الجهاد في سبيل الله ضد النصارى والكفار ، وهذا أمر شعر به الفرنسيون وتنبهوا له ، فيقول الرحالة الفرنسي وفرير في ذلك:
" إن السنوسية هي المسؤولة عن جميع أعمال المقاومة التي قامت ضد فرنا في الجزائر " ، إلى أن يقول:
" إن الحقيقة التي يجب أن لا نغفل عنها أو نتغافلها هي أن الطريقة السنوسية أخطر أعداء نفوذنا – أي الفرنسيين – في شمالي أفريقيا وفي السنغال ، وأنها العقبة الكأداء في سبيل توسعنا السياسي والاقتصادي داخل إفريقيا " .
وهذا جعل الحكومة الفرنسية تومي إلى الدولة العثمانية بأن الحركة السنوسية تدعو إلى إضعاف الدولة العثمانية مما أثار شكوك الدولة العثمانية ، لكن تبين من خلال من أرسلته إليهم كذب الحكومة الفرنسية فلم تعبأ بها [17] .
وفي هذا إشارات ودلائل للمسلم المعاصر أن لا يغفل عن عدوه الحقيقي ، وأن يكون ذا نظر ثاقب للأمور ، يحلل بميزان الإسلام الطرق والوسائل التي يتعامل بها مع الآخرين .
وكم جر على الحركات الإسلامية من مآسي جهلها بعدوها الحقيقي والفعلي !! فتراها تهاجم في غير عدو وتقاتل في غير مقتل [18] !!
فليست الحركة السنوسية إذاً مجرد حركة صوفية خرافية !! كما يقول بعض السذج ، وإنما هي تربية وجهاد وعلم وعمل ومصحف وسيف وفكر وحركة .
رابعاً: ومن آراء السيد محمد بن علي السنوسي البارزة هي دعوته إلى العمل بالكتاب والسنة في المجال الفقهي ، ورفضه للتقليد الذي أوجبه المتأخرون وحملوا الناس عليه وأغلقوا باب الاجتهاد !!
وهذا لا يعني رفض الاجتهادات التي جاء بها الأئمة الأربعة واستقر عليها عمل الأمة قروناً ودهوراً ، وإنما هو نظر واستدلال والوقوف مع الدليل واتباعه إذا تبين لنا مخالفته للمذهب .
ومع هذا فقد كان الإمام السنوسي يفتي بمذهب الإمام مالك مع ادعائه الاجتهاد [19] ، وذلك لأن المسلمين في بلاد المغرب الإسلامي ( من ليبيا إلى الأندلس المسلوب أعاده الله دار إسلام ) كلها تدين الله سبحانه بعقيدة الأشعري وفقه الإمام مالك رحمهم الله تعالى .
فهو يرفض القول بإقفال باب الاجتهاد ، ولكن لا يعني هذا أنه يولج بلا شروط ولا ضوابط – كما نرى بعض الناس يفعل .
وإنما هو يدعو من استكمل آلة البحث والنظر إلى إبداء الرأي وعدم الوقوف على أقوال السابقين .
وهذا الرأي طرحه الإمام السنوسي بشكل واضح في كتابه المسمى بـ ( إيقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرآن ) .
وقد طبق الإمام رأيه هذا في كتابه: بغية المقاصد في خلاصة المراصد ، حيث ذكر فيه المسائل التي خالف فيها مذهب المالكية .
وفي الحقيقة ليس من ضير على من بلغ رتبة النظر والرأي أن يجتهد في المسائل الفقهية ، وإنما الضير والحرج والخطأ في تسوُّر بعض من لا يفهم من الذين لم يبلغوا رتبة من العلم هذا الباب ، ورفضهم آراء من سبق من العلماء !!
وقد ظن بعض الباحثين بأن هذه الفكرة تسربت إلى الإمام السنوسي جراء تأثره بالدعوة الوهابية ، وهذا ليس لازماً ، فإن من علماء المغرب من كان يدعو إلى هذا المنهج الفقهي ، مثل الإمام محمد بن ناصر الدين الدرعي الذي وصف بأنه مجدد المغرب وأنه أحيا السنة بالمغرب .
وهذه الدعوة من الإمام السنوسي كان لها أثر إيجابي في سيره العلمي ، فقام بإقراء كتب الحديث الشريف فأحيا علوم الإسناد ، كما ترى في مصنفاته ذلك ، وألف مقدمة لدارسي موطأ الإمام مالك ، وهذا أمر يحمد عليه رضي الله عنه .
خامساً: ومن الخصائص التي امتازت بها الحركة السنوسية هي الربانية المتمثلة في الطريقة الصوفية السائرة على منهج الكتاب والسنة .
حيث تحتل الصوفية النقية محلاً من فكر الإمام السنوسي والدعوة السنوسية ، فالإمام السنوسي هو أحد المتحققين في هذا الباب ، وله فيه عدة مصنفات ، من أهمها ( السلسبيل المعين في الطرائق الأربعين ) .
فالطريقة الصوفية هي وسيلة للترقي بالنفس وتهذيبها ومعالجتها من شهواتها الفاسدة ، وتطويعها لله سبحانه .
يقول السيد السنوسي في إحدى رسائله:
" وبعد ، أخي فالمطلوب منا جميعاً إقامة ما خلقنا لأجله من العكوف على التزام محققات العبودية واجتناب دواهي منازعات الربوبية ، بتعمير ظواهرنا بالأدب على متابعة أفعال وأقوال عبده وصفيه الأنور صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وذلك بتعمير بواطننا بمراقبته تعالى في جميع حركاتنا وسكناتنا بحيث لا نفعل ولا نقول إلا ما نعلم أنه يرضى عنه ، وندع كل ما سواه ، ونخلص ذينك من شوائب الأكدار وملاحظات الأغيار بحيث يكون نصب العين في كل مشهد بكل ما يرى ويشهد " [20] .
ثم يبين طريقة ذلك قائلاً:
" ولا سبيل إلى ذلك السبيل إلا بالدخول من باب العلم الشرعي من حديث وتفسير وفقه على الأوجه الأكمل الذي كان عليه السلف وورثه عنهم الخلف ، وهي طريقة الكمل من البرهان والعيان ، وهي أفضل الطريقتين وأكمل المنزلتين .
وبالدخول من باب المجاهدة وارتكاب مشاق المكابدة بمخالفة النفوس وإذاقة البؤس وملازمة الأذكار آناء الليل وأطراف النهار حتى تنقدح الأنوار في قلب الذاكر فيستنير به الباطن والظاهر ، من باب أن النور إذا دخل القلب انشرح وانفسح ، قيل: وهل لذلك علامة يا رسول الله ؟ قال: التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد إلى الموت قبل نزول الفوت .
فيستفيد العلوم منه به إليه ، ويستغني عن العالم في كل ما يؤول أمره إليه من باب (( اتقوا الله ويعلمكم الله )) ، وما اتخذ الله ولياً جاهلاً إلا علمه ، وليس العلم بكثرة الرواية ، إنما هو نور يضعه الله في قلب من شاء " [21] .
ويقول في كتابه السلسبيل المعين في الطرائق الأربعين:
" ولنذكر وجهاً مختصراً في تدريج المريد في مراتب السلوك فنقول بعون الله وتوفيقه:
يتعين عليه بعد تصحيح عقيدته بميزان اعتدال أهل السنة والجماعة كثر الله سوادهم وأدام إمدادهم أن لا يقدم على فعل شيء حتى يعلم حكم الله فيه ، فيتعلم ما يحتاج إليه من المسائل الفقهية المتعلقة بظاهر البدن على مذهب من المذاهب الأربعة ، ثم يتوجه إلى تزكية النفس وتهذيب الأخلاق وتصفية القلب وتنقية السر ، لأن ذلك من المهمات المطلوبة شرعاً .
ومن أسباب حصولها: طيب المطعم ، فإن من أكل حراماً فعله في ظاهره أو باطنه لا محالة .
ومن أسباب سماع أحاديث الترغيب والترهيب وحكايات الشيوخ في مجاهداتهم وشريف معاملاتهم ، فإنها جند من جنود الله كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: (( وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك )) …" [22] .
ولذا نجد الإمام السنوسي ينكر على من يخالف الكتاب والسنة من الصوفية ، من ذلك أنه أثناء مرضه بالحمى في سيوة سمع صيحة عند الغروب ، فقال: ما هذا الحس ؟ فقيل له: هؤلاء درقاوية ، فقال لهم: يحرفون لفظ الجلالة ، يقولون: لا إلاها إيلاء الله ، يمدون الهاء من إله ويولدون ياءين همزة الأولى ويأتون همزة الاستفهام قبل الجلالة !! ثم قال لهم: سيدي العربي الدرقاوي عند قرب وفاته جمع تلامذته وقال لهم: ما وافق الكتاب والسنة من طريقتنا هذه فخذوه ، وما خالفها فاتركوه ، ما كانت أفعله في حالة الجذب لا تفعلوه … ثم قال: لأي شيء نأمرك بقراءة النحو ؟! لإصلاح ألسنتكم لكتاب الله وحديث الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم[23] .
وهذا يؤيد ما قاله السيد أحمد الشريف أن مبنى هذه الطريقة على متابعة السنة في الأقوال والأفعال والأحوال والاشتغال بالصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في عموم الأوقات [24].
وكان السيد السنوسي يأمر سالكي سبيل هذه الطريقة بقراءة صحيح البخاري والموطأ وبلوغ المرام في الحديث ورسالة ابن أبي زيد القيرواني في الفقه والرسائل السبع في التصوف[25] .
فمن هذا يتبين لنا أن طريقة السيد السنوسي ليست كغيرها ، فهي صوفية ، ولكنها صوفية من نوع آخر .
وتجدر الإشارة هنا إلى أن أوراد السادة السنوسية هي أوراد سنية ، وبعضها متلقى عن بعض الأولياء ، وليس في ذلك حرج كما ذكر ذلك الإمام زروق في قواعد التصوف والإمام الغزالي في الإحياء [26] .
وأضيف هنا ملاحظة هامة هي أن السيد السنوسي كان قد اختار لأتباعه أشياء تميزهم عن غيرهم ، فأول هذه الأشياء كونهم علماء باحثين ، وثانيها رقة قلوبهم وتصفية نفوسهم ، وأطلق عليهم تسمية خاصة بهم هي: الإخوان السنوسيين ، اسمتداداً من قوله تعالى: (( إنما المؤمنون إخوة )) .
قال الأستاذ محمد الطيب الأشهب:
" اختار الإمام السيد محمد بن علي السنوسي لأتباعه في كل قطر تسمية كانت غاية في السمو الذي يربط بين مجموعة الاتباع روحاً ومعنى وهي الإخوان ، وكان من بينهم المراكشي والجزائري والتونسي والليبي والمصري والسوداني والحجازي واليمني والحبشي والهندي والتركي والشامي إلى غير ذلك من مختلف الأجناس واللغات" [27] .
وفي هذا ما فيه من إعلان التميز والوحدة ، التميز عن العامة من الناس ، والوحدة الدينية بين المسلمين أتباع الدين ، والله أعلم .
الإطار التنظيمي في الحركة السنوسية
"..ولكن الخطر المحتمل يأتي من أن الدعوة في أعوام غياب التخطيط قد تتحول إلى مجرد حركة مثقفين مدنية تهمل العامل والفلاح ، فتنصب العناية على المدارس والجامعات وطوائف الخريجين ، لما لهم من استعداد للمباحث الفكرية ، ولا يكون ثمة نزول لمستوى العامل والفلاح ورعاية مشاكلهم وتبني حلولها …"[28]
فإن من الخطأ الجسيم أن توجد الفكرة ولكن لا تطبق ، أو يوجد المبدأ ولكن لا يوجد من يعمل به .
والإطار التنظيمي الذي طرحه الإمام السنوسي يمثل القمة في تكتيك العمل في تلك المرحلة من تاريخ الأمة ، فاق فيه الحركات التي ظهرت في وقته ، ولكنها لم تتخذ الوسيلة الصحيحة للعمل .
فالزاوية السنوسية كانت إطاراً عملياً لنشر الدعوة بين المسلمين في زمن لم يعرف المسلمون فيه بعد ما يسمى بعلوم الإدارة الحديثة والتخطيط وغير ذلك .
يقول د. الدجاني:
"لكي يحقق ابن السنوسي هدفه أوجد نظامه الذي اشتهر باسمه وأشرف بنفسه على سير العمل فيه ، وهكذا فإنه قرن فكرته بالتطبيق العملي ، وجمع بين كونه العقل المفكر للحركة واليد التي تنفذ ما يخططه العقل ، وقد ساعد هذا الجمع على إنجاح الحركة حيث خلصها من متاعب ازدواج القيادتين الفكرية والعملية التي نراها في كثير من الحركات الأخرى " [29] .
وهذا هو معنى القدوة الصالحة في الإسلام ، فلا انفصال بين العلم والعمل (( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً )) .
( وباطلٌ ظنُّ من يتوهم عدم وجوب شرط القدوة لمن يشتغل في مراكز الدعوة التي ليس فيها توجيه تربوي مباشر ، فالبعض يفصل بين المربين من الدعاة وغيرهم ممن ينفذون الأعمال التي يتطلبها شمول الدعوة ، لكن تحليل الظاهرة التربوية ينفي ذلك ، فإنهم جزء مرئي من هذه الدعوة ، يقلده الجدد والأنصار ، ولسان ناطق يسمعه هؤلاء فيتأثرون به ، ولذلك لم يفهم السلف فصل وظيفة رجل الدولة الإسلامية عن التعليم والتربية ، وكانوا يرون أنه رجل تربية أيضاً )[30] .
نظام الزاوية السنوسية
لا بد من الإشارة أولاً إلى أن فكرة الزوايا كانت موجودة في العالم الإسلامي قبل ظهور الحركة السنوسية ، حيث كانت الزاوية هي المكان الذي يتجمع فيها الصوفية ، ويجلسون فيها يتلون أورادهم وصلواتهم الخاصة بهم ، ولم تكن وظيفة الزاوية إلا كمركز للذكر فقط ، ولم تتطور لتؤدي دوراً آخر إلا في عهد الإمام السنوسي .
فأخذ الإمام السنوسي هذا النظام وجعله منطلقاً للحركة ، فأضفى عليها الصبغة العلمية .
يقول الإمام السنوسي في إحدى رسائله:
" والزاوية في الحقيقة إنما هي بيت من بيوت الله ومسجد من مساجده ، والزاوية إذا حلت بمحل نزلت فيه الرحمة وتعمر بها البلاد ويحصل بها النفع لأهل الحاضرة والباد ، ولأنها ما أسست إلا لقراءة القرآن ولنشر شريعة أفضل ولد عدنان " [31] .
فمن خلال هذا النص ندرك أن الزاوية تجمع إلى الذكر والترقي بالنفس وتطهيرها دراسة علوم الشريعة ونشرها .
وأيضاً هي محل عمران ينتفع به الناس ، فتحل مشاكل الناس والنزاعات التي كانت تقوم بين مختلف القبائل والعشائر .
وأنقل هنا صورة مصغرة عن اللوائح التي تنظم الزاوية السنوسية كما ذكرها صاحب كتاب السنوسي الكبير:
[ (1) وتبنى الزاوية على قطعة مختارة من الأرض بالاتفاق مع القبيلة أو القبائل صاحبة الشأن، وعادة تكون على ربوة عالية تشرف على ما حولها ويتوخى فيها المناخ الصحي .
ويمثل السلطة الروحية العليا في هذا الاتفاق شيخ الزاوية المقرر إنشاؤها أو وكيلاً عن السلطة الروحية ريثما يتم تعيين الشيخ ، وتعتبر قطعة الأرض التي بنيت فوقهما الزاوية والمساحة المتفق عليها من جهاتها الأربعة وقفاً ] .
وفي هذا ضمان اقتصادي للزاوية ، فلا يستطيع أحد أخذها ، ويسري عليها حكم الأبدية بإذن الله سبحانه .
[ (2) تقوم القبيلة أو القبائل صاحبة الشأن بتكاليف بناء المسجد والمدرسة وبيت الشيخ .
(3) الحرم المتفق على تخطيطه حول الزاوية يكون حرماً آمناً لمن دخله واستجار به ، ولا يجوز أن يطلق داخله الرصاص أو يشهر السلاح ، وكذلك المشاجرة وإعلاء الصوت بالغناء مثلاً أو الخصام ، كما يمنع فيه رعاية الحيوانات .
(4) يقوم أفراد القبيلة بتقديم عمل يوم واحد خدمة للزاوية أثناء بناءها وفي موسم الحرث والحصاد .
(5) يتألف كساء شيخ الزاوية سنوياً من عشر بدل ، وتتكون البدلة من قميص وسروال وغطاء رأس وحذاء ، شريطة أن لا يكون منها حرير أو جوخ ، وكذلك حرامين صيفي ومثلهما شتوي وبرنس .
(6) لشيخ الزاوية الحق في تعيين معلم الصبيان والمنادي للصلاة ( المؤذن ) وعدد من الخدم والعمال حسب مقتضيات الضرورة ، وتكون نفقاتهم وأجورهم من موارد الزاوية .
(7) من واجبات شيخ الزاوية إحضار الطعام الكافئ لعشرة أشخاص يومياً في موعدي الغذاء والعشاء ، وذلك باسم الضيوف المتمل مجيؤهم للزاوية ، فإن نقص هذا العدد فعلى شيخ الزاوية أن يكمل العدد من الفقراء ومجاوري الزاوية ، وإذا تجاوز الضيوف هذا العدد فعليه إحضار ما يكفي في وقته ، ولا يتجاوز الطعام نوعاً واحداً إلا في الحالات الخاصة .
(8) إذا تجاوز عدد الضيوف خمسة أشخاص ورأى الشيخ أن ينحر لهم فله ذلك .
(9) لشيخ الزاوية الحق في أن يختص بالعشر من محصولات الزاوية وذلك للإنفاق منها في حالاته الخاصة وفيما يترتب عليه لأقاربه الذين لا حق لهم من موارد الزاوية .
(10) على الشيخ أن يحتفظ بما يكفي لنفقاتها سنوياً من مجموع الواردات وإرسال الباقي منها إلى المركز الرئيسي .
(11) لا حق لشيخ الزاوية أن يضيف أقاربه على حساب الزاوية ، وتفادياً لضيق ذات يده فقد منح عشر الوارادت كما ذكرنا ، ويسمح له بامتلاك المواشي وتعاطي الزراعة لحسابه الخاص ، كي يواجه بذلك نفقاته الخاصة التي لا حق له في أخذها من أموال الزاوية ، وله الحق في أن ينحر لنفسه وزوجته الأولى وأولاده منها شاتين أسبوعياً .
(12) للعمال وخدم الزاوية الحق في أكل اللحم كل يوم جمعة من الأسبوع .
(13) لكل زاوية حدود تفصل بينها وبين الزاوية المتاخمة لها ، ولا يجوز لشيخ الزاوية أن يتعدى هذه الحدود .
(14) على شيوخ الزوايا أن يجتمعوا سنوياً ، كلهم أو بعضهم ، إذا ما رأوا وجوب ذلك .
وعليهم أن يتشاوروا في تحديد موعد الاجتماع ومكانه إن لم يكن أحد شيوخ الزوايا هو الداعي لعقد الاجتماع .
(15) إذا التجأ شخص أو أشخاص إلى إحدى الزوايا لسبب ما فعلى الزاوية والحالة هذه حمايته والسعي لإزالة السبب الذي دفعه للالتجاء بموجب نصوص الشريعة أو ما يتفق عليه من العرف والتقاليد المتبعة .
(16)تتكون موارد الزاوية من الزراعة وتنمية المواشي والهبات الخيرية والزكاة الشرعية ] [32] .
هذا ويقدم شيخ الزاوية في نهاية كل سنة تقريراً مفصلاً إلى السلطات العليا عن جميع أعماله ومقترحاته وما قام أو ينوي القيام به .
كما يقوم شيخ الزاوية من فترة لأخرى بزيارة المركز الرئيسي .
فتلاحظ في هذا النظام المحكم أن الحركة من خلاله وعن طريقه كانت منظمة ، ولم تكن عشوائية غوغائية !!
وقد كان الإمام السنوسي حريصاً على فتح المراكز ( الزوايا السنوسية ) في كل مكان تحل فيه ، لما فيها من تحقيق للهدف الإسلامي .
ومن خلال النص السابق نستطيع أن نتفهم حقيقة الزاوية وأنها مركز دعوي قائم بذاته ، له موارده المالية المتمثلة في الحصاد الزراعي والتجارة وغير ذلك ، وله قيادة علمية هي شيخ الزاوية المعين من قبل الإمام ، وله ترتيب معين وطريقة في الاتصال بالمسؤول الأعلى ، وهكذا ..
وقد أفادت الحركة السنوسية من الزوايا التي أنشأتها ، حيث جعلت منها بعد ذلك مركزاً للجهاد ضد الاحتلال الذي قام به العدو الكافر ، سواء الإيطالي أو الفرنسي أو غيره ، فكانت مواجهة العدو الإيطالي مثلاً تبدأ من الزاوية .
وهناك ملاحظة هامة وهي التميز في الموقع الذي تختار فيه الزاوية للبناء عليه ، يقول الدكتور الدجاني في ذلك:
"ويتميز موقع الزاوية بدقة الاختيار ، فهي تبنى في غالب الأحيان على ربوة عالية مشرفة على ما حولها ، ويتوخى في اختيار الموقع المناخ الصحي والفوائد الاقتصادية والمركز الاستراتيجي " [33] .
وإذا استعرضنا وصف زاوية الجغبوب لوجدناها تحمل المواصفات المذكورة وزيادة [34] .
خاتمة
معوقات سير الحركة
لا شك أن لكل دعوة في الدنيا عقبات وصعاب تواجها ، فإما أن تصمد أمامها وتسيرها ، أو أنها تستسلم وتسقط أمام هذه العقبة ، وهذه سنة الله تعالى التي لا تتغير ولا تتبدل في هذه الدنيا (( ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون )) .
والحركة السنوسية استمرت بعد وفاة الإمام السنوسي وخلفه السيد محمد المهدي وقام بأعباء الحركة .
إلا أن الواقع العالمي والأحداث الدولية قد تغيرت ، وأهم هذه الأحداث هي سقوط الخلافة العثمانية ، الذي كان فاجعة للمسلمين ولا يزال إلى يومنا هذا .
كما أن الاستعمار الأوروبي الصليبي كان قد مد جذوره في العالم الإسلامي .
وحدث آخر هو ظهور التقدم المدني في أوروبا أو ما يسمى بالثورة الصناعية الكبرى .
واستطاعت الحركة السنوسية أن تقوم بالجهاد على المدى الطويل مع الاحتلال الإيطالي في ليبيا والفرنسي في الجزائر والإسباني في بلاد المغرب .
إلا أن فكر الحركة لم يستطع أن يواكب حدث سقوط الخلافة ، الذي يوجب ظهور معان أخرى وأهداف مختلفة للحركة .
ولكن كان الأمر أكبر من هذه الحركة ، فرجالاتها الكبار قد استشهد أغلبهم مما أوجد فراغاً في القيادة .
وأثرت بعض المفاهيم غير الصحيحة على عوام الناس ، مثل أن السيد السنوسي لم يمت لأنه المهدي المنتظر !! وأنه لا يسعنا إلا انتظاره !!
وبعد ذهاب الاستعمار العسكري فرخ وراءه استعماراً فكرياً بسبب انبهار المسلمين في تلك الحقبة بالغرب ، سواء مدنياً أو عسكرياً أو غير ذلك ، مما أوجد انحرافاً من داخل جسم الأمة ، عجزت معه الحركة السنوسية الضخمة عن المواجهة .
وانحصر عمل السنوسية على الجانب الديني فقط ، فبنيت الجامعة الإسلامية بالبيضاء ( إحدى مدن برقة ) ، ولكن كانت مؤامرة قد حيكت بليل لإيجاد الفكر الاشتراكي القومي الناتج من الفكر الشيوعي الشرقي سابقاً ، وجعله البديل في المنطقة ، وكانت الثورة الليبية الضربة القاضية على مسيرة الحركة السنوسية ، بما لا تسع هذه الورقات لتفصيله .
وهذا آخر هذه الورقة المتواضعة .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً
قائمة المصادر المشار إليها في البحث
إيقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرآن ، تأليف: الإمام محمد بن علي السنوسي ، ط دار القلم 1986م .
معهد الامارات التعليمي www.uae.ii5ii.com
الحركة السنوسية ، تأليف: د. أحمد صدقي الدجاني ( رسالة ماجستير ) ، الطبعةالثانية 1988م بدون دار نشر .
السلسبيل المعين في الطرائق الأربعين ، تأليف: الإمام محمد بن علي السنوسي ، ط المملكة الليبية .
السنوسي الكبير ، تأليف: محمد الطيب بن إدريس الأشهب ، الطبعة الأولى بدون تاريخ ، القاهرة .
مجموعة أحزاب وأوراد طريقة السادة السنوسية ، طبع على نفقة السيد عبد الله عابد السنوسي ، 1969م
مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا ، ط دار الطباعة والنشر والتوزيع الإسلامي ، القاهرة 1992م .
مقدمة موطأ الإمام مالك ، تأليف: الإمام محمد بن علي السنوسي ، الطبعة الأولى 1968م المملكة الليبية .
المسار ، لمحمد أحمد الراشد ، دار المنطلق ، الإمارات ، 1989 م ، الطبعة الثانية .
المنطلق ، لمحمد أحمد الراشد ، ط دار الرسالة ، 1991م الخامسة عشرة .