التصنيفات
الصف الخامس الابتدائي

تفير سورة البقرة -تعليم اماراتي

ثم شرع تعالى في بيان قبائحهم، وأحوالهم الشنيعة فقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} أي وإِذا قال لهم بعض المؤمنين: لا تسعوا في الأرض بالإِفساد بإِثارة الفتن، والكفر والصَدِّ عن سبيل الله.

قال ابن مسعود: الفسادُ في الأرض هو الكفرُ، والعملُ بالمعصية، فمن عصى الله فقد أفسد في الأرض.

{قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} أي ليس شأننا الإِفسادُ أبداً، وإِنما نحن أناسٌ مصلحون، نسعى للخير والصلاح فلا يصح مخاطبتنا بذلك، قال البيضاوي: تصوَّروا الفساد بصورة الصلاح، لما في قلوبهم من المرض فكانوا كمن قال الله {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} ولذلك ردَّ الله عليهم أبلغ ردٍّ بتصدير الجملة بحرفيْ التأكيد: {أَلا} المنبهة و {إِنَّ} المقررة، وتعريف الخبر، وتوسيط الفصل، والاستدراك بعدم الشعور فقال: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} أي أَلاَ فانتبهوا أيها الناس، إِنهم هم المفسدون حقاً لا غيرهم، ولكنْ لا يفطنون ولا يحسُون، لانطماسِ نور الإِيمان في قلوبهم.

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} أي وإِذا قيل للمنافقين: آمنوا إِيماناً صادقاً لا يشوبه نفاقٌ ولا رياء، كما آمن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وأَخلِصوا في إِيمانكم وطاعتكم لله {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} الهمزة للإِنكار مع السخرية والاستهزاء أي قالوا أنؤمن كإِيمان هؤلاء الجهلة أمثال "صهيب، وعمار، وبلال" ناقصي العقل والتفكير؟‍ قال البيضاوي: وإِنما سفَّهوهم لاعتقادهم فسادَ رأيهم، أو لتحقير شأنهم، فإِن أكثر المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موالي كصهيب وبلال.

{أَلا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} أي أَلا إِنهم هم السفهاء حقاً، لأن من ركب متن الباطل كان سفيهاً بلا امتراء، ولكن لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل، وذلك أبلغ في العمى، والبعد عن الهدى. أكَّد وَنبَّه وحصر السفاهة فيهم، ثم قال تعالى منبهاً إِلى مصانعتهم ونفاقهم:

{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} أي وإذا رأوا المؤمنين وصادفوهم أظهروا لهم الإِيمان والموالاة نفاقاً ومصانعة {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} أي وإِذا انفردوا ورجعوا إِلى رؤسائهم وكبرائهم، أهلِ الضلالِ والنفاق {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ} أي قالوا لهم نحن على دينكم وعلى مثل ما أنتم عليه من الاعتقاد، وإِنما نستهزئ بالقوم ونسخر منهم بإِظهار الإِيمان.

قال تعالى رداً عليهم: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} أي الله يجازيهم على استهزائهم بالإِمهال ثم بالنكال، قال ابن عباس: يسخر بهم للنقمة منهم ويُملي لهم كقوله {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} قال ابن كثير: هذا إِخبار من الله أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء، ومعاقبهم عقوبة الخداع، فأخرج الخبر عن الجزاء مخرج الخبر عن الفعل الذي استحقوا العقاب عليه، فاللفظ متفق والمعنى مختلف،وإِليه وجهوا كل ما في القرآن من نظائر مثل {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}ومثل {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} فالأول ظلم والثاني عدل.

{وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي ويزيدهم – بطريق الإِمهال والترك – في ضلالهم وكفرهم يتخبطون ويتردَدون حيارى، لا يجدون إِلى المخرج منه سبيلاً لأن الله طبع على قلوبهم وأعمى أبصارهم، فلا يبصرون رشداً ولا يهتدون سبيلاً.

{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} أي استبدلوا الكفر بالإِيمان، وأخذوا الضلالة ودفعوا ثمنها الهُدى {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} أي ما ربحت صَفْقَتهم في هذه المعاوضةِ والبيع {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} أي وما كانوا راشدين في صنيعهم ذلك، لأنهم خسروا سعادة الدارين.

والخلاصة: أن الله تعالى ذكر أربعة أنواع من قبائح المنافقين، وكل نوع منها كاف وحده في إنزال العقاب بهم وهي:

1- مخادعة الله، والخديعة مذمومة، والمذموم يجب أن يُمَيَّز من غيره لتجنب الذم.

2- الإفساد في الأرض بإثارة الفتنة والتأليب على المسلمين وترويج الإشاعات الباطلة.

3- الإعراض عن الإيمان والاعتقاد الصحيح المستقر في القلب، الموافق للفعل.

4- التردد والحيرة في الطغيان وتجاوز الحدود المعقولة، بالافتراء على المؤمنين ووصفهم بالسفاهة، مع أن المنافقين هم السفهاء بحق، لأن من أعرض عن الدليل، ثم نسب المتمسك به إلى السفاهة فهو السفيه، ولأن من باع آخرته بدنياه فهو السفيه، ولأن من عادى محمداً عليه الصلاة والسلام، فقد عادى الله، وذلك هو السفيه.

ضرب الأمثال للمنافقين

{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ(17)صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ(18)أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ(19)يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(20)}.

ثم ضرب تعالى مثلين وضَّح فيهما خسارتهم الفادحة فقال {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} أي مثالهم في نفاقهم وحالهم العجيبة فيه كحال شخص أوقد ناراً ليستدفئ بها ويستضيء، فما اتقدت حتى انطفأت، وتركته في ظلام دامس وخوفٍ شديد {فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} أي فلما أنارتْ المكان الذي حوله فأبصر وأمِن، واستأنس بتلك النار المشعة المضيئة ذهب الله بنورهم أي أطفأها الله بالكلية، فهم يتخبطون ولا يهتدون.

قال ابن كثير: ضرب الله للمنافقين هذا المثل، فشبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إِلى العمى، بمن استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها، وتأنس بها وأبصر ما عن يمينه وشماله، فبينا هو كذلك إِذْ طفئت ناره، وصار في ظلام شديد، لا يبصر ولا يهتدي، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضاً عن الهدى، واستحبابهم الغيَّ على الرشد، وفي هذا المثل دلالةٌ على أنهم آمنوا ثم كفروا، ولذلك ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات الشك والكفر والنفاق لا يهتدون إِلى سبيل الخير، ولا يعرفون طريق النجاة.

{صُمٌّ} أي هم كالصُمِّ لا يسمعون خيراً {بُكْمٌ} أي كالخرس لا يتكلمون بما ينفعهم {عُمْيٌ} أي كالعمي لا يبصرون الهدى ولا يتبعون سبيله {فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} أي لا يرجعون عمَّا هم فيه من الغي والضلال.

ثم ثنَّى تعالى بتمثيل آخر لهم زيادةً في الكشف والإِيضاح فقال: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ} أي أو مثلهم في حيرتهم وترددهم كمثل قومٍ أصابهم مطر شديد، أظلمت له الأرض، وأرعدت له السماء، مصحوبٍ بالبرق والرعد والصواعق {فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} أي في ذلك السحاب ظلماتٌ داجية، ورعدٌ قاصف، وبرقٌ خاطف .

{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ} أي يضعون رءوس أصابعهم في آذانهم لدفع خطر الصواعق، وذلك من فرط الدهشة والفزع كأنهم يظنون أن ذلك ينجيهم {حَذَرَ الْمَوْتِ} أي خشية الموت من تلك الصواعق المدمرة {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} جملة اعتراضية أي والله تعالى محيط بهم بقدرته، وهم تحت إِرادته ومشيئته لا يفوتونه، كما لا يفوتُ من أحاط به الأعداء من كل جانب.

{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} أي يقارب البرقُ لشدته وقوته وكثرة لمعانه أن يذهب بأبصارهم فيأخذها بسرعة {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} أي كلما أنار لهم البرق الطريق مشوا في ضوئه {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} أي وإِذا اختفى البرق وفتر لمعانه وقفوا عن السير وثبتوا في مكانهم .. وفي هذا تصويرٌ لما هم فيه من غاية التحير والجهل، فإِذا صادفوا من البرق لمعة – مع خوفهم أن يخطف أبصارهم – انتهزوها فرصة فَخَطَوْا خطواتٍ يسيرة، وإِذا خفي وفتر لمعانه وقفوا عن السير، وثبتوا في أماكنهم خشية التردي في حفرة.

{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} أي لو أراد الله لزاد في قصف الرعد فأصمهم وذهب بأسماعهم، وفي ضوء البرق فأعماهم وذهب بأبصارهم {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي إِنه تعالى قادر على كل شيء، لا يعجزه أحدٌ في الأرض ولا في السماء، قال ابن جرير: إِنما وصف تعالى نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع، لأنه حذَّر المنافقين بأسه وسطوته، وأخبرهم أنه بهم محيط، وعلى إِذهاب أسماعهم وأبصارهم قادر.

المنَاسَبَة:

لما ذكر تعالى الأصناف الثلاثة "المؤمنين، والكافرين، والمنافقين" وذكر ما تميزوا به من سعادة أو شقاوة، أو إِيمان أو نفاق، وضرب الأمثال ووضَّح طرق الضلال أعقبه هنا بذكر الأدلة والبراهين على وحدانية ربِّ العالمين، وعَرَّف الناس بنعمه ليشكروه عليها، وأقبل عليهم بالخطاب {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وهو خطاب لجميع الفئات ممتناً عليهم بما خلق ورزق، وأبرز لهم "معجزة القرآن" بأنصع بيان وأوضح برهان، ليقتلع من القلوب جذور الشك والارتياب.

الأمر بعبادة الله وحده وأدلة التوحيد

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(21)الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(22)}.

يقول تعالى منبهاً العبادَ إِلى دلائل القدرة والوحدانية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} أي يا معشر بني آدم اذكروا نِعَم الله الجليلة عليكم، واعبدوا الله ربكم الذي ربَّاكم وأنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئاً، اعبدوه بتوحيده، وشكره، وطاعته.

{الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي الذي أوجدكم بقدرته من العدم، وخلق مَن قبلكم من الأمم {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي لتكونوا في زمرة المتقين، الفائزين بالهدى والفلاح، قال البيضاوي: لما عدَّد تعالى فِرَق المكلفين، أقبل عليهم بالخطاب على سبيل الالتفات، هزاً للسامع، وتنشيطاً له، واهتماماً بأمر العبادة وتفخيماً لشأنها، وإِنما كثر النداء في القرآن بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} لاستقلاله بأوجهٍ من التأكيد، وكلُّ ما نادى الله له عباده من حيث إِنها أمور عظام من حقها أن يتفطنوا لها، ويقبلوا بقلوبهم عليها وأكثرهم عنها غافلون حقيقٌ بأن يُنادى له بالآكد الأبلغ.

ثمَّ عدَّد تعالى نِعَمه عليهم فقال {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا} أي جعلها مهاداً وقراراً، تستقرون عليها وتفترشونها كالبساط المفروش مع كرويتها، وإِلا ما أمكنكم العيش والاستقرار عليها، قال البيضاوي: جعلها مهيأة لأن يقعدوا ويناموا عليها كالفراش المبسوط، وذلك لا يستدعي كونها مسطَّحة لأن كروية شكلها مع عظم حجمها لا يأبى الافتراش عليها.

{وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} أي سقفاً للأرض مرفوعاً فوقها كهيئة القبة {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أي مطراً عذباً فراتاً أنزله بقدرته من السحاب {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} أي فأخرج بذلك المطر أنواع الثمار والفواكه والخضار غذاءً لكم.

{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي فلا تتخذوا معه شركاء من الأصنام والبشر تشركونهم مع الله في العبادة، وأنتم تعلمون أنها لا تَخْلُق شيئاً ولا تَرْزق، وأنَّ الله هو الخالق الرازق وحده، ذو القوة المتين، قال ابن كثير: شرع تعالى في بيان وحدانية ألوهيته بأنه هو المنعم على عبيده بإِخراجهم من العدم، وإِسباغه عليهم النِّعَم، والمرادُ بالسَّماء هنا السحاب، فهو تعالى الذي أنزل المطر من السحاب في وقته عند احتياجهم إِليه، فأخرج لهم به أنواع الزروع والثمار رزقاً لهم ولأنعامهم، ومضمونه أنه الخالق الرازق مالكُ الدار وساكنيها ورازقهم، فبهذا يستحق أن يُعبد وحده ولا يُشرك به غيره.

المناسبة:

بعد أن صنّف القرآن الناس إلى أقسام ثلاثة: متقين موحدين، وجاحدين معاندين، ومنافقين مذبذبين، وبعد أن أثبت الوحدانية والربوبية لله، ونفى الشركاء بالمنطق والبرهان، أثبت الله تعالى أن القرآن كلام الله، وأنه نزل من عنده، بدليل أنه معجز، لم يتمكن أحد من الجن أو الإنس مجاراته والإتيان بمثله، مع أن العرب فرسان البلاغة، وأساطين الفصاحة، ولا فخر لهم إلا بالكلام شعراً ونثراً وخطابة، وبما أنهم عجزوا، ولم يستطيعوا الإتيان بمثل أقصر سورة من القرآن، فقد ثبت صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما ادعاه من النّبوة، وما أتى به من الرسالة الإلهية. وكان مُنْكِرُ نبوته ورسالته مستحقاً العقاب والجزاء في نار جهنم.

إثبات نبوَّة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإقامة البرهان علىإعجاز القرآن

{وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(23)فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ(24)}.

ثم ذكر تعالى بعد أدلة التوحيد الحجة على النبوة، وأقام البرهان على إِعجاز القرآن فقال {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} أي وإِذا كنتم أيها الناسُ في شك وارتياب من صدق هذا القرآن، المعجز في بيانه، وتشريعه، ونظمه، الذي أنزلناه على عبدنا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} أي فأتوا بسورةٍ واحدةٍ من مثل هذا القرآن، في البلاغة والفصاحة والبيان {وَادْعُوا شُهَدَاءكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي وادعوا أعوانكم وأنصاركم الذين يساعدونكم على معارضة القرآن غير الله سبحانه، والمراد استعينوا بمن شتئم غيره تعالى، قال البيضاوي: المعنى ادعوا للمعارضة من حضركم أو رجوتم معونته من إِنسكم وجِنكم وآلهتكم غيرَ اللهِ سُبحانه وتعالى، فإِنه لا يقدر أن يأتي بمثله إِلا الله {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي في أنه مختلق وأنه من كلام البشر، وجوابُه محذوف دلَّ عليه ما قبله.

{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} أي فإِن لم تقدروا على الإِتيان بمثل سورةٍ من سوره، وعجزتم في الماضي عن الإِتيان بما يساويه أو يدانيه، مع استعانتكم بالفصحاء والعباقرة والبلغاء {وَلَنْ تَفْعَلُوا} أي ولن تقدروا في المستقبل أيضاً على الإِتيان بمثله، والجملةُ اعتراضيةٌ للإِشارة إِلى عجز البشر في الحاضر والمستقبل كقوله {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} أي معيناً، قال ابن كثير: تحداهم القرآن وهم أفصح الأمم ومع هذا عجزوا، و{لَنْ} لنفي التأبيد في المستقبل أي ولن تفعلوا ذلك أبداً، وهذه أيضاً معجزة أخرى وهو أنه أخبر خبراً جازماً قاطعاً، غير خائفٍ ولا مشفق أنَّ هذا القرآن لا يُعارضُ بمثله أبد الآبدين ودهر الداهرين، وكذلك وقع الأمر لم يُعارض من لدنه إِلى زماننا هذا، ومن تدبّر القرآن وجد فيه من وجوه الإِعجاز فنوناً ظاهرة وخفية، من حيثُ اللفظ ومن حيثُ المعنى، والقرآنُ جميعه فصيح في غاية نهايات الفصاحة والبيان عند من يعرف كلام العرب، ويفهم تصاريف الكلام.

{فَاتَّقُوا النَّارَ} أي فخافوا عذاب الله، واحذروا نار الجحيم التي جعلها الله جزاء المكذبين {الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} أي اتقوا النار التي مادتُها التي تُشعل بها وتُضرم لإِيقادها هي الكفار والأصنام التي عبدوها من دون الله كقوله تعالى {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} قال مجاهد: حجارةٌ من كبريت أنتُن من الجيفة يعذبون بها مع النار {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} أي هُيّئت تلك النارُ وأُرصدت للكافرين الجاحدين، ينالون فيها ألوان العذاب المهين.

والخلاصة: أن التحدي كان متنوعاً، مرة بالنظم والمعنى، ومرة بالنظم دون المعنى، بافتراء شيء لا معنى له، وفي كل الأحوال ظهر فشلهم.

وأرشدت الآية: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا…} على ظهور العجز التام عن المعارضة، وعلى استحقاق الكافرين النار لإنكارهم نبوة النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولعدم تصديقهم بالقرآن، وعلى أن من اتقى النار ترك المعاندة، وعلى أن النار حالياً مخلوقة مهيأة موجودة معدّة للعصاة والفسّاق والكفّار.

المناسبة:

يعقد القرآن عادة مقارنات بين الأشياء المتضادة، فلما ذكر الله جزاء الكافرين والعصاة، أردف ذلك ببيان جزاء المؤمنين الأتقياء الأطهار، ليظهر الفرق بين الفريقين، وليكون ذلك أدعى للعبرة والعظة، والامتثال من مقارنة الأحوال.

ما أعدَّه الله لأوليائه

{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(25)}.

ثم لما ذكر ما أعدَّه لأعدائه، عطف عليه بذكر ما أعدَّه لأوليائه، على طريقة القرآن في الجمع بين الترغيب والترهيب، للمقارنة بين حال الأبرار والفجار فقال {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي وبَشِّرْ يا محمد المؤمنين المتقين، الذين كانوا في الدنيا محسنين، والذين جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح {أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي بأن لهم حدائق وبساتين ذاتِ أشجار ومساكن، تجري من تحت قصورها ومساكنها أنهار الجنة .

{كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا} أي كلما أعطوا عطاءً ورُزقوا زرقاً من ثمار الجنة {قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} أي هذا مثلُ الطعام الذي قُدِّم إِلينا قبل هذه المرة.

قال المفسرون: إِن أهل الجنة يُرزقون من ثمارها، تأتيهم به الملائكة، فإِذا قُدّم لهم مرةً ثانية قالوا: هذا الذي أتيتمونا به من قبل فتقول الملائكة: كلْ يا عبد الله فاللونُ واحدٌ والطعم مختلف قال تعالى {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} أي متشابهاً في الشكل والمنظر، لا في الطعم والمَخْبر، قال ابن جرير: يعني في اللون والمرأى وليس يشبهه في الطعم، قال ابن عباس: لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إِلا في الأسماء.

{وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} أي ولهم في الجنة زوجاتٌ من الحور العين مطهَّرات من الأقذار والأدناس الحسية والمعنوية، قال ابن عباس: مطهَّرة من القذر والأذى، وقال مجاهد: مطهَّرة من الحيض والنفاس، والغائط والبول والنخام، وورد أن نساء الدنيا المؤمنات يكنَّ يوم القيامة أجمل من الحور العين كما قال تعالى {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً* فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا* عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة: 35 – 37] {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي دائمون، وهذا هو تمام السعادة، فإِنهم مع هذا النعيم في مقام أمين، يعيشون مع زوجاتهم في هناءٍ خالد لا يعتريه انقطاع.

المنَاسَبَة:

لمّا بينّ تعالى بالدليل الساطع، والبرهان القاطع، أن القرآن كلام الله لا يتطرق إِليه شك، وإِنه كتاب معجز أنزله على خاتم المرسلين، وتحداهم أن يأتوا بمثل سورةٍ من أقصر سوره، ذكر هنا شبهة أوردها الكفار للقدح فيه وهي أنه جاء في القرآن ذكر (النحل، والذباب، والعنكبوت، والنمل) إلخ وهذه الأمور لا يليق ذكرها بكلام الفصحاء فضلاً عن كلام ربّ الأرباب، فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة، وردَّ عليهم بأنَّ صغر هذه الأشياء لا يقدح في فصاحة القرآن وإِعجازه، إِذا كان ذكر المثل مشتملاً على حِكَمٍ بالغة.

سبب النزّول:

لما ذكر الله تعالى الذباب والعنكبوت في كتابه، وضرب للمشركين به المثل ضحكت اليهود وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله، وما أراد بذكر هذه الأشياء الخسيسة؟ فأنزل الله الآية.

الحكمة من ضرب الأمثال في القرآن

{إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ(26)الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(27)}.

يقول تعالى في الرد على مزاعم اليهود والمنافقين {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} أي إِن الله لا يستنكف ولا يمتنع عن أن يضرب أيَّ مثلٍ كان، بأي شيءٍ كان، صغيراً كان أو كبيراً {بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} أي سواء كان هذا المثل بالبعوضة أو بما هو دونها في الحقارة والصغر، فكما لا يستنكف عن خلقها، كذلك لا يستنكف عن ضرب المثل بها.

{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} أما المؤمنون فيعلمون أن الله حق، لا يقول غير الحق، وأن هذا المثل من عند الله {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً}؟ وأما الذين كفروا فيتعجبون ويقولون: ماذا أراد الله من ضرب الأمثال بمثل هذه الأشياء الحقيرة؟

قال تعالى في الرد عليهم {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} أي يضل بهذا المثل كثيراً من الكافرين لكفرهم فيزيد به، ويهدي به كثيراً من المؤمنين لتصديقهم به، فيزي أولئك ضلالة، وهؤلاء هدىً {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ} أي ما يضل بهذا المثل أو بهذا القرآن إِلا الخارجين عن طاعة الله، الجاحدين بآياته.

ثم عدّد تعالى أوصاف هؤلاء الفاسقين فقال {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} أي ينقضون ما عهده إِليهم في الكتب السماوية، من الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم من بعد توكيده عليهم، أو ينقضون كل عهد وميثاق من الإِيمان بالله، والتصديق بالرسل، والعمل بالشرائع {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} من صلة الأرحام والقرابات، واللفظ عام في كل قطيعة لا يرضاها الله كقطع الصلة بين الأنبياء، وقطع الأرحام، وترك موالاة المؤمنين {وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} بالمعاصي، والفتن، والمنع عن الإِيمان، وإِثارة الشبهات حول القرآن {أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أي أولئك المذكورون، الموصوفون بتلك الأوصاف القبيحة هم الخاسرون لأنهم استبدلوا الضلالة بالهدى، والعذاب بالمغفرة، فصاروا إِلى النار المؤبدة.

المناسبة:

بعد أن ذكر الله صفات الفاسقين وموقف الكفار من القرآن، وجّه الخطاب إلى الكفار فيهاتين الآيتين على طريق الإنكار والتعجب والتوبيخ على موقفهم وصفة كفرهم، بذكر البراهين الداعية إلى الإيمان: وهي النعم الدالة على قدرته تعالى من مبدأ الخلق إلى منتهاه، من إحيائهم بعد الإماتة، ثم الإماتة والإحياء، وخلق جميع الخيرات المكنونة في الأرض ليتمتعوا بجميع ما في ظاهرها وباطنها، وخلق سبع سماوات مزينة بمصابيح، ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر، أفبعد هذا كله يكفرون بمحمد وبرسالته صلى الله عليه وسلم؟!

من مظاهر قدرة الله تعالى

{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(28)هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(29)}.

{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} استفهام للتوبيخ والإِنكار، والمعنى كيف تجحدون الخالق، وتنكرون الصانع {وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا} أي وقد كنتم في العدم نُطفاً في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات {فَأَحْيَاكُمْ} أي أخرجكم إِلى الدنيا {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انقضاء الآجال {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} بالبعث من القبور {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} للحساب والجزاء يوم النشور.

ثم ذكر تعالى برهاناً على البعث فقال {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} أي خلق لكم الأرض وما فيها لتنتفعوا بكل ما فيها، وتعتبروا بأن الله هو الخالق الرازق {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} أي ثم وجّه إرادته إلى السماء {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} أي صيّرهن وقضاهن سبع سماوات محكمة البناء وذلك دليل القدرة الباهرة {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي وهو عالم بكل ما خلق وذرأ، أفلا تعتبرون بأن القادر على خلق ذلك – وهي أعظم منكم – قادر على إعادتكم؟! بلى إنه على كل شيء قدير.

المنَاسَبَة:

لما امتنَّ تعالى على العباد بنعمة الخلق والإِيجاد وأنه سخر لهم ما في الأرض جميعاً، وأخرجهم من العدم إِلى الوجود، أتبع ذلك ببدء خلقهم، وامتنَّ عليهم بتشريف أبيهم وتكريمه، بجعله خليفة، وإِسكانه دار الكرامة، وإِسجاد الملائكة تعظيماً لشأنه، ولا شك أن الإحسان إِلى الأصل إِحسان إِلى الفرع، والنعمة على الآباء نعمة على الأبناء، ولهذا ناسب أن يذكَرهم بذلك، لأنه من وجوه النعم التي أنعم بها عليهم.

استخلاف الإنسان في الأرض وتعليمه اللغات

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ(30)وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(31)قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(32)قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ(33)}.

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} أي اذكر يا محمد حين قال ربك للملائكة واقصص على قومك ذلك {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} أي خالق في الأرض ومتخذ فيها خليفة يخلفني في تنفيذ أحكامي فيها وهو آدم، أو قوماً يخلف بعضهم بعضاً قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل.

{قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} أي قالوا على سبيل التعجب والاستعلام: كيف تستخلف هؤلاء، وفيهم من يفسد في الأرض بالمعاصي {وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} أي يريق الدماء بالبغي والاعتداء!! {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} أي ننزهك عما لا يليق بك متلبسين بحمدك {وَنُقَدِّسُ لَكَ} أي نعظّم أمرك ونطهّر ذكرك مما نسبه إِليك الملحدون {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي أعلم من المصالح ما هو خفيٌ عليكم، ولي حكمة في خلق الخليقة لا تعلمونها.

{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} أي أسماء المسمّيات كلها، قال ابن عباس: علّمه اسم كل شيء حتى القصعة والمغرفة {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ} أي عرض المسميات على الملائكة وسألهم على سبيل التبكيت {فَقَالَ أَنْبِئُونِي} أي أخبروني {بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء} أي بأسماء هذه المخلوقات التي ترونها {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي في زعمكم أنكم أحق بالخلافة ممن استخلفته.

والحاصل أن الله تعالى أظهر فضل آدم للملائكة بتعليمه ما لم تعلمه الملائكة، وخصّه بالمعرفة التامة دونهم، من معرفة الأسماء والأشياء، والأجناس، واللغات، ولهذا اعترفوا بالعجز والقصور {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا} أي ننزهك يا الله عن النقص ونحن لا علم لنا إِلا ما علمتنا إِياه {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ} أي الذي لا تخفى عليه خافية {الْحَكِيمُ} الذي لا يفعل إِلا ما تقتضيه الحكمة.

{قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} أي أعلمهم بالأسماء التي عجزوا عن علمها، واعترفوا بتقاصر هممهم عن بلوغ مرتبتها {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} أي أخبرهم بكل الأشياء، وسمَّى كل شيء باسمه، وذكر حكمته التي خلق لها {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي قال تعالى للملائكة: ألم أنبئكم بأني أعلم ما غاب في السموات والأرض عنكم {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} أي ما تظهرون {وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} أي تسرون من دعواكم أن الله لا يخلق خلقاً أفضل منكم. وروي أنه تعالى لما خلق آدم عليه السلام رأت الملائكة فطرته العجيبة، وقالوا: ليكن ما شاء فلن يخلق ربنا خلقاً إِلا كنا أكرم عليه منه.

المنَاسَبَة:

أشارت الآيات السابقة إِلى أن الله تعالى خصّ آدم عليه السلام بالخلافة، كما خصّه بعلم غزير وقفت الملائكة عاجزة عنه، وأضافت هذه الآيات الكريمة بيان نوع آخر من التكريم أكرمه الله به ألا وهو أمر الملائكة بالسجود له، وذلك من أظهر وجوه التشريف والتكريم لهذا النوع الإِنساني ممثلاً في أصل البشرية آدم عليه السلام.

تكريم اللهِ آدمَ بسجود الملائكة له

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِن الْكَافِرِينَ(34)}

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ} أي اذكر يا محمد لقومك حين قلنا للملائكة {اسْجُدُوا لآدَمَ } أي سجود تحية وتعظيم لا سجود عبادة {فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ} أي سجدوا جميعاً له غير إبليس {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} أي امتنع مما أمر به وتكبر عنه {وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ} أي صار بإبائه واستكباره من الكافرين حيث استقبح أمر الله بالسجود لآدم.

قصة آدم وحواء في الجنة

{وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ(35)فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ(36)فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(37)قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(38)وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(39)}

{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} أي اسكن في جنة الخلد مع زوجك حواء {وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا} أي كلا من ثمار الجنة أكلاً رغداً واسعاً {حَيْثُ شِئْتُمَا} أي من أي مكان في الجنة أردتما الأكل فيه {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} أي لا تأكلا من هذه الشجرة، قال أبو عباس: هي الكرمة {فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ} أي فتصيرا من الذين ظلموا أنفسهم بمعصية الله.

{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} أي أوقعهما في الزلة بسببها وأغواهما بالأكل منها. هذا إذا كان الضمير عائداً إلى الشجرة، أما إِذا كان عائداً إلى الجنة فيكون المعنى أبعدهما وحوّلهما من الجنة {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} أي من نعيم الجنة.

{وَقُلْنَا اهْبِطُوا} أي اهبطوا من الجنة إلى الأرض والخطاب لآدم وحواء وإبليس {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} أي الشيطان عدوّ لكم فكونوا أعداء له كقوله {إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} أي لكم في الدنيا موضع استقرار بالإقامة فيها {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} أي تمتع بنعيمها إلى وقت انقضاء آجالكم.

{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} أي استقبل آدم دعواتٍ من ربه ألهمه إياها فدعاه بها وهذه الكلمات مفسّرة في موطن آخر في سورة الأعراف {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} الآية {فَتَابَ عَلَيْهِ} أي قَبِل ربه توبته {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} أي إن الله كثير القبول للتوبة، واسع الرحمة للعباد.

{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} كرر الأمر بالهبوط للتأكيد ولبيان أنَّ إقامة آدم وذريته في الأرض لا في الجنة {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} أي رسول أبعثه لكم، وكتاب أنزله عليكم {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} أي من آمن بي وعمل بطاعتي {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي لا ينالهم خوف ولا حزن في الآخرة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي جحدوا بما أنزلت وبما أرسلت {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي هم مخلدون في الجحيم أعاذنا الله منها.

العظة من قصة آدم:

1- إذا توجهت عناية الله تعالى إلى شيء جعلته جليلاً عظيماً، كما توجهت عنايته إلى التراب فخلق منه بشراً سوياً، وأفاض عليه من العلم والمعرفة وغيرهما مما عجز الملائكة عن إدراكه.

2- الإنسان وإن كرّمه الله، لكنه ضعيف، عرضة للنسيان، كما نسي آدم أوامر الله ونواهيه، فأطاع إبليسَ عدوَّه، وأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها.

3- إن التوبة والإنابة إلى الله سبيل الظفر برحمة الله الواسعة، فإن آدم الذي عصى ربه تاب وقبل الله توبته، فعلى العاصي أو المقصر المبادرة إلى التوبة والاستغفار دون قنوط ولا يأس من رحمة الله ورضوانه ومغفرته.

4- الكبر والعناد والإصرار على الإفساد أسباب لاستحقاق السخط الإلهي، واللعنة والغضب والطرد من رحمة الله، فإن إبليس الذي أبى السجود، وأصرّ على موقفه، وعاند الله، وتحدى سلطانه بإغراء الإنسان وصرفه عن إطاعة الله، غضب الله عليه وطرده من الجنة إلى الأبد، وأوعده نار جهنم.

المناسبة:

اختصت هذه الآيات من (41-142) بالكلام عن بني إسرائيل فيما يقارب جزءاً كاملاً، لكشف حقائقهم وبيان مثالبهم، وكانت الآيات السابقة من أول السورة إلى هنا حول إثبات وجود الله ووحدانيته، والأمر بعبادته، وأن القرآن كلام الله المعجز، وبيان مظاهر قدرة الله بخلق الإنسان وتكريمه وخلق السموات والأرض، وموقف الناس من كل ذلك وانقسامهم إلى مؤمنين وكافرين ومنافقين.

ثم بدأ سبحانه بمخاطبة الشعوب التي ظهرت فيها النبوة، فبدأ باليهود، لأنهم أقدم الشعوب ذات الكتب السماوية، ولأنهم كانوا أشد الناس عداوة للمؤمنين بالقرآن، مع أنهم أولى الناس بالإيمان بخاتم الرسل، لذا ذكَّرهم الله تعالى بنعمه الكثيرة التي أنعم بها عليهم، وذكَّرهم بالعهد المؤكد معهم على التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وتنوع أسلوب القرآن في خطابهم، تارة بالملاينة والملاطفة، وتارة بالتخويف والشدة، وأحياناً بالتذكير بالنعم، وطوراً بتعداد جرائمهم وقبائحهم وتوبيخهم على أعمالهم وإقامة الحجة عليهم.

ما طلب الله من بني إسرائيل

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ(40)وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ(41)وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(42)وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ(43)}.

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي يا أولاد النبي الصالح يعقوب {اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} اذكروا ما أنعمت به عليكم وعلى آبائكم من نعم لا تعد ولا تحصى {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} أي أدّوا ما عاهدتموني عليه من الإِيمان والطاعة {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} بما عاهدتكم عليه من حسن الثواب {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} أي اخشوني دون غيري.

{وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ} من القرآن العظيم {مُصدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} أي من التوراة في أمور التوحيد والنبوة {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} أي أول من كفر من أهل الكتاب فحقكم أن تكونوا أول من آمن { وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً} أي لا تستبدلوا بآياتي البينات التي أنزلتها عليكم حطام الدنيا الفانية {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} أي خافون دون غيري {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} أي لا تخلطوا الحق المنزل من الله بالباطل الذي تخترعونه، ولا تحرفوا ما في التوراة بالبهتان الذي تفترونه {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} أي ولا تخفوا ما في كتابكم من أوصاف محمد عليه الصلاة والسلام {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه حق أو حال كونكم عالمين بضرر الكتمان.

{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} أي أدوا ما وجب عليكم من الصلاة والزكاة، وصلوا مع المصلين بالجماعة، أو مع أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام.

عرض لشيء من أخلاق اليهود السيئة

{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ(44)وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ(45)الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(46)يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ(47)وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ(48)}

المنَاسَبَة:

لا تزال الآيات تتحدث عن بني إسرائيل، وفي هذه الآيات ذمٌ وتوبيخ لهم على سوء صنيعهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، ويدعون الناس إلى الهدى والرشاد ولا يتبعونه.

سَبَبُ النّزول:

نزلت هذه الآية في بعض علماء اليهود، كانوا يقولون لأقربائهم الذين أسلموا: اثبتوا على دين محمد فإِنه حق، فكانوا يأمرون الناس بالإِيمان ولا يفعلونه.

يخاطب الله أحبار اليهود فيقول لهم على سبيل التقريع والتوبيخ {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} أي أتدعون الناس إِلى الخير وإِلى الإِيمان بمحمد {وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} أي تتركونها فلا تؤمنون ولا تفعلون الخير {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} أي حال كونكم تقرؤون التوراة وفيها صفة ونعت محمد عليه الصلاة والسلام {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي أفلا تفطنون وتفقهون أنّ ذلك قبيح فترجعون عنه؟!.

الخطاب في الآية لا ينطبق على اليهود فقط، بل على كل من سلك مسلكهم.

فالدين كلمة تقال وسلوك يفعل فإذا انفصلت الكلمة عن السلوك ضاعت الدعوة، لأن من يراك تفعل ما تنهاه عنه يدرك أنك خادع وغشاش، ولذا قال الحق سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3].

فلا بد للقول من عمل وهو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أمر أصحابه بشيء إلا كان أسبقهم إليه، ولذا أمرنا الله تعالى باتخاذه قدوة فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

وكان سيدنا عمر رضي الله عنه إذا أراد أن يأمر الرعية بشيء بدأ بنفسه وأهله قائلاً: "لقد بدا لي أن آمر بكذا وكذا، والذي نفسي بيده من خالف منكم لأجعلنه نكالاً للمسلمين".

فلا بد للعلماء والدعاة أن يكونوا قدوة إذا أرادوا إصلاح المجتمع، وهو المنهج الذي انتشر به الإسلام في كثير من البلدان كالصين عبر التجار المسلمين الملتزمين بتعاليم الإسلام.

ثم بيَّن لهم تعالى طريق التغلب على الأهواء والشهوات، والتخلص من حب الرياسة وسلطان المال فقال {وَاسْتَعِينُوا} أي اطلبوا المعونة على أموركم كلها {بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} أي بتحمل ما يشق على النفس من تكاليف شرعية، وبالصلاة التي هي عماد الدين { وَإِنَّهَا} أي الصلاة {لَكَبِيرَةٌ} أي شاقة وثقيلة {إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ} أي المتواضعين المستكينين الذين صفت نفوسهم لله {الَّذِينَ يَظُنُّونَ} أي يعتقدون اعتقاداً جازماً لا يخالجه شك {أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} أي سيلقون ربهم يوم البعث فيحاسبهم على أعمالهم {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} أي معادهم إِليه يوم الدين.

طلب الله تعالى منهم في الآية الاستعانة بالصبر والصلاة ثم قال: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} ولم يقل (وإنهما) فهل المقصود الصلاة فقط، أم الصبر والصلاة معاً؟

المقصود الأمران معاً وإنما اقتصر على واحدة لأنهما يؤديان نفس العلاج، كقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] ولم يقل (إليهما) لاشتراكهما في نفس العمل وهو شغل المؤمنين عن العبادة والذكر فكذلك الأمر بالصبر والصلاة، فلا يتم الصبر بلا صلاة ولا تتقن الصلاة إلا بالصبر.

والمراد بالخشوع في قوله تعالى: {إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ}، وهو الخضوع لمن ترى أنه فوقك بلا منازع، وهو ما يجعلك تستحضر عظمة الحق سبحانه وتعرف ضآلة قيمتك أمام قدرته جل جلاله في إبداع هذا الكون الفسيح، وتعلم أن ما عندك هو في قبضة الله يسلبه عنك في أي لحظة، لأننا تعيش في عالم الأغيار، فعلينا أن نخضع لمن يُغَيّر ولا يتغيّر جل جلاله وعظمت قدرته.

ثم ذكّرهم تعالى بنعمه وآلائه العديدة مرة أخرى فقال {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} بالشكر عليها بطاعتي {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ} أي فضلت آباءكم {عَلَى الْعَالَمِينَ} أي عالمي زمانهم بإِرسال الرسل، وإِنزال الكتب، وجعلهم سادة وملوكاً، وتفضيل الآباء شرفٌ للأبناء.

{وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} أي خافوا ذلك اليوم الرهيب الذي لا تقضي فيه نفسٌ عن أخرى شيئاً من الحقوق {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} أي لا تقبل شفاعة في نفس كافرة بالله أبداً {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} أي لا يقبل منها فداء {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} أي ليس لهم من يمنعهم وينجيهم من عذاب الله.

هذه الآية وردت مرتين والصدد ذاته، ولكن الآية الأولى {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ}، والثانية {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ…} ولا تكرار في ذلك، لأن الأولى تتعلق بالنفس التي تريد أن تشفع لمن أسرف على نفسه فلا يقبل منها، ثم تطلب العدل وهو الفدية فلا يقبل منها، وأما الثانية فهي تخص النفس المسرفة، فتطلب العدل أولاً (ارجعنا نعمل صالحاً) فلا يقبل منها، ثم تبحث عن الشفعاء فلا تنفعها الشفاعة.

ما يستخلص من الآيات [44-48]:

1- الصدق مع الناس من الصفات الأساسية التي يجب على المسلم أن يتحلى بها، ومِنْ مقتضى هذا الصدق أن يكون قوله مطابقاً لفعله حتى يؤثر في الآخرين، ومَنْ خالف ذلك فهو ممقوت عند الله لقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3] خصوصاً إذا كان هذا المُخالِف مِنَ العلماء.

2- لا بد للطاعة من صبر، ولا بد لترك المعصية من صبر، وخير معين على ذلك الدخول على الله تعالى وطلب العون منه أثناء الصلاة بكل خضوع وتذلل وافتقار، لأن أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد في صلاته.

3- موازين الآخرة غير موازين الدنيا، فالمجرم في الدنيا يمكن تخليصه وتبرئته بالوساطات والشفاعات عند مَنْ لا يخافون الله تعالى، وأما في الآخرة فهو خاضع لقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ}، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}.

4- الشفاعة المرفوضة يوم القيامة هي شفاعة الكافرين، فقد أجمع المفسرون على أن المراد بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ…} النفس الكافرة، لا كل نفس. أما المؤمنون فتنفعهم الشفاعة بإذن الله تعالى لقوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وقوله: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23]، وقد وردت أحاديث كثيرة تفيد ذلك.

5- تفضيل بني إسرائيل على العالمين ليس على إطلاقه.

فمن حيث الزمان فهو مرتبط بفترة زمانية سابقة لالتزامهم بشرع الله تعالى {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}، وغضب عليهم ولعنهم.

ومن حيث الأشخاص، لا تقتضي هذه الأفضلية بأن يكون كل فرد منهم أفضل من كل فرد من غيرهم، فهو تفضيل من حيث الجملة لا من حيث التفصيل.

نِعَمُ الله العشر على بني إسرائيل

{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ(49)وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ(50)وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ(51)ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(53)وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(54)}

المنَاسَبَة:

لَمَّا قدّم تعالى ذكر نعمه على بني إِسرائيل إِجمالاً، بيَّن بعد ذلك أقسام تلك النعم على سبيل التفصيل، ليكون أبلغ في التذكير وأدعى إِلى الشكر، فكأنه قال: اذكروا نعمتي، واذكروا إِذ نجيناكم من آل فرعون، واذكروا إِذ فرقنا بكم البحر… إِلى آخره وكل هذه النعم تستدعي شكر المنعم جل وعلا لا كفرانه وعصيانه.

{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ} أي اذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم حين نجيت آباءكم {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} أي من بطش فرعون وأشياعه العتاة، والخطاب للأبناء المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم إِذ أنّ النعمة على الآباء نعمة على الأبناء {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} أي يولونكم ويذيقونكم أشد العذاب وأفظعه. والسوء هو المشتمل على ألوان شتى من العذاب كالجلد والأعمال الشاقة ونحوها.

{يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ} أي يذبحون الذكور من الأولاد {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ} أي يستبقون الإِناث على قيد الحياة للخدمة {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} أي فيما ذكر من العذاب المهين من الذبح والاستحياء، محنة واختبارٌ عظيم لكم من الله تعالى بتسليطهم عليكم ليتميز البرُّ من الفاجر.

قوله تعالى {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} ورد في موضع آخر بـ {وإذ أنجيناكم من آل فرعون…}، وهناك فرق كبير بين كلمة "نَجَّى" وكلمة "أَنْجى"، فكلمة نَجّى تكون وقت نزول العذاب، وكلمة أَنْجى تمنع عنهم العذاب، الأولى للتخليص من العذاب والثانية لإبعاده نهائياً ففضل الله عليهم كان على مرحلتين: الأولى أنه خلّصهم من عذاب واقع عليهم، والثانية أبعدهم عن آل فرعون فخلّصهم منه نهائياً.

{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} أي اذكروا أيضاً إِذ فلقنا لكم البحر حتى ظهرت لكم الأرض اليابسة فمشيتم عليها {فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} أي نجيناكم من الغرق وأغرقنا فرعون وقومه، وذلك أن موسى عليه السلام عندما رأى فرعون وجيشه يتّجهون إلى البحر ليعبروه أراد أن يضرب البحر ليعود إلى السيولة، فلا يلحق بهم آل فرعون، أوحى الله تعالى إليه: {وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ} أي اتركه كما هو حتى يتبعكم فرعون وجيشه ليهلكوا {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} أي وأنتم تشاهدون ذلك فقد كان آية باهرة من آيات الله في إِنجاء أوليائه وإِهلاك أعدائه.

والله تعالى أراد أن يرى بنو إسرائيل آل فرعون وهم يغرقون ليذهب غيض قلوبهم على أعدائهم، وتحتمل معنى آخر وهو أن ينظر بعضكم إلى بعض وأنتم غير مصدقين أنكم نجوتم من هذا البلاء وفي نفس الوقت تطمئنون إلى أن عدوكم لن يطاردكم مرة أخرى لأنكم رأيتم مصرعه بأُمّ أعينكم.

وفرعون: لقب لكل مَنْ ملك مصر قبل البطالسة، مثل قيصر لملك الروم، وكسرى لملك الفرس، وتُبّع لملك اليمن، والنجاشي لملك الحبشة.

{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} أي وعدنا موسى أن نعطيه التوراة بعد أربعين ليلة وكان ذلك بعد نجاتكم وإِهلاك فرعون {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} أي عبدتم العجل {مِنْ بَعْدِهِ} أي بعد غيبته عنكم حين ذهب لميقات ربه {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} أي معتدون في تلك العبادة ظالمون لأنفسكم.

أصل هذا الذهب الذي صنع لهم السامريُّ منه عجلاً من الحليّ التي أخذوها خِلسة من نساء آل فرعون أثناء خدمتهم لهن، ولذا فتنهم الله بالمال الحرام، لأن المال الحرام لا يأتي منه خير، بل ينقلب على صاحبه شراً ووبالاً، فلا بد من أخذ العبرة مما حصل لهم، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "إن الله طَيّب ولا يقبل إلا طيّباً" [رواه مسلم].

{ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ} أي تجاوزنا عن تلك الجريمة الشنيعة {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي من بعد ذلك الاتخاذ المتناهي في القبح {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي لكي تشكروا نعمة الله عليكم وتستمروا بعد ذلك على الطاعة.

{وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} أي واذكروا نعمتي أيضاً حين أعطيت موسى التوراة الفارقة بين الحق والباطل وأيدته بالمعجزات {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي لكي تهتدوا بالتدبر فيها والعمل بما فيها من أحكام.

والكتاب: هو التوراة. وأمّا الفرقان: فقد اختلفوا في تفسيره، فقيل هو مرادف للكتاب من باب التأكيد، وقيل هي الأشياء التي يُفَرق الله بها بين الحق والباطل ولقد عَلَّمها الحق تعالى لموسى عليه السلام، وتطلق هذه الكلمة على كل ما يُفَرق بين الحق والباطل ولذلك سمى الله يوم بدر بقوله: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}.

ثم بَيَّنَ تعالى كيفية وقوع العفو المذكور بقوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ} أي واذكروا حين قال موسى لقومه بعدما رجع من الموعد الذي وعده ربه فرآهم قد عبدوا العجل يا قوم لقد ظلمتم أنفسكم {بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} أي بعبادتكم للعجل {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} أي توبوا إِلى من خلقكم بريئاً من العيب والنقصان {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} أي ليقتل البريء منكم المجرم {ذَلِكُمْ} أي القتل {خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} أي رضاكم بحكم الله ونزولكم عند أمره خير لكم عند الخالق العظيم {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أي قبل توبتكم {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} أي عظيم المغفرة واسع التوبة.

وقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} جزاء لها على عبادة غير الله، فكان تكفير الذنب أن ترد هذه النفس إلى بارئها بالقتل، وقد أوقفهم موسى عليه السلام صفوفاً وأمر الذين لم يعبدوا العجل بقتل الذين عبدوا العجل وعندما قتل منهم قرابة سبعين ألفاً استصرخ موسى وهارون ربهما وقالا: "البكية البكية، أي: أبكوا عسى أن يعفوا الله عنهم، ووقفوا يبكون أمام حائط المبكى فرحمهم الله.

ما يستخلص من الآيات [49-54]:

1- لكل ظالم متكبر نهاية وخيمة، ففرعون كان هلاكه بالإغراق، وقارون بالخسف وغيرها بشتى أنواع البلاء الذي ذكره القرآن {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} الذين جاؤوا من بعدهم إلى يوم القيامة.

ولكل مستضعف مظلوم فرج قريب ونصر محقق طال الزمن أو قصر، كما جاء في الحديث القدسي: "وعزتي وجلال لأنصرنك ولو بعد حين".

2- نصرة المظلوم على عدوه نعمة إلهية تستوجب الشكر، ولذا اتخذ بنو إسرائيل يوم عاشوراء الذي أنجاه الله فيه من الغرق عيداً يتقربون فيه إلى الله بالصيام، وعندما قدم رسول الله صلى اللهعليه وسلم المدينة ووجدهم على ذلك، قال لهم: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وغرّق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن أحق وأولى بموسى منكم فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه بصيامه [رواه مسلم]. وقال الترمذي: وروي عن ابن عباس أنه قال: "صوموا التاسع والعاشر وخالفوا اليهود"، واحتج بهذا الحديث الشافعي وأحمد وإسحاق.

والشكر هو: الاجتهاد في بذل الطاعة مع الاجتناب للمعصية في السر والعلانية، كما قال سهل بن عبيد الله.

3- المبادرة إلى التوبة هي السبيل إلى التخلص من المعصية، والله جل جلاله {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر: 3]، بل إنه تعالى يغفر جميع الذنوب {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53].

4- الصبر هو مفتاح الفرج، قال القشيري: من صبر في الله على قضاء الله عوضه الله صحبة أوليائه، هؤلاء بنو إسرائيل صبروا على مقاساة الضر من فرعون وقومه فجعل منهم أنبياء وجعل منهم ملوكاً وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين [البحر المحيط 1/194].

إلا أن الصبر لا يعني أبداً الرضا بالضيح، فالمسلم لا يعرف الذل والخنوع، بل عليه أن يقاوم الظلم والاستبداد بالوسائل التي شرعها الله له {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}.

5- إن الله تعالى ذكر لنا في هذه الآيات طريقة تخلص بني إسرائيل من أوزارهم بالقتل ليظهر عظيم فضله على هذه الأمة المحمدية حيث إنه تعالى خَفَّف عنها ووضع عنها الأغلال التي كانت على الأمم السابقة، قال تعالى في وصف نبيه عليه الصلاة والسلام: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] استجابة لدعاء عباده الذي علمهم إياه في سورة البقرة {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286].

فمن ارتكب من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وِزْراً لا يتعلق بحقوق الآخرين أجزأته التوبة النصوح بينه وبين الله تعالى.

تتمة النِّعَم العشر على بني إسرائيل

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ(55)ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(56)وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(57)وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ(58)فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ(59)وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ(60)}

المنَاسَبَة:

بعد أن ذكّر تعالى بني إسرائيل بالنعم، بيَّن لوناً من ألوان طغيانهم وجحودهم، وتبديلهم لأوامر الله، وهم مع الكفر والعصيان، يعاملون باللطف والإِحسان، فما أقبحهم من أمة وما أخزاهم!! قال الطبري: لما تاب بنو إِسرائيل من عبادة العجل أمر الله تعالى موسى أن يختار من قومه رجالاً يعتذرون إِليه من عبادتهم العجل، فاختار موسى سبعين رجلاً من خيارهم كما قال تعالى {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا} وقال لهم: صوموا وتطهروا وطهّروا ثيابكم ففعلوا، وخرج بهم إِلى "طور سيناء" فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا القوم حتى إِذا دخلوا في الغمام وقعدوا سجوداً، وعلموا من حال موسى أن الله يكلمه يأمره وينهاه، فلما انكشف عن موسى الغمام أقبل إِليهم فقالوا لموسى {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً}.

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى} أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين خرجتم مع موسى لتعتذروا إِلى الله من عبادة العجل فقلتم { لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} أي لن نصدّق لك بأنَّك رسول من عند الله {حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} أي حتى نرى الله علانية.

وسؤالهم رؤية الله جهرة، هو سؤال عناد وحماقة، لأن الله تعالى فوق المادة، {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103].

والدليل على ذلك أن الإنسان ذاته مكوّن من روح ومادة، وقد أوصله علمه عبر السنين الطوال من حلقات البحث المتسلسلة إلى إدراك بعض الجوانب المادية في جسمه، ولكنه عجز عن إدراك حقيقة الروح فضلاً عن رؤيتها {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا}

[الإسراء: 85]، {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]، فإذا عجز عن إدراك هذه الروح التي في جسده وهي مخلوقة فكيف يطمع أن يدرك، أو يرى الله جهرة وهو الخالق المصوِّر؟!

{فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} أي أرسل الله عليهم ناراً من السماء فأحرقهم {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} أي ما حلّ بكم ثم لما ماتوا قام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: ربّ ماذا أقول لبني إِسرائيل وقد أهلكت خيارهم، ومازال يدعو ربه حتى أحياهم قال تعالى {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} أي أحييناكم بعد أن مكثتم ميتين يوماً وليلة، فقُاموا وعاشوا ينظر بعضهم إِلى بعض كيف يحيون {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي لتشكروا الله على إِنعامه عليكم بالبعث بعد الموت.

ثم ذكّرهم تعالى بنعمته عليهم وهم في التيه لما امتنعوا من دخول مدينة الجبارين وقتالهم وقالوا لموسى {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} فَعُوقِبُوا على ذلك بالضياع أربعين سنة يتيهون في الأرض فقال تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} أي سترناكم بالسحاب من حر الشمس وجعلناه عليكم كالظُلَّة {وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} أي أنعمنا عليكم بأنواعٍ من الطعام والشراب من غير كدٍّ ولا تعب،والمنُّ كان ينزل عليهم مثل العسل فيمزجونه بالماء ثم يشربونه، والسلوى: طير يشبه السماني لذيذ الطعم.

{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي وقلنا لهم كلوا من لذائذ نعم الله {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي أنهم إذ كفروا هذه النعم الجليلة، ما ظلمونا ولكن ظلموا أنفسهم، لأن وبال العصيان راجع عليهم.

قال الشيخ الشعراوي: إن الدنيا عالم أغيار، والنعمة التي أنت فيها زائلة عنك، إما أن تتركها بالموت أو تتركك وتزول عنك. وتخرج من الدنيا تحمل أعمالك فقط، كل شيء زال وبقيت ذنوبك تحملها إلى الآخرة، ولذلك فإن كل من عصى الله وتمرّد على دينه قد ظلم نفسه لأنه قادها إلى العذاب الأبدي طمعاً في نفوذ أو مال زال عنه فترة قصيرة ولم يدم. فكأنه ظلمها بأن حرمها من نعيم أبدي وأعطاها شهوة قصيرة عاجلة.

{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} أي واذكروا أيضاً نعمتي عليكم حين قلنا لكم بعد خروجكم من التيه، ادخلوا بيت المقدس {فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} أي كلوا منها أكلاً واسعاً هنيئاً {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} أي وادخلوا باب القرية ساجدين لله شكراً على خلاصكم من التيه {وَقُولُوا حِطَّةٌ} أي قولوا يا ربنا حطَّ عنا ذنوبنا واغفر لنا خطايانا {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} أي نمح ذنوبكم ونَكَفِّرْ سيئاتكم {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} أي نزيد من أحسن إحساناً، بالثواب العظيم، والأجر الجزيل.

{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي غَيَّر الظالمون أمر الله فقالوا {قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} حيث دخلوا يزحفون على "أدبارهم" وقالوا على سبيل الاستهزاء "حِنْطة" وهي القمح، ليطوعوا اللفظ لأغراضهم فكأن المسألة ليست عدم قدرة على الطاعة ولكن رغبة في المخالفة وسخرية من أوامر الله. {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} أي أنزلنا عليهم طاعوناً وبلاءً {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} أي بسبب عصيانهم وخروجهم عن طاعة الله، روي أنه مات بالطاعون في ساعة واحدة منهم سبعون ألفاً.

{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين طلب موسى السقيا لقومه وقد عطشوا في التيه {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} أي اضرب أيّ حجر كان تتفجر بقدرتنا العيون منه {فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} أي فضرب فتدفق الماء منه بقوة وخرجت منه اثنتا عشرة عيناً بقدر قبائلهم.

وهنا ينبغي أن نقف وقفة، فالإنسان حين يستسقي الله يطلب منه أن ينزل عليه ماء من السماء، والحق جل جلاله كان قادراً على إنزاله من السماء، ولكنه تعالى أرادها معجزة لبني إسرائيل فسقاهم من الحجر التي تحت أرجلهم، ليعلموا أنه يستطيع أن يأتي بالماء من الحجر الصلب، وأن نبع الماء من متعلقات "كُنْ فيكون" وإن اقتضت حكمته تعالى ربط الأسباب بمسبباتها.

وصح هذا فقد تعنت بنو إسرائيل وقالوا لموسى عليه السلام: هب أننا في مكان لا حجر فيه، من أين ينبع الماء؟ فلا بد أن نأخذ معنا الحجر حتى عطشنا ضربت الحجر وشربنا. وقد نسوا أن سقوا بكلمة "كُنْ" لا بالحجر، ولكنهم قوم لا يؤمنون إلا بما يرونه بأُمِّ أعينهم.

{قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} أي علمت كل قبيلة مكان شربها لئلا يتنازعوا {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ} أي قلنا لهم: كلوا من المنّ والسلوى، واشربوا من هذا الماء، من غير كدّ منكم ولا تعب، بل هو من خالص إِنعام الله {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} أي ولا تطغوا في الأرض بأنواع البغي والفساد.

ما يستخلص من الآيات [55-60]:

1- تذكير القرآن بني إسرائيل المعاصرين بما أنعمه الله من نعم على أصولهم فيه دلالة على أن الفرع يتأثر بسلوك الأصل إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً. ولذا قال الحق تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]. وقال أيضاً في كنز الغلامين اليتيمين: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: 82]، فكان صلاح الأب أو الجد سبباً في صلاح الابن وحفظ ما تركه له من مال.

2- أفاد قوله تعالى: {وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}، أن الله تعالى لا تضره معصية العاصي ولا تنفعه طاعة الطائع، وهو معنى قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس: 23].

3- تفجير الماء من الحجر، هي من المعجزات التي أجراها الله على يد موسى عليه السلام. وكان الله قادراً على تفجير الماء وفلق البحر من غير ضرب عصا، ولكنه جلّت قدرته أراد أن يعلم عباده ربط المسببات بأسبابها، لكي يسعوا إلى الأخذ بها. وكذلك الحال بالنسبة لسائر المعجزات، وكذلك تقريب لفهم المعجزة.

4- تحريف الكالم وتبديله صفة عريقة في بني إسرائيل، فقال لهم الله تعالى: {وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ} فقالوا: حِنْطَة، أي: القمح، وموسى عليه السلام بين أظهرهم، فكيف وقد غاب عنهم؟ فاليوم يتفقون معك على شيء وغداً يحرفونه ويبدلونه والعرب في سباتهم نائمون.

5- أفادت آية: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى} تقرير سنة الاستسقاء بإظهار سنة العبودية والفقر والذلة مع التوبة النصوح، وتكون بخروج الإمام -أو من ينوب عنه- مع المسلمين إلى المصلى للخطبة والصلاة والدعاء لما رواه مسلم عن عبد الله بن زيد المازيني قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فاستسقى وحول رداءه ثم صلى ركعتين".

وذهب أبو حنيفة إلى أنه ليس من سنة الاستسقاء صلاة ولا خروج، وإنما هو دعاء لا غير، واحتج بحديث أنس في الصحيحين، وردّ عنه القرطبي بقوله: ولا حجة له فيه، فإن ذلك كان دعاء عُجِّلت إجابته فاكتفى به عما سواه ولم يقصد بذلك بيان سنته، ولما قصد البيان بيّن فعله بحديث مسلم السابق. [انظر القرطبي ج1/418].

6- دَلَّ قوله تعالى {كُلُوا واشْرَبوا} وقوله { وَلا تَعْثَوا في الأرْضِ مُفْسِدين} على إباحة النعم والتمتع بها، والنهي عن المعاصي والإنذار بعقوبتها وأضرارها.

بعض مطامع اليهود وجزاؤهم

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُو بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ(61)}

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى} أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين قلتم لنبيكم موسى وأنتم في الصحراء تأكلون من المنّ والسلوى {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} أي على نوع واحدٍ من الطعام وهو المنُّ والسلوى وقد وُصِفَ الطعام هنا بأنه واحد مع أنه مكوّن من صنفين لأنه كان يأتيهم من جهة واحدة من السماء، فتطلعت أنظارهم الأرض، فقالوا: {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ} أي ادع الله أن يرزقنا غير ذلك الطعام فقد سئمنا المنَّ والسلوى وكرهناه ونريد ما تخرجه الأرض من الحبوب والبقول {مِنْ بَقْلِهَا} من خضرتها كالنعناع والكرفس والكراث {وَقِثَّائِهَا} يعني القتَّة التي تشبه الخيار {وَفُومِهَا} أي الثوم {وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} أي العدس والبصل المعروفان.

أراد الله تعالى أن يرفع من قدرهم فأنزل عليهم المنّ والسلوى من غير تعب منهم ولكنهم فضلوا الحنين إلى طعام العبيد، فطلبوا ما تخرجه الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها. فعتب الحق جلّ جلاله عليهم لعلهم يرجعون.

{قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} أي قال لهم موسى مُنْكِراً عليهم: ويْحَكُم أتستبدلون الخسيس بالنفيس! وتفضلون البصل والبقل والثوم على المنّ والسلوى؟

فائدة: تدخل الباء بعد كلمة الاستبدال على المتروك، فتقول: اشتريت الثوب بدرهم، أي أخذت الثوب وتركت الدرهم. فبنو إسرائيل تركوا الذي هو خير وهو المنّ والسلوى وأخذوا الذي هو أدنى، بمعنى أنه دونه رتبة في الخيرية، لا بمعنى أنه دنيء لأن رزق الله المباح لا يوصف بالدناءة.

{اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} أي ادخلوا مصراً من الأمصار وبلداً من البلدان أيّاً كان لتجدوا فيه مثل هذه الأشياء.

ومن الممكن أن تكون مصر التي عاش فيها فرعون.

وكلمة مصر تطلق على كل مكان له مفتي وأمير وقاض، وهي مأخوذة من الاقتطاع، لأنه مكان يقطع امتداد الأرض الخلاء.

ثم قال تعالى منبهاً على ضلالهم وفسادهم وبغيهم وعدوانهم {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} أي لزمهم الذل والهوان وضرب عليهم الصغار والخزي الأبدي الذي لا يفارقهم مدى الحياة {وَبَاءُو بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ} أي انصرفوا ورجعوا بالغضب والسخط الشديد من الله {ذَلِكَ} أي ما نالوه من الذل والهوان والسخط والغضب بسبب ما اقترفوه من الجرائم الشنيعة {بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُون النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي بسبب كفرهم بآيات الله جحوداً واستكباراً، وقتلهم أنبياء الله ظلماً وعدواناً {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} أي بسبب عصيانهم وطغيانهم وتمردهم عَلى أحكام الله.

فائدة: فإن قيل: كيف جاز أن يخلى بين الكافرين وقتل الأنبياء؟ أجيب: بأن ذلك كرامة لهم، وزيادة في منازلهم، كمثل من يُقتل في سبيل الله من المؤمنين، وليس ذلك بِخذْلان لهم. قال ابن عباس والحسن البصري: لم يُقتل نبي قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال، وكلّ من أمر بقتال نُصِر.

ما يستخلص من الآيات [61]:

1- ترك الأفضل من المطعومات وطلب الأدنى منه من بصل وعدس وثوم ونحوها، دليل على أن النفس البشرية قد تبدّل الطيّب بالخبيث، والأرقى بالأدنى. قال الحسن البصري: كان اليهود نتانى أهل كرّاث وأبصال وأعداس، فنزلوا إلى عكرهم -أي أصلهم- عِكْرَ السوء، واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم، فقالوا (لن نصبر على طعام واحد)، وقولهم (لن نصبر) يدل على كراهتهم ذلك الطعام، وعدم الشكر على النعمة دليل الزوال، فكأنهم طلبوا زوالها ومجيء غيرها.

2- حكم أكل الثوم والبصل وما له رائحة.

3- أفاد قوله تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} أن الله تعالى يخلق الأرزاق وغيرها بالأسباب، وبالأمر المباشر بكلمة (كُنْ) وما يخلقه بغير سبب يكون أفضل مما خلقه بسبب، لأن الخلق المباشر عطاء خالص من الله تعالى ولا دخل ليد الإنسان فيه، فما كان خالصاً من عطاء الله فهو قريب من عطاء الآخرة، ولذا قال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} فوصف رزق الدنيا بأنه فتنة، ووصف رزق الآخرة بأنه خير وأبقى.

4- لم يستجب بنو إسرائيل إلى تأنيب الله لهم، وأصروا على استبدال ما هو أدنى بما هو خير، فأجابهم الله لذلك وقال لهم: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} واستعمل البيان القرآني كلمة {اهبِطُوا} ليعبِّر عن نزولهم من الأعلى إلى الأدنى.

5- الجزاء الذي أنزله الله باليهود من الذلة والمسكنة وإحلال الغضب بهم، هو حق وعدل لأنه مطابق لجرائمهم، وهي: الاستكبار عن اتباع الحق وكفرهم بآيات الله، وإهانتهم الأنبياء لدرجة أن سوّلت لهم أنفسهم قتلهم بغير حق لأن الأنبياء معصومون من أن يصدر منهم ما يقتلون به، ولذا قال تعالى: {بغير حق}. وقد روى الإمام أحمد عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أشد الناس عذاباً يوم القيامة: رجل قتله نبي أو قَتَل نبياً، وإمام ضلالة، وممثل من الممثلين -أي بالتمثيل بالقتلى-".

6- الفرق بين الأنبياء والرسل: الأنبياء أسوة سلوكية يوحى إليهم ولكنهم لا يأتون بمنهج جديد، وأما الرسل فهو أسوة سلوكية يوحى إليهم بمنهج جديد، ولذلك كان كل رسول نبياً وليس كل نبي رسولاً. والله تعالى يعصم أنبياءه ورسله من الخطيئة، ويعصم رسله من القتل بخلاف الأنبياء فهم عرضة للقتل. وقد بعث الله أنبياءه لبني إسرائيل ليقتدوا بهم فقتلوهم لأنهم فضحوا كذبهم وفسقهم وانحرافهم، وذلك حال المنحرف في كل زمان فإنه يكره الملتزم ويحاول إزالته عن طريقه ولو بالقتل.

عاقبة المؤمنين

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)}

سبب النزول:

قال سلمان الفارسي: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دِين كنت معهم، فذكرت من صلاتهم وعبادتهم فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} الآية. وأخرج الواحدي عن مجاهد قال: لما قص سلمان على رسول الله صلى الله عليه وسلم قصة أصحابه قال: هم في النار. قال سلمان: فأظلمت عليَّ الأرض، فنزلت {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} إلى قوله: {يَحْزَنُونَ} قال: فكأنما كُشِفَ عني جبل.

المناسبة:

اتبع الأسلوب القرآني منهج التذكير في ثنايا بيان القصة القرآنية، وفتح باب الأمل لدفع اليأس والقنوط أثناء توضيح الأسباب الموجبة للعقاب، للفت النظر وجذب الانتباه، وهكذا كان الأمر هنا، فبعد أن ذكَّر الله اليهود بأفعال أسلافهم قديماً، وأوضح مصيرهم وجزاءهم، ليعتبر المعاصرون، أورد مبدأً عاماً لكل المؤمنين: وهو أن كل مؤمن بالله واليوم الآخر تمسَّكَ بحبل الدين المتين، وعمل صالحاً، فهو من الفائزين، سواء أكان من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم أم من الذين هادوا أي تابوا من أتباع موسى عليه السلام، أم من الذين قالوا نحن أنصار الله من أتباع عيسى عليه السلام أم من الذين تركوا دينهم مطلقاً وأسلموا، قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38].

دعا تعالى أصحاب المِلَل والنِّحَل "المؤمنين، واليهود، والنصارى، والصابئين" إِلى الإِيمان الصادق وإِخلاص العمل لله وساقه بصيغة الخبر فقال {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} المؤمنون أتباع محمد {وَالَّذِينَ هَادُوا} أي الذين تابوا من أتباع موسى {وَالنَّصَارَى} الذين قالوا نحن أنصار الله من أتباع عيسى {وَالصَّابِئِينَ} قوم عدلوا عن اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي من آمن من هذه الطوائف إيماناً صادقاً فصدَّق بالله، وأيقن بالآخرة وترك عقائد الشرك من التشبيه أو الكفر برسالة الإسلام وإنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فصار مسلماً {وَعَمِلَ صَالِحًا} أي عمل بطاعة الله في دار الدنيا {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي لهم ثوابهم عند الله لا يضيع منه مثقال ذرة {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي ليس على هؤلاء المؤمنين خوف في الآخرة، حين يخاف الكفار من العقاب، ويحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب.

ما يستخلص من الآيات [62]:

أفادت هذه الآية أن مدار الفوز على الإيمان بالله واليوم الآخر وعلامة ذلك العمل الصالح، لأن الإيمان إن لم يقترن بالعمل الصالح فهو عرضة للزوال، ولذا فقد قرن الإيمان بالعمل الصالح في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية كما قُرِنت الصلاة بالزكاة، ولذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدّقه العمل".

بعض جرائم اليهود وعقابهم

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(63)ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ(64)وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ(65)فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ(66)}.

المنَاسَبَة:

لمّا ذكرهم تعالى بالنعم الجليلة العظيمة، أردف ذلك ببيان ما حلَّ بهم من نقم،جزاء كفرهم وعصيانهم وتمردهم على أوامر الله، فقد كفروا النعمة، ونقضوا الميثاق، واعتدوا في السبت فمسخهم الله إِلى قردة، وهكذا شأن كل أمةٍ عتت عن أمر ربها وعصت رسله.

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين أخذنا منكم العهد المؤكد على العمل بما في التوراة.

وذلك بعد أن أنجاكم وأهلك عدوكم بالغرق ورجع موسى عليه السلام بالألواح والتوراة ووجدكم قد عبدتم العجل، ثم أعرضتم عن اتباع ما جاء فيها زاعمين أنها فوق طاقتكم، عندها كان التأديب الإلهي لكم بأن رفع جبل الطور فوقكم وخيّركم بين الامتثال لأوامره وبين أن يطبق عليكم الجبل.

{وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} أي نتقناه حتى أصبح كالظلة فوقكم وقلنا لكم {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} أي اعملوا بما في التوراة بجدٍّ وعزيمة {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} أي احفظوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} أي لتتقوا الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، أو رجاء منكم أن تكونوا من فريق المتقين.

لما رأى بنو إسرائيل الجبل فوقهم سجدوا خاشعين على الأرض مما يدل على قبولهم المنهج والتكاليف الربانية، ولكنهم كانوا وهم ساجدون ينظرون إلى الجبل خشية الوقوع عليهم. ولذلك سجود اليهود إلى يومنا هذا على جهة من الوجه، بينما تنظر الجهة الأخرى إلى أعلى. ولو سألتهم لقالوا: نحمل التوراة ثم يهتزون منتفضين لأنهم اهتزوا ساعة دفع الجبل عنهم، وهو الوضع ذاته في كل صلاة.

{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي أعرضتم عن الميثاق بعد أخذه {فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي بقبول التوبة {وَرَحْمَتُهُ} بالعفو عن الزلة {لَكُنتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ} أي لكنتم من الهالكين في الدنيا والآخرة.

فائدة: الفضل هو الزيادة عمّا تستحقه ولذا جاء في الحديث "سددوا وقاربوا وأبشروا فإنه لا يُدخِلُ أحداً الجنة عَمَلُه. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة" [رواه الشيخان وغيرهما]، لأن عمل الإنسان كله لا يعدل نعمة واحدة من نعم الله على الإنسان، فيأتي فضل الله ليدخله الجنة.

أما الرحمة فهي التي فتحت طريق التوبة لغفران الذنوب.

ومن رحمته تعالى وفضله على بني إسرائيل أن ذكر لهم أوصاف خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام في التوراة ليخرجهم من الضلالة إلى الهدى ومن الخسران المبين إلى الفوز العظيم، ولكنهم استكبروا وجحدوا وتعنتوا فاستحقوا غضب الله تعالى.

قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89].

{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} أي عرفتم ما فعلنا بمن عصى أمرنا حين خالفوا واصطادوا يوم السبت وقد نهيناهم عن ذلك.

والقصة معروفة عند اليهود -ولذا جاء التعبير القرآني {ولقد علمتم}- وهي أنتهم أرادوا يوماً للراحة فأعطاهم الله يوم السبت، وكانوا يعيشون على صيد السمك فأراد الله ابتلاءهم فحرم عليهم العمل يوم السبت، وجعل الحيتان تأتي في هذا اليوم وتطفوا على سطح الماء لتفتنهم، فإذا جاء صباح الأحد ذهبت بعيداً، فأرادوا التحايل على الله فصنعوا حياضاً عميقة، وكان السمك إذا دخلها صعب عليه الخروج منها فيصطادونه صبيحة الأحد. فبحماقة من يحتال على من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور! فكان جزاؤهم:

{فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} أي مسخناهم قردة بعد أن كانوا بشراً مع الذلة والإِهانة {فَجَعَلْنَاهَا} أي المسخة {نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} أي عقوبة زاجرة لمن شاهدها وعاينها {وَمَا خَلْفَهَا} وعبرة لمن جاء بعدها من الأمم ولم يشاهدها {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} أي عظةً وذكرى لكل عبدٍ صالحٍ متّقٍ لله سبحانه وتعالى.

ما يستخلص من الآيات [63-66]:

1- ذكرت هذه الآيات قصتين، الأولى: قصة رفع جبل الطور فوق بني إسرائيل، والثانية: قصة تحايل بني إسرائيل على الله.

الأولى: يؤخذ منها أن اليهود لا يعترفون ولا يلتزمون إلا بمنطق القوة، فلا حوار ينفع معهم، ولا عهود ولا مواثيق يثبتون عليها. والتاريخ خير شاهد على غدرهم وخيانتهم، فمبال بعض الناس يكذبون التاريخ ويعرضون عن كلام الله الشافي الواقي ويؤولونه على حسب ما تمليه عليهم أمزجتهم لتبرير مواقفهم، فتراهم يستشهدون بقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ويطبّقونها في غير موضعها، ويعرضون عن قوله تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35].

ولا تعارض بين الآيتين، فمَن أراد السلم حقيقة وردّ الحقوق كاملة إلى أصحابها سالمناه، ومن أعرض ورفع شعار السلم ليسخر منّا أدّبناه بالقوة كما علّمنا ربُّنا الخبير بخفايا النفوس وما يصلح لكلٍّ منها.

الثانية: قصة تحايل بني إسرائيل على الله ومسخهم قردة: ذهب جمهور العلماء إلى أن الله تعالى مسخ المعتدين منهم بصيد السمك يوم السبت، فقال قتادة: صار الشبان قردة والشيوخ خنازير فما نجا إلا الذين نَهَوْا عن السوء -لما ذكر القرآن في سورة الأعراف- وهلك سائرهم.

وقال بعض العلماء: لمّا وجدوا أنفسهم قد تحولوا إلى خلق أقل من الإنسان لم يأكلوا ولم يشربوا حتى ماتوا. والإنسان إذا مُسخ لا يتناسل لكي ينقرض رحمة بمن جاء بعده قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، فمقتضى العدل الإلهي ألاّ يتحمل الأبناء أوزار الآباء.

2- دلت هذه الآيات على أن المقصود بالكتب السماوية تلاوتها وفهمها للعمل بمقتضاها، وأما مجرد التغني بالألفاظ دون الوقوف على المعاني لفهم خطاب الشارع قصد التزامه فإنه يعرض صاحبه لغضب الله كما حَلَّ ببني إسرائيل، ولذا جاء في الحديث الذي رواه النسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ من شرّ الناس رجلاً فاسقاً يقرأ القرآن لا يرعوي إلى شيء منه". وقال أيضاً: "رُبّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه". ولا يكون ذلك إلا عند عدم تدبّره وترك العمل به.

قصة البقرة وإحياء الميت

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ(67)قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ(68)قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ(69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ(70)قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ(71)وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ(72)فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(73)}.

المنَاسَبَة:

لما ذكر تعالى بعض قبائح اليهود وجرائمهم، من نقض المواثيق، واعتدائهم في السبت، وتمردهم على الله عز وجل في تطبيق شريعته المنزلة، أعقبه بذكر نوعٍ من مساوئهم ألا وهو مخالفتهم للأنبياء وتكذبيهم لهم، وعدم مسارعتهم لامتثال الأوامر التي يوحيها الله إِليهم، ثم كثرة اللجاج والعناد للرسل صلوات الله عليهم، وجفاؤهم في مخاطبة نبيّهم الكريم موسى عليه السلام، إلى أن ما هنالك من قبائح ومساوئ.

سبب هذه الحادثة العظيمة التي سميت أطول سورة باسمها، أن رجلاً من بني إسرائيل كان ثرياً جداً ولم يكن له وارث، فتآمر على ابن أخيه فقتله ليلاً ثم أخذ الجثة وألقاها في مكان قريب من إحدى القرى المجاورة ليتهموا بقتله. وكذلك كان الحال واحتدم الخلاف بينهم وأقارب القتيل، فذهبوا إلى موسى عليه السلام ليدعو ربه فيكشف القاتل، فاستجاب الله دعاءه وأمرهم بذبح البقرة.

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين قال لكم نبيكم موسى إِن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة.

جاء الأمر هنا من غير علة وقد أرجئت إلى آخر القصة، والحكمة في ذلك أن الأمر إذا كان صادراً ممّن هو أعلى ينبغي المبادرة إلى تنفيذه من غير البحث عن علة ذلك، فالعبد يمتثل أوامر مولاه ظهرت له الحكمة والعلة أو أخفيت عنه للابتلاء. قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].

{قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} أي فكان جوابكم الوقح لنبيكم أن قلتم: أتهزأ بنا يا موسى {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ} أي ألتجئ إِلى الله أن أكون في زمرة المستهزئين الجاهلين.

{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} أي ما هي هذه البقرة وأي شيء صفتها؟ {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} أي لا كبيرة هرمة، ولا صغيرة لم يلحقها الفحل {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} أي وسط بين الكبيرة والصغيرة {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} أي افعلوا ما أمركم به ربكم ولا تتعنتوا ولا تشدّدوا فيشدّد الله عليكم.

{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} أي ما هو لونها أبيض أم أسود أم غير ذلك؟ {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} أي إِنها بقرة صفراء شديدة الصفرة، حسن منظرها تسر كل من رآها. ومع هذا اختلفوا بينهم في تحديدها فرجعوا إلى موسى عليه السلام.

و {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} أعادوا السؤال عن حال البقرة بعد أن عرفوا سنها ولونها ليزدادوا بياناً لوصفها، ثم اعتذروا بأن البقر الموصوف بكونه عواناً وبالصفرة الفاقعة كثيرٌ {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} أي التبس الأمر علينا فلم ندر ما البقرة المأمورة بذبحها {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} أي سنهتدي إِلى معرفتها إِن شاء الله، ولو لم يقولوا ذلك لم يهتدوا إِليها أبداً كما ثبت في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: "لو لم يستثنوا ويقولوا: إن شاء الله لما تبينت لهم آخر الأبد".

{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} أي ليست هذه البقرة مسخرة لحراثة الأرض، ولا لسقاية الزرع {مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} أي سليمة من العيوب ليس فيها لونٌ آخر يخالف لونها فهي صفراء كلها {قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أي الآن بينتها لنا بياناً شافياً لا غموض فيه ولا لبس، وكأن ما قاله لهم موسى عليه السلام وحياً من ربه قبل ذلك ليس حقاً. قال تعالى إِخباراً عنهم {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} لغلاء ثمنها أو خوف الفضيحة أو تماطلاً في تطبيق الأوامر الإلهية كما هو شأنهم ولعله الأرجح.

ثم أخبر تعالى عن سبب أمرهم بذبح البقرة، وعما شهدوه من آيات الله الباهرة {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين قتلتم نفساً {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} أي تخاصمتم وتدافعتم بشأنها، وأصبح كل فريق يدفع التهمة عن نفسه وينسبها لغيره {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} أي مظهر ما تخفونه {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} أي اضربوا القتيل بشيء من البقرة يحيا ويخبركم عن قاتله {كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} أي كما أحيا هذا القتيل أمام أبصاركم يحيي الموتى من قبورهم {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي يريكم دلائل قدرته لتتفكروا وتتدبروا وتعلموا أن الله على كل شيء قدير.

ما يستخلص من الآيات [67-73]:

1- أراد الله تعالى من قصة ذبح البقرة وضرْب الميت ببعضها أن يثبت لبني إسرائيل ومَنْ جاء بعدهم من المتشكيين أن الله {وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 6-7].

ومن هنا سميت أطول سورة في القرآن باسمها -سورة البقرة- لأن القصة عالجت قضية تتعلق بركن أساسي من أركان الإيمان ألا وهو الإيمان باليوم الآخر الذي يسبقه بعث الناس من القبور.

2- إن بني إسرائيل أكثروا من الأسئلة وشددوا فشدد الله عليهم ولو أنهم امتثلوا الأمر في البداية وذبحوا أية بقرة لأجزأتهم. لأجل ذلك حذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من كثرة الأسئلة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم" [رواه الشيخان]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ…} [المائدة: 101].

والأسئلة المنهي عنها: مثل السؤال عما أخفاه الله عن عباده كالسؤال عن قيام الساعة وعن حقيقة الروح، وعن القضاء والقدر، والسؤال على سبيل التعنت والعبث والاستهزاء، وسؤال المعجزات، والسؤال عن الأغاليط والسؤال عما لا يحتاج إليه، والسؤال عما سكت عنه الشرع من الحلال والحرام وما نحو ذلك.

وأما السؤال عمّا ينفع وينبني عليه عمل فهو أمر مطلوب شرعاً.

3- كان الأمر بذبح البقرة دون غيرها من الحيوان لأنها من جنس ما عبدوه وهو العجل ليُهَوِّن عندهم أمر تعظيمه.

4- المال الحلال يبارك الله فيه ولو كان قليلاً، وخير دليل على ذلك هذه القصة فقد كانت تلك البقرة لرجل صالح يتحرى الحلال فعندما حضرته الوفاة ورث زوجه وابنه الصغير عِجْلة كانت فيما بعد تلك البقرة الوحيدة التي انطبقت عليها المواصفات، فكان ثمنها كما جاء في الحديث (… حتى انتهوا إلى البقرة التي أمِروا بذبحها فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها فقال: والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهباً فأخذوها بملء جلدها ذهباً فذبحوها …" [تفسير ابن كثير 1/108].

5- أظهر الله تعالى عظمته لخلقه من خلال هذه الآية، وذلك أنه أحيا ميتاً بجزء من ميت، ولو أنه تعالى أحياه بدون أن يضرب ببعضها لقالوا: لم يكن ميتاً، وإنما كان في حالة إغماءة ثم أفاق. ولكنه تعالى أراد أن يعطيهم درساً وهم الماديون {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ليرى بنو إسرائيل وهم على قيد الحياة كيف يحي الله الموتى، وليعرفوا أن الإنسان لا يبقى حياً بأسباب الحياة، ولكن بإرادة مسبب الحياة جَلّ جلاله.

جفاء اليهود وقسوة قلوبهم

{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(74)}.

ثم أخبر تعالى عن جفائهم وقسوة قلوبهم فقال {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} أي صلبت قلوبكم يا معشر اليهود فلا يؤثر فيها وعظٌ ولا تذكير {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي من بعد رؤية المعجزات الباهرة {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} أي بعضها كالحجارة وبعضها أشد قسوة من الحجارة كالحديد.

ذكر الله تعالى القلب ونسب القسوة إليه ولم ينسبها إلى النفوس، لأن القلب هو موضع الرقة والرحمة والعطف، فكلما امتلأ القلب ذكراً لله تعالى امتلأ رقة ورحمة وعطفاً، ولكما غفل عن ذكر الله ازداد قسوة وجفاء، وانعكست آثاره في الحالتين على الجوارح فيصلح المجتمع به أو يفسد. ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" [رواه الشيخان].

{وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ} أي تتدفق منها الأنهار الغزيرة {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} أي من الحجارة ما يتصدع إِشفاقاً من عظمة الله فينبع منه الماء.

والفرق بين تفجر الأنهار من الحجارة وتشققها ليخرج منها الماء، أنه عند تفجر الأنهار يأتي الماء إلينا ونحن في مكاننا. وعندما تتشقق ليخرج منها الماء نذهب نحن إلى مكان الماء لنأخذ حاجتنا. وفرق بين عطاء نذهب إليه، وعطاء يأتي إلينا. وكلٌّ من عطاء ربنا.

{وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} أي ومنها ما يتفتّت ويتردّى من رؤوس الجبال من خشية الله.

وحدث ذلك عندما تجلى الله تعالى للجبل فجعله دكاً، قال تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143].

فالحجارة تلين وتخشع وقلوبكم يا معشر اليهود لا تتأثر ولا تلين {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي أنه تعالى رقيب على أعمالكم لا تخفى عليه خافية، وسيجازيكم عليها يوم القيامة، وفي هذا وعيد وتهديد.

ما يستخلص من الآيات [74]:

1- أساس شيء في الإنسان قلبه، فإذا صلح صلحت سائر جوارحه وإذا فسد فسدت سائر جوارحه.

2- القلب معرض لأمراض كثيرة، وأخطرها القسوة التي أشارت إليها الآية القرآنية. وسبب القسوة العناء والتماطل في تطبيق أوامر الله تعالى كما فعل بنو إسرائيل. ومن قسى قلبه لا ينفعه بشيء إن لم يتدارك نفسه، وهو عرضة لغضب الله، ومن غضب الله عليه طبع على قلبه. ومن طُبِع على قلبه فلن يهتدي أبداً.

فعلى المسلم العاقل الراجي رحمة ربه أن يبادر إلى تطبيق أوامر ربه فور استماعها لقوله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51].

3- الحجارة في قبضة الله تعالى والقلوب كذلك، فمن شعر بقسوة في قلبه فعليه أن يلتجيء إلى الله تعالى مالك القلوب ليغير قلبه إلى أحسن حال وليفجره خشوعاً وليناً وانضياءاً كما فجّر الحجارة عيوناً وأنهاراً {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].

استبعاد إيمان اليهود

{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(75)وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ(76)أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ(77)وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ(78)}.

المنَاسَبَة:

لما ذكر تعالى عناد اليهود، وعدم امتثالهم لأوامر الله تعالى، ومجادلتهم للأنبياء الكرام، وعدم الانقياد والإِذعان، عقَّب ذلك بذكر بعض القبائح والجرائم التي ارتكبوها كتحريف كلام الله تعالى، وادعائهم بأنهم أحباب الله، وأن النار لن تمسَّهم إِلا بضعة أيام قليلة، إلى آخر ما هم عليه من أماني كاذبة ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، وقد بدأ تعالى الآيات بتيئيس المسلمين من إِيمانهم لأنهم فطروا على الضلال، وجبلوا على العناد والمكابرة.

سبب النزول:

نزلت في الأنصار كانوا حلفاء لليهود وبينهم جوارٌ ورضاعة وكانوا يودون لو أسلموا فأنزل الله تعالى {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ..} الآية.

وروى مجاهد عن ابن عباس أن اليهود كانوا يقولون: إِن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإِنما نُعذب بكل ألف سنة يوماً في النار، وإِنما هي سبعة أيام معدودة فأنزل الله تعالى {وقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}.

يخاطب الله تعالى عباده المؤمنين فيقول {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} أي أترجون يا معشر المؤمنين أن يُسلم اليهود ويدخلوا في دينكم {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ} أي والحال قد كان طائفة من أحبارهم وعلمائهم يتلون كتاب الله ويسمعونه بَيِّناً جَلِياً {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} أي يغيّرون آيات التوراة بالتبديل أو التأويل، من بعد ما فهموه وضبطوه بعقولهم {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم يرتكبون جريمة أي أنهم يخالفونه على بصيرة لا عن خطأٍ أو نسيان.

هذه الآيات تحمل أعظم تعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتطالبه ألا يحزن على عدم إيمان اليهود به لأنه مكلف بالبلاغ فقط، ولكن حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إيمان أهل الأرض كلهم لا يعني أنه لم يفهم خطاب ربه، ولكن معناه أنه أدرك حلاوة التكليف من ربه بحيث يريد أن يهدي كل خلق الله.

والطمع هو رغبة النفس في شيء غير حقها وإن كان محبوباً لها. فكلمة "أفتطمعون" هنا تحدد أنه يجب ألا نطمع إلا فيما نقدر عليه. وهداية اليهود أمر زائد على ما كُلِّفنا به وإن كان محبوباً لدينا. {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ} [الغاشية: 20-24].

{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} أي إِذا اجتمعوا بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال المنافقون من اليهود: آمنا بأنكم على الحق، وأن محمداً هو الرسول المبشَّر به {وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} أي إِذا انفرد واختلى بعضهم ببعض {قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} أي قالوا عاتبين عليهم أتخبرون أصحاب محمد بما بيَّن الله لكم في التوراة من صفة محمد عليه السلام {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} أي لتكون الحجة للمؤمنين عليكم في الآخرة في ترك اتباع الرسول مع العلم بصدقه {أَفَلا تَعْقِلُونَ}؟ أي أفليست لكم عقول تمنعكم من أن تحدثوهم بما يكون لهم فيه حجة عليكم؟ والقائلون ذلك هم اليهود لمن نافق منهم.

قال تعالى رداً عليهم وتوبيخاً {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي ألا يعلم هؤلاء اليهود أن الله يعلم ما يخفون وما يظهرون، وأنه تعالى لا تخفى عليه خافية، فكيف يقولون ذلك ثم يزعمون الإِيمان!!

ولما ذكر تعالى العلماء الذين حرّفوا وبدّلوا، ذكر العوام الذين قلدوهم ونبّه أنهم في الضلال سواء فقال: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} أي ومن اليهود طائفة من الجهلة العوامّ، الذين لا يعرفون القراءة والكتابة ليطلعوا على ما في التوراة بأنفسهم ويتحققوا بما فيها {إِلا أَمَانِيَّ} أي إِلاَّ ما هم عليه من الأماني التي منّاهم بها أحبارهم، من أن الله يعفو عنهم ويرحمهم، وأن النار لن تمسهم إِلا أياماً معدودة، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، إِلى غير ما هنالك من الأماني الفارغة {وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} أي ما هم على يقين من أمرهم، بل هم مقلّدون للآباء تقليد أهل العمى والغباء.

الأماني جمع أمنية، وهي الشيء الذي يحب الإنسان تحققه وهو مستحيل الحدوث عادة. كما قال الشاعر:

ألا ليت الشباب يعود يوماً فأُخبره بما فعل المَشيبُ

ومَنْ فاته شبابه لن يعود إلى يوم القيامة.

ما يستخلص من الآيات [75-78]:

1- النفاق ظاهرة عامة موجودة عند جميع الأجناس، فليس هو محصوراً فيمن نافق من أهل المدينة فقط، بل هو موجود عند أهل الكتاب من اليهود كما أشارت الآيات، وعند النصارى وغيرهم ومن هنا وجب على المسلمين أخذ الحيطة حتى لا ينخدعوا بالإيمان المزيّف، ويتجرعوا من ورائه الويلات.

2- دلَّت الآية الأخيرة من هذا المقطع {وإن هم إلا يظنون} على بطلان التقليد في العقائد وأصول الأحكام، فلا بد للإيمان من يقين يقوم على الحجة والبرهان وهو ما عليه سلف هذه الأمة إذ كل من قلَّد في التوحيد إيمانه لا يخلو من ترد يد. ولذا قال الحق جل وعلا {فاعلم أنه لا إله لا الله} والعلم هو إدراك الشيء على ما هو عليه في الواقع بدليل.

تحريف أحبار اليهود للتوراة

{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ(79)وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ(80)بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(81)وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(82)}.

سبب النزول:

نزلت الآية (79) في أهل الكتاب كما قال ابن عباس، أو في أحبار اليهود كما قال العباس: "الذين غيّروا صفة النبي صلى الله عليه وسلم وبدلوا نعته"، وكانت صفته في التوراة: أكحل، أعين، ربعة، جعد الشعر، حسن الوجه، فَمَحَوه حسداً وبغياً، وقالوا: نجده طويلاً أزرق، سبط الشعر.

ونزلت الآية (80) كما قال ابن عباس: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ويهود تقول: إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما يعذب الناس في النار، لكل ألف سنة من أيام الدنيا يوم واحد في النار من أيام الآخرة، فإنما هي سبعة أيام، ثم ينقطع العذاب، فأنزل الله في ذلك: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} إلى قوله {خَالِدُونَ}. وروى الطبري عن ابن عباس: أن اليهود قالوا: لن ندخل النار، إلا تَحِلَّة القَسَم، الأيام التي عبدنا فيها العجل أربعين ليلة، فإذا انقضت، انقطع عنا العذاب، فنزلت الآية.

ذكر تعالى جريمة أولئك الرؤساء المضلّين، الذين أضلّوا العامة في سبيل حطام الدنيا فقال: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} أي هلاك وعذاب لأولئك الذي حرّفوا التوراة، وكتبوا تلك الآيات المحرفة بأيديهم {ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي يقولون لأتباعهم الأميِّين هذا الذي تجدونه هو من نصوص التوراة التي أنزلها الله على موسى عليه السلام، مع أنهم كتبوها بأيديهم ونسبوها إِلى الله كذباً وزوراً {لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً} أي لينالوا به عرض الدنيا وحطامها الفاني {فوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} أي فشدة عذاب لهم على ما فعلوا من تحريف الكتاب {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} أي وويل لهم مما يصيبون من الحرام والسحت.

فائدة: الويل يعني الحسرة وقت رؤية العذاب، وقيل: هو واد في جهنم يهوي الإنسان فيه سبعين خريفا.

{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} أي لن ندخل النار إلا أياماً قلائل، هي مدة عبادة العجل، أو سبعة أيام فقط.

فائدة: المس يعني اللمس الخفيف أو اقتراب شيء من شيء بحيث يحس أحدهما بالآخر إحساساً لا يكاد يذكر. وهكذا أخذوا أقل الأقل في العذاب، وأقل الأقل في مدة العذاب، فقالوا أياماً معدودة. وهو دليل غبائهم لأن مدة المسّ لا تكون إلا لحظة ولكنها أماني وضعها الشيطان في عقولهم، فجاء الرد الإلهي:

{قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا} أي قل لهم يا محمد على سبيل الإِنكار والتوبيخ: هل أعطاكم الله الميثاق والعهد بذلك؟ فإذا كان قد وعدكم بذلك{فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} لأن الله لا يخلف الميعاد {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي أم تكذبون على الله فتقولون عليه ما لم يقله، فتجمعون بين جريمة التحريف لكلام الله، والكذب والبهتان عليه جل وعلا.

ثم بيَّن تعالى كذب اليهود، وأبطل مزاعمهم بأن النار لن تمسهموأنهم لا يخلدون فيها فقال: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} أي بلى تمسكم النار وتخلدون فيها، كما يخلد الكافر الذي ارتكب إلى جانب كفره السيئات {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} أي غمرته من جميع جوانبه، وسدّت عليه مسالك النجاة، بأن فعل مثل فعلكم أيها اليهود {فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي فالنار ملازمة لهم لا يخرجون منها أبداً.

فائدة: "بلى" حرف جواب في النفي، أي ينفي الذي قبله. أي قولكم {لمن تمسنا النار إلا أياماً معدودة} غير صحيح، بل ستخلدون فيها. ومن هنا فإذا قال لك إنسان: ليس لك عندي شيء. وأردت أن تنفي ذلك، فعليك أن تقول: بلى. ولو قلت: نعم. تكون قد أثبتْتَ ما ادعاه.

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي وأما المؤمنون الذين جمعوا بين الإِيمان، والعمل الصالح فلا تمسهم النار، بل هم في روضات الجنات يحبرون {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}أي مخلدون في الجنان لا يخرجون منها أبداً، اللهم اجعلنا منهم يا أرحم الراحمين.

ما يستخلص من الآيات [79-82]:

1- أفاد قوله تعالى {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم} مَدَى تعمد هؤلاء اليهود للإثم. لأن الإثم قد يرتكب بالأمر وقد يرتكب بالفعل. فرئيس الدولة غالباً لا يكتب الكتب بيده وإنما تكتب بأمره ولكن هؤلاء الأحبار حرفوا وبدلوا كلام الله بأيديهم ليتأكدوا أن الأمر قد تم كما يريدون، فليست المسألة نزوة عابرة ولكنها مع سبق الإصرار والترصد، وموقمة العصيان.

2- تضمنت الآية {فويل للذين يكتبون الكتاب…} التحذير من التبديل والتغيير والزيادة في شرع الله، فكل من بدّل وغيّر وابتدع في دين الله ما ليس منه فهو داخل تحت هذا الوعيد الشديد إلا أن هذا التبديل والتحريف على نوعين، الأول: تبديل وتحريف في الحروف والألفاظ وهو الأشد، والثاني: تحريف وتبديل في المعاني والأحكام التي تستخلص من الألفاظ والحروف. ولئن سلمت هذه الأمة من الوقوع في الأول لقوله تعالى {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} فقد وقع بعض هذه الأمة في الثاني والعياذ بالله، وما تلك الفتاوى الباطلة -كإباحة الفوائد الربوية القليلة، والاستعانة بالمشركين لقتال المسلمين- التي يبتغي بها عرض من الدنيا قليل أو التزلف للحكام والسلاطين، ببعيد. ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افترقت بنوا إسرائيل إلى اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلهم في لنار إلا واحدة" فاللهم اجعلنا من الفرقة الناجية.

3- أفاد قوله تعالى {بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته…} أن المعصية وحدها لا تخلد صاحبها في النار ما لم تكن مقرونة بالشرك، ومن هنا فأنسب تفسير لـ {أحاطت به خطيئته} هو الشرك بالله، لأنه هو الذي يحيط بالإنسان من كل جانب ويحجب عنه رحمة الله، ودليل ذلك قوله تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48]. ولما كان هؤلاء اليهود -ومن سار على طريقهم- عصاة ومشركين استحقوا الخلود في النار {فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.

4- أرشدت الآية الأخيرة {والذين آمنوا وعملوا الصالحات…} إلى أن دخول الجنة منوط بالإيمان والعمل الصالح كما روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسفيان بن عبد الله الثقيف، وقد سأله: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك. قل: قل آمنت بالله ثم استقم".

5- يستخلص من الآيتين الأخيرتين منهج تربوي فريد في معالجة النفس البشرية في جميع مراحلها، ألا هو الجمع بين الوعد الوعيد أو الترغيب والترهيب، وقد تكرر ذلك في القرآن كثيراً.

مخالفة اليهود للميثاق

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ(83)وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ(84)ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمُ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(85)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ(86)}.

المنَاسَبَة:

لا تزال الآيات الكريمة تعدّد جرائم اليهود، وفي هذه الآيات أمثلة صارخة على عدوانهم وطغيانهم وإِفسادهم في الأرض، فقد نقضوا الميثاق الذي أخذ عليهم في التوراة، وقتلوا النفس التي حرّم الله، واستباحوا أكل أموال الناس بالباطل، واعتدوا على إِخوانهم في الدين فأخرجوهم من الديار، فاستحقوا اللعنة والخزي والدمار.

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي اذكروا حين أخذنا على أسلافكم يا معشر اليهود العهد المؤكد غاية التأكيد والميثاق هو كل شيء فيه تكليف من الله {لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ} بأن لا تعبدوا غير الله.

وهذه العبادة تستلزم إفراد الله بالألوهية والإيمان بموسى عليه السلام وبالتوراة وبمن جاء وصفه في التوراة وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أي وأمرناهم بأن يحسنوا إِلى الوالدين إِحساناً.

الإحسان هو ما زاد على الواجب، فنحن مطالبون بأن نؤدي إليهم الواجبات وما زاد عنها من نوافل. ولأهمية الإحسان إلى الوالدين فقد قرنه بعباده في عدة مواضيع منها قوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً…} [الإسراء: 43].

{وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} أي وأن يحسنوا أيضاً إِلى الأقرباء، واليتامى الذين مات آباؤهم وهم صغار.

لأن الآباء هم الذين يكافحون في الحياة ليرعوا أولادهم. فإذا رعى المجتمع الإسلامي اليتيم عَمّت الطمأنينة بين أفراده، فلا أبٌ يخشى على أولاده بعد موته، ولا يتيم يخشى على ماله من الضياع أو على نفسه من الإهمال إذا خلفه أبوه فقيراً، ولا غني يخشى على ماله من زواله بالاختلاس أو الحسد لأن التكافل أورث بين أفراد المجتمع المحبة والألفة.

والمساكين الذين عجزوا عن الكسب.

{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} أي قولاً حسناً بخفض الجناح، ولين الجانب، مع الكلام الطيّب {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} أي صلوا وزكّوا كما فرض الله عليكم من أداء الرُّكْنَيْن العظيمين "الصلاة، والزكاة" لأنهما أعظم العبادات البدنية والمالية { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} أي ثم رفضتم وأسلافكم الميثاق رفضاً باتاً، وأعرضتم عن العمل بموجبه إِلاّ قليلاً منكم ثبتوا عليه.

فائدة: توليتم، يعني أعرضتم، إلا أن التولي قد يكون بنية حسنة كما في قوله تعالى {ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله} [الأنفال: 16]. فالتولي بنية الهرب مذموم، ولكنه إذا كان بنية إعانة فئة أخرى من المسلمين أو تغيير الموقع للانقضاض على العدو فهو محمود.

والحق سبحانه وتعالى في هذه الآية أراد أن يلفت نظرنا إلى أن اليهود تولوا بنية الإعراض لا بنية أخرى ولذا قال تعالى {ثم توليتم إلا قليلاً منكم وأنتم معرضون} فأكد نواياهم السيئة بقوله {وأنتم معرضون}.

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ} أي واذكروا أيضاً يا بني إِسرائيل حين أخذنا عليكم العهد المؤكد بأن لا يقتل بعضكم بعضاً.

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هناسبحان الله و بحمده

التصنيفات
الصف الثامن

تفسير سورة البقرة -تعليم الامارات

سورة البقرة

صفات المؤمنين وجزاء المتقين
صفات الكافرين
سبب عدم إيمان الكافرين
صفات المنافقين
بيان قبائح المنافقين
ضرب الأمثال للمنافقين
الأمر بعبادة الله وحده وأدلة التوحيد
إثبات نبوَّة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإقامة البرهان على إعجاز القرآن
ما أعدَّه الله لأوليائه
الحكمة من ضرب الأمثال في القرآن
من مظاهر قدرة الله تعالى
استخلاف الإنسان في الأرض وتعليمه اللغات
تكريم اللهِ آدمَ بسجود الملائكة له
قصة آدم وحواء في الجنة
العظة من قصة آدم:
ما طلب الله من بني إسرائيل
عرض لشيء من أخلاق اليهود السيئة
نِعَمُ الله العشر على بني إسرائيل
تتمة النِّعَم العشر على بني إسرائيل
بعض مطامع اليهود وجزاؤهم
عاقبة المؤمنين
بعض جرائم اليهود وعقابهم
قصة البقرة وإحياء الميت
جفاء اليهود وقسوة قلوبهم
استبعاد إيمان اليهود
تحريف أحبار اليهود للتوراة
مخالفة اليهود للميثاق
موقف اليهود من الرسل والكتب المنزلة
كفر اليهود بما أنزل الله ، وقتلهم الأنبياء
تكذيب ادعاء اليهود الإيمان بالتوراة
حرص اليهود على الحياة وموقفهم من الملائكة والرسل
كفر اليهود بالقرآن ونقضهم المعهود

بَين يَدَيْ السُّورَة
سورة البقرة أطول سور القرآن على الإِطلاق، وهي من السور المدنية التي تُعنى بجانب التشريع، شأنها كشأن سائر السور المدنية، التي تعالج النُّظُم والقوانين التشريعية التي يحتاج إِليها المسلمون في حياتهم الاجتماعية.
اشتملت هذه السورة الكريمة على معظم الأحكام التشريعية: في العقائد، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق، وفي أمور الزواج، والطلاق، والعدة، وغيرها من الأحكام الشرعية.
وقد تناولت الآيات في البدء الحديث عن صفات المؤمنين، والكافرين، والمنافقين، فوضّحت حقيقة الإِيمان، وحقيقة الكفر والنفاق، للمقارنة بين أهل السعادة وأهل الشقاء.
ثم تحدثت عن بدء الخليقة فذكرت قصة أبي البشر "آدم" عليه السلام، وما جرى عند تكوينه من الأحداث والمفاجآت العجيبة التي تدل على تكريم الله جل وعلا للنوع البشري.
* ثم تناولت السورة الحديث بالإِسهاب عن أهل الكتاب، وبوجه خاص بني إِسرائيل "اليهود" لأنهم كانوا مجاورين للمسلمين في المدينة المنورة، فنبهت المؤمنين إِلى خبثهم ومكرهم، وما تنطوي عليه نفوسهم الشريرة من اللؤم والغدر والخيانة، ونقض العهود والمواثيق، إِلى غير ما هنالك من القبائح والجرائم التي ارتكبها هؤلاء المفسدون، مما يوضح عظيم خطرهم، وكبير ضررهم، وقد تناول الحديث عنهم ما يزيد على الثلث من السورة الكريمة، بدءاً من قوله تعالى {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}. إلى قوله تعالى {وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ}.
وأما بقية السورة الكريمة فقد تناولت جانب التشريع، لأن المسلمين كانوا -وقت نزول هذه السورة- في بداية تكوين "الدولة الإِسلامية" وهم في أمسّ الحاجة إِلى المنهاج الرباني، والتشريع السماوي، الذي يسيرون عليه في حياتهم سواء في العبادات أو المعاملات، ولذا فإِن السورة تتناول الجانب التشريعي، وهو باختصار كما يلي:
"أحكام الصوم مفصلة بعض التفصيل، أحكام الحج والعمرة، أحكام الجهاد في سبيل الله، شؤون الأسرة وما يتعلق بها من الزواج، والطلاق، والرضاع، والعدة، تحريم نكاح المشركات، والتحذير من معاشرة النساء في حالة الحيض إِلى غير ما هنالك من أحكام تتعلق بالأسرة، لأنها النواة الأولى للمجتمع الأكبر".
ثم تحدثت السورة الكريمة عن "جريمة الربا" التي تهدّد كيان المجتمع وتقوّض بنيانه، وحملت حملة عنيفة شديدة على المرابين، بإِعلان الحرب السافرة من الله ورسوله على كل من يتعامل بالربا أو يقدم عليه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ}.
وأعقبت آيات الربا بالتحذير من ذلك اليوم الرهيب، الذي يجازى فيه الإِنسان على عمله إِن خيراً فخير، وإِن شراً فشر {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} وهو آخر ما نزل من القرآن الكريم، وآخر وحي تنزَّل من السماء إِلى الأرض، وبنزول هذه الآية انقطع الوحي، وانتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إِلى جوار ربه، بعد أن أدى الرسالة وبلَّغ الأمانة.
وختمت السورة الكريمة بتوجيه المؤمنين إِلى التوبة والإِنابة، والتضرع إِلى الله جلَّ وعلا برفع الأغلال والآصار، وطلب النصرة على الكفار، والدعاء لما فيه سعادة الدارين {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} وهكذا بدأت السورة بأوصاف المؤمنين، وختمت بدعاء المؤمنين ليتناسق البدء مع الختام، ويلتئم شمل السورة أفضل التئام.‍
التسمِيــَة: سميت السورة الكريمة "سورة البقرة" إِحياءً لذكرى تلك المعجزة الباهرة، التي ظهرت في زمن موسى الكليم، حيث قُتل شخص من بني إِسرائيل ولم يُعرَف قاتله، فعُرِضَ الأمر على موسى لعله يعرف القاتل، فأوحى الله تعالى إِليه أن يأمرهم بذبح بقرة، وأن يضربوا الميت بجزءٍ منها فيحيا بإِذن الله ويخبرهم عن القاتل، وتكون برهاناً على قدرة الله جل وعلا في إِحياء الخلق بعد الموت، وستأتي القصة مفصلة في موضعها إِن شاء الله.
فضـــلهَا: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إِن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة" أخرجه مسلم والترمذي. وقال صلى الله عليه وسلم: (اقرؤوا سورة البقرة، فإِن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البَطَلَة) يعني السَّحَرَة. رواه مسلم في صحيحه.

صفات المؤمنين وجزاء المتقين
بِســــــمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيِمِ
{الم(1)ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2)الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3)وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(4)أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(5)}.

ابتدأت السورة الكريمة بذكر أوصاف المتقين، وابتداء السورة بالحروف المقطعة {الم} وتصديرها بهذه الحروف الهجائية يجذب أنظار المعرضين عن هذا القرآن، إِذ يطرق أسماعهم لأول وهلة ألفاظٌ غير مألوفة في تخاطبهم، فينتبهوا إِلى ما يُلقى إِليهم من آياتٍ بينات، وفي هذه الحروف وأمثالها تنبيهٌ على "إِعجاز القرآن" فإِن هذا الكتاب منظومٌ من عين ما ينظمون منه كلامهم، فإِذا عجزوا عن الإِتيان بمثله، فذلك أعظم برهان على إِعجاز القرآن.
يقول العلامة ابن كثير رحمه الله: إِنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السورة بياناً لإِعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، وهو قول جمع من المحققين، وقد قرره الزمخشري في تفسيره الكشاف ونصره أتم نصر، وإِليه ذهب الإِمام "ابن تيمية" ثم قال: ولهذا كلُّ سورة افتتحت بالحروف، فلا بدَّ أن يذكر فيها الانتصار للقرآن، وبيانُ إِعجازه وعظمته مثل {الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ} {المص* كِتَابٌ أُنزِلَ} {الم* تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} {حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} وغير ذلك من الآيات الدالة على إِعجاز القرآن.
ثم قال تعالى {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} أي هذا القرآن المنزل عليك يا محمد هو الكتابُ الذي لا يدانيه كتاب {لا رَيْبَ فِيهِ} أي لا شك في أنه من عند الله لمن تفكر وتدبر، أو ألقى السمع وهو شهيد {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} أي هادٍ للمؤمنين المتقين، الذين يتقون سخط الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ويدفعون عذابه بطاعته، قال ابن عباس: المتقون هم الذين يتقون الشرك، ويعملون بطاعة الله، وقال الحسن البصري: اتقوا ما حُرِّم عليهم، وأدَّوْا ما افتُرض عليهم.
ثم بيَّن تعالى صفات هؤلاء المتقين فقال {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} أي يصدقون بما غاب عنهم ولم تدركه حواسهم من البعث، والجنة، والنار، والصراط، والحساب، وغير ذلك من كل ما أخبر عنه القرآن أو النبي عليه الصلاة والسلام {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} أي يؤدونها على الوجه الأكمل بشروطها وأركانها، وخشوعها وآدابها.
قال ابن عباس: إِقامتُها: إِتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} أي ومن الذي أعطيناهم من الأموال ينفقون ويتصدقون في وجوه البر والإِحسان، والآية عامة تشمل الزكاة، والصدقة، وسائر النفقات، وهذا اختيار ابن جرير، وروي عن ابن عباس أن المراد بها زكاة الأموال.
قال ابن كثير: كثيراً ما يقرن تعالى بين الصلاة والإِنفاق من الأموال، لأن الصلاة حقُّ الله وهي مشتملة على توحيده وتمجيده والثناء عليه، والإِنْفاقُ هو الإِحسان إِلى المخلوقين وهو حق العبد، فكلٌ من النفقات الواجبة، والزكاة المفروضة داخل في الآية الكريمة.
{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} أي يصدقون بكل ما جئت به عن الله تعالى {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} أي وبما جاءت به الرسل من قبلك، لا يفرّقون بين كتب الله ولا بين رسله {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} أي ويعتقدون اعتقاداً جازماً لا يلابسه شك أو ارتياب بالدار الآخرة التي تتلو الدنيا، بما فيها من بعثٍ وجزاءٍ، وجنةٍ، ونار، وحساب، وميزان، وإِنما سميت الدار الآخرة لأنها بعد الدنيا.
{أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} أي أولئك المتصفون بما تقدم من الصفات الجليلة، على نور وبيان وبصيرة من الله {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي وأولئك هم الفائزون بالدرجات العالية في جنات النعيم.

صفات الكافرين
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(6)}.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي إِن الذين جحدوا بآيات الله وكذبوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} أي يتساوى عندهم {ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} أي سواءٌ أَحذرتهم يا محمد من عذاب الله وخوفتهم منه أم لم تحذرهم {لا يُؤْمِنُونَ} أي لا يصدقون بما جئتهم به، فلا تطمع في إِيمانهم، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب قومه له.

سبب عدم إيمان الكافرين
‎‎{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(7)}

ثم بيَّن تعالى العلة في سبب عدم الإِيمان فقال {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} أي طبع على قلوبهم فلا يدخل فيها نور، ولا يُشرق فيها إِيمان.
قال المفسرون: الختمُ التغطيةُ والطبعُ، وذلك أن القلوب إذا كثرت عليها الذنوب طُمِس نور البصيرة فيها، فلا يكون للإِيمان إِليها مسلكٌ، ولا للكفر عنها مخلص كما قال تعالى {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ}.
{وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} أي وعلى أسماعهم وعلى أبصارهم غطاء، فلا يبصرون هدى، ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون، لأن أسماعهم وأبصارهم كأنها مغطَّاة بحجب كثيفة، لذلك يرون الحقَّ فلا يتبعونه، ويسمعونه فلا يعونه.
قال أبو حَيَّان: شبَّه تعالى قلوبهم لتَأَبِّيها عن الحقِّ، وأسماعهم لإِضرابها عن سماع داعي الفلاح، وأبصارهم لامتناعها عن تلمح نور الهداية، بالوعاء المختوم عليه، المسدود منافذه، المغطَّى بغشاء يمنع أن يصله ما يصلحه، وذلك لأنها كانت – مع صحتها وقوة إِدراكها- ممنوعة عن قبول الخير وسماعه، وتلمح نوره، وهذا بطريق الاستعارة {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي ولهم في الآخِرة عذاب شديدٌ لا ينقطع، بسبب كفرهم وإِجرامهم وتكذيبهم بآيات الله.

سبب النزول:
قال ابن عباس: نزلت هذه الآيات في منافقي أهل الكتاب منهم "عبد الله بن أُبَيَّ ابن سلول، ومعتب بن قشير، والجد بن قيس" كانوا إِذا لقوا المؤمنين يظهرون الإِيمان والتصديق ويقولون: إِنّا لنجد في كتابنا نعته وصفته.

صفات المنافقين
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ(8)يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(9)فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ(10)}

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} أي ومن الناس فريق يقولون بألسنتهم صدَّقنا بالله وبما أنزل على رسوله من الآيات البينات {وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ} أي وصدَّقنا بالبعث والنشور {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} أي وما هم على الحقيقة بمصدقين ولا مؤمنين، لأنهم يقولون ذلك قولاً دون اعتقاد، وكلاماً دون تصديق.
قال البيضاوي: هذا هو القسم الثالث المذبذب بين القسمين، وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وهم أخبث الكفرة وأبغضهم إِلى الله، لأنّهم موَّهُوا الكفر وخلطوا به خداعاً واستهزاءً، ولذلك أطال في بيان خبثهم وجهلهم، واستهزأ بهم، وتهكَّم بأفعالهم، وسجَّل عليهم الضلال والطغيان، وضرب لهم الأمثال.
{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} أي يعملون عمل المخادِع بإِظهار ما أظهروه من الإِيمان مع إِصرارهم على الكفر، يعتقدون – بجهلهم – أنهم يخدعون الله بذلك، وأن ذلك نافعهم عنده، وأنه يروج عليه كما قد يروج على بعض المؤمنين، وما علموا أن الله لا يُخدع لأنه لا تخفى عليه خافية.
قال ابن كثير: النفاق هو إِظهار الخير، وإِسرارُ الشر وهو أنواع: اعتقادي وهو الذي يُخَلَّد صاحبه في النار، وعملي وهو من أكبر الذنوب والأوزار، لأن المنافق يخالف قولُه فعلَه، وسرُّه علانيته، وإِنما نزلت صفات المنافقين في السور المدنية لأن مكة لم يكن بها نفاق بل كان خلافه.
{وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنفُسَهُمْ} أي وما يخدعون في الحقيقة إِلا أَنفسَهم لأن وبال فعلهم راجع عليهم {وَمَا يَشْعُرُونَ} أي ولا يحُسّون بذلك ولا يفطنون إِليه، لتمادي غفلتهم، وتكامل حماقتهم.
{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} أي في قلوبهم شك ونفاق فزادهم الله رجساً فوق رجسهم، وضلالاً فوق ضلالهم، والجملةُ دعائية.
قال ابن أسلم: هذا مرضٌ في الدين، وليس مرضاً في الجسد، وهو الشك الذي داخلهم في الإِسلام فزادهم الله رجساً وشكاً {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} أي ولهم عذابٌ مؤلمٌ بسبب كذبهم في دعوى الإِيمان، واستهزائهم بآيات الرحمن.

بيان قبائح المنافقين
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ(11)أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ(12)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ(13)وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ(14)اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ(15)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ(16)}.

ثم شرع تعالى في بيان قبائحهم، وأحوالهم الشنيعة فقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} أي وإِذا قال لهم بعض المؤمنين: لا تسعوا في الأرض بالإِفساد بإِثارة الفتن، والكفر والصَدِّ عن سبيل الله.
قال ابن مسعود: الفسادُ في الأرض هو الكفرُ، والعملُ بالمعصية، فمن عصى الله فقد أفسد في الأرض.
{قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} أي ليس شأننا الإِفسادُ أبداً، وإِنما نحن أناسٌ مصلحون، نسعى للخير والصلاح فلا يصح مخاطبتنا بذلك، قال البيضاوي: تصوَّروا الفساد بصورة الصلاح، لما في قلوبهم من المرض فكانوا كمن قال الله {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} ولذلك ردَّ الله عليهم أبلغ ردٍّ بتصدير الجملة بحرفيْ التأكيد: {أَلا} المنبهة و {إِنَّ} المقررة، وتعريف الخبر، وتوسيط الفصل، والاستدراك بعدم الشعور فقال: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} أي أَلاَ فانتبهوا أيها الناس، إِنهم هم المفسدون حقاً لا غيرهم، ولكنْ لا يفطنون ولا يحسُون، لانطماسِ نور الإِيمان في قلوبهم.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} أي وإِذا قيل للمنافقين: آمنوا إِيماناً صادقاً لا يشوبه نفاقٌ ولا رياء، كما آمن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وأَخلِصوا في إِيمانكم وطاعتكم لله {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} الهمزة للإِنكار مع السخرية والاستهزاء أي قالوا أنؤمن كإِيمان هؤلاء الجهلة أمثال "صهيب، وعمار، وبلال" ناقصي العقل والتفكير؟‍ قال البيضاوي: وإِنما سفَّهوهم لاعتقادهم فسادَ رأيهم، أو لتحقير شأنهم، فإِن أكثر المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موالي كصهيب وبلال.
{أَلا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} أي أَلا إِنهم هم السفهاء حقاً، لأن من ركب متن الباطل كان سفيهاً بلا امتراء، ولكن لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل، وذلك أبلغ في العمى، والبعد عن الهدى. أكَّد وَنبَّه وحصر السفاهة فيهم، ثم قال تعالى منبهاً إِلى مصانعتهم ونفاقهم:
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} أي وإذا رأوا المؤمنين وصادفوهم أظهروا لهم الإِيمان والموالاة نفاقاً ومصانعة {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} أي وإِذا انفردوا ورجعوا إِلى رؤسائهم وكبرائهم، أهلِ الضلالِ والنفاق {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ} أي قالوا لهم نحن على دينكم وعلى مثل ما أنتم عليه من الاعتقاد، وإِنما نستهزئ بالقوم ونسخر منهم بإِظهار الإِيمان.
قال تعالى رداً عليهم: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} أي الله يجازيهم على استهزائهم بالإِمهال ثم بالنكال، قال ابن عباس: يسخر بهم للنقمة منهم ويُملي لهم كقوله {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} قال ابن كثير: هذا إِخبار من الله أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء، ومعاقبهم عقوبة الخداع، فأخرج الخبر عن الجزاء مخرج الخبر عن الفعل الذي استحقوا العقاب عليه، فاللفظ متفق والمعنى مختلف،وإِليه وجهوا كل ما في القرآن من نظائر مثل {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}ومثل {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} فالأول ظلم والثاني عدل.
{وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي ويزيدهم – بطريق الإِمهال والترك – في ضلالهم وكفرهم يتخبطون ويتردَدون حيارى، لا يجدون إِلى المخرج منه سبيلاً لأن الله طبع على قلوبهم وأعمى أبصارهم، فلا يبصرون رشداً ولا يهتدون سبيلاً.
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} أي استبدلوا الكفر بالإِيمان، وأخذوا الضلالة ودفعوا ثمنها الهُدى {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} أي ما ربحت صَفْقَتهم في هذه المعاوضةِ والبيع {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} أي وما كانوا راشدين في صنيعهم ذلك، لأنهم خسروا سعادة الدارين.
والخلاصة: أن الله تعالى ذكر أربعة أنواع من قبائح المنافقين، وكل نوع منها كاف وحده في إنزال العقاب بهم وهي:
1- مخادعة الله، والخديعة مذمومة، والمذموم يجب أن يُمَيَّز من غيره لتجنب الذم.
2- الإفساد في الأرض بإثارة الفتنة والتأليب على المسلمين وترويج الإشاعات الباطلة.
3- الإعراض عن الإيمان والاعتقاد الصحيح المستقر في القلب، الموافق للفعل.
4- التردد والحيرة في الطغيان وتجاوز الحدود المعقولة، بالافتراء على المؤمنين ووصفهم بالسفاهة، مع أن المنافقين هم السفهاء بحق، لأن من أعرض عن الدليل، ثم نسب المتمسك به إلى السفاهة فهو السفيه، ولأن من باع آخرته بدنياه فهو السفيه، ولأن من عادى محمداً عليه الصلاة والسلام، فقد عادى الله، وذلك هو السفيه.

ضرب الأمثال للمنافقين
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ(17)صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ(18)أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ(19)يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(20)}.

ثم ضرب تعالى مثلين وضَّح فيهما خسارتهم الفادحة فقال {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} أي مثالهم في نفاقهم وحالهم العجيبة فيه كحال شخص أوقد ناراً ليستدفئ بها ويستضيء، فما اتقدت حتى انطفأت، وتركته في ظلام دامس وخوفٍ شديد {فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} أي فلما أنارتْ المكان الذي حوله فأبصر وأمِن، واستأنس بتلك النار المشعة المضيئة ذهب الله بنورهم أي أطفأها الله بالكلية، فهم يتخبطون ولا يهتدون.
قال ابن كثير: ضرب الله للمنافقين هذا المثل، فشبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إِلى العمى، بمن استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها، وتأنس بها وأبصر ما عن يمينه وشماله، فبينا هو كذلك إِذْ طفئت ناره، وصار في ظلام شديد، لا يبصر ولا يهتدي، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضاً عن الهدى، واستحبابهم الغيَّ على الرشد، وفي هذا المثل دلالةٌ على أنهم آمنوا ثم كفروا، ولذلك ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات الشك والكفر والنفاق لا يهتدون إِلى سبيل الخير، ولا يعرفون طريق النجاة.
{صُمٌّ} أي هم كالصُمِّ لا يسمعون خيراً {بُكْمٌ} أي كالخرس لا يتكلمون بما ينفعهم {عُمْيٌ} أي كالعمي لا يبصرون الهدى ولا يتبعون سبيله {فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} أي لا يرجعون عمَّا هم فيه من الغي والضلال.
ثم ثنَّى تعالى بتمثيل آخر لهم زيادةً في الكشف والإِيضاح فقال: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ} أي أو مثلهم في حيرتهم وترددهم كمثل قومٍ أصابهم مطر شديد، أظلمت له الأرض، وأرعدت له السماء، مصحوبٍ بالبرق والرعد والصواعق {فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} أي في ذلك السحاب ظلماتٌ داجية، ورعدٌ قاصف، وبرقٌ خاطف .
{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ} أي يضعون رءوس أصابعهم في آذانهم لدفع خطر الصواعق، وذلك من فرط الدهشة والفزع كأنهم يظنون أن ذلك ينجيهم {حَذَرَ الْمَوْتِ} أي خشية الموت من تلك الصواعق المدمرة {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} جملة اعتراضية أي والله تعالى محيط بهم بقدرته، وهم تحت إِرادته ومشيئته لا يفوتونه، كما لا يفوتُ من أحاط به الأعداء من كل جانب.
{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} أي يقارب البرقُ لشدته وقوته وكثرة لمعانه أن يذهب بأبصارهم فيأخذها بسرعة {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} أي كلما أنار لهم البرق الطريق مشوا في ضوئه {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} أي وإِذا اختفى البرق وفتر لمعانه وقفوا عن السير وثبتوا في مكانهم .. وفي هذا تصويرٌ لما هم فيه من غاية التحير والجهل، فإِذا صادفوا من البرق لمعة – مع خوفهم أن يخطف أبصارهم – انتهزوها فرصة فَخَطَوْا خطواتٍ يسيرة، وإِذا خفي وفتر لمعانه وقفوا عن السير، وثبتوا في أماكنهم خشية التردي في حفرة.
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} أي لو أراد الله لزاد في قصف الرعد فأصمهم وذهب بأسماعهم، وفي ضوء البرق فأعماهم وذهب بأبصارهم {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي إِنه تعالى قادر على كل شيء، لا يعجزه أحدٌ في الأرض ولا في السماء، قال ابن جرير: إِنما وصف تعالى نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع، لأنه حذَّر المنافقين بأسه وسطوته، وأخبرهم أنه بهم محيط، وعلى إِذهاب أسماعهم وأبصارهم قادر.

المنَاسَبَة:
لما ذكر تعالى الأصناف الثلاثة "المؤمنين، والكافرين، والمنافقين" وذكر ما تميزوا به من سعادة أو شقاوة، أو إِيمان أو نفاق، وضرب الأمثال ووضَّح طرق الضلال أعقبه هنا بذكر الأدلة والبراهين على وحدانية ربِّ العالمين، وعَرَّف الناس بنعمه ليشكروه عليها، وأقبل عليهم بالخطاب {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وهو خطاب لجميع الفئات ممتناً عليهم بما خلق ورزق، وأبرز لهم "معجزة القرآن" بأنصع بيان وأوضح برهان، ليقتلع من القلوب جذور الشك والارتياب.

الأمر بعبادة الله وحده وأدلة التوحيد
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(21)الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(22)}.

يقول تعالى منبهاً العبادَ إِلى دلائل القدرة والوحدانية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} أي يا معشر بني آدم اذكروا نِعَم الله الجليلة عليكم، واعبدوا الله ربكم الذي ربَّاكم وأنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئاً، اعبدوه بتوحيده، وشكره، وطاعته.
{الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي الذي أوجدكم بقدرته من العدم، وخلق مَن قبلكم من الأمم {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي لتكونوا في زمرة المتقين، الفائزين بالهدى والفلاح، قال البيضاوي: لما عدَّد تعالى فِرَق المكلفين، أقبل عليهم بالخطاب على سبيل الالتفات، هزاً للسامع، وتنشيطاً له، واهتماماً بأمر العبادة وتفخيماً لشأنها، وإِنما كثر النداء في القرآن بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} لاستقلاله بأوجهٍ من التأكيد، وكلُّ ما نادى الله له عباده من حيث إِنها أمور عظام من حقها أن يتفطنوا لها، ويقبلوا بقلوبهم عليها وأكثرهم عنها غافلون حقيقٌ بأن يُنادى له بالآكد الأبلغ.
ثمَّ عدَّد تعالى نِعَمه عليهم فقال {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا} أي جعلها مهاداً وقراراً، تستقرون عليها وتفترشونها كالبساط المفروش مع كرويتها، وإِلا ما أمكنكم العيش والاستقرار عليها، قال البيضاوي: جعلها مهيأة لأن يقعدوا ويناموا عليها كالفراش المبسوط، وذلك لا يستدعي كونها مسطَّحة لأن كروية شكلها مع عظم حجمها لا يأبى الافتراش عليها.
{وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} أي سقفاً للأرض مرفوعاً فوقها كهيئة القبة {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أي مطراً عذباً فراتاً أنزله بقدرته من السحاب {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} أي فأخرج بذلك المطر أنواع الثمار والفواكه والخضار غذاءً لكم.
{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي فلا تتخذوا معه شركاء من الأصنام والبشر تشركونهم مع الله في العبادة، وأنتم تعلمون أنها لا تَخْلُق شيئاً ولا تَرْزق، وأنَّ الله هو الخالق الرازق وحده، ذو القوة المتين، قال ابن كثير: شرع تعالى في بيان وحدانية ألوهيته بأنه هو المنعم على عبيده بإِخراجهم من العدم، وإِسباغه عليهم النِّعَم، والمرادُ بالسَّماء هنا السحاب، فهو تعالى الذي أنزل المطر من السحاب في وقته عند احتياجهم إِليه، فأخرج لهم به أنواع الزروع والثمار رزقاً لهم ولأنعامهم، ومضمونه أنه الخالق الرازق مالكُ الدار وساكنيها ورازقهم، فبهذا يستحق أن يُعبد وحده ولا يُشرك به غيره.

المناسبة:
بعد أن صنّف القرآن الناس إلى أقسام ثلاثة: متقين موحدين، وجاحدين معاندين، ومنافقين مذبذبين، وبعد أن أثبت الوحدانية والربوبية لله، ونفى الشركاء بالمنطق والبرهان، أثبت الله تعالى أن القرآن كلام الله، وأنه نزل من عنده، بدليل أنه معجز، لم يتمكن أحد من الجن أو الإنس مجاراته والإتيان بمثله، مع أن العرب فرسان البلاغة، وأساطين الفصاحة، ولا فخر لهم إلا بالكلام شعراً ونثراً وخطابة، وبما أنهم عجزوا، ولم يستطيعوا الإتيان بمثل أقصر سورة من القرآن، فقد ثبت صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما ادعاه من النّبوة، وما أتى به من الرسالة الإلهية. وكان مُنْكِرُ نبوته ورسالته مستحقاً العقاب والجزاء في نار جهنم.

إثبات نبوَّة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإقامة البرهان علىإعجاز القرآن
{وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(23)فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ(24)}.

ثم ذكر تعالى بعد أدلة التوحيد الحجة على النبوة، وأقام البرهان على إِعجاز القرآن فقال {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} أي وإِذا كنتم أيها الناسُ في شك وارتياب من صدق هذا القرآن، المعجز في بيانه، وتشريعه، ونظمه، الذي أنزلناه على عبدنا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} أي فأتوا بسورةٍ واحدةٍ من مثل هذا القرآن، في البلاغة والفصاحة والبيان {وَادْعُوا شُهَدَاءكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي وادعوا أعوانكم وأنصاركم الذين يساعدونكم على معارضة القرآن غير الله سبحانه، والمراد استعينوا بمن شتئم غيره تعالى، قال البيضاوي: المعنى ادعوا للمعارضة من حضركم أو رجوتم معونته من إِنسكم وجِنكم وآلهتكم غيرَ اللهِ سُبحانه وتعالى، فإِنه لا يقدر أن يأتي بمثله إِلا الله {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي في أنه مختلق وأنه من كلام البشر، وجوابُه محذوف دلَّ عليه ما قبله.
{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} أي فإِن لم تقدروا على الإِتيان بمثل سورةٍ من سوره، وعجزتم في الماضي عن الإِتيان بما يساويه أو يدانيه، مع استعانتكم بالفصحاء والعباقرة والبلغاء {وَلَنْ تَفْعَلُوا} أي ولن تقدروا في المستقبل أيضاً على الإِتيان بمثله، والجملةُ اعتراضيةٌ للإِشارة إِلى عجز البشر في الحاضر والمستقبل كقوله {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} أي معيناً، قال ابن كثير: تحداهم القرآن وهم أفصح الأمم ومع هذا عجزوا، و{لَنْ} لنفي التأبيد في المستقبل أي ولن تفعلوا ذلك أبداً، وهذه أيضاً معجزة أخرى وهو أنه أخبر خبراً جازماً قاطعاً، غير خائفٍ ولا مشفق أنَّ هذا القرآن لا يُعارضُ بمثله أبد الآبدين ودهر الداهرين، وكذلك وقع الأمر لم يُعارض من لدنه إِلى زماننا هذا، ومن تدبّر القرآن وجد فيه من وجوه الإِعجاز فنوناً ظاهرة وخفية، من حيثُ اللفظ ومن حيثُ المعنى، والقرآنُ جميعه فصيح في غاية نهايات الفصاحة والبيان عند من يعرف كلام العرب، ويفهم تصاريف الكلام.
{فَاتَّقُوا النَّارَ} أي فخافوا عذاب الله، واحذروا نار الجحيم التي جعلها الله جزاء المكذبين {الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} أي اتقوا النار التي مادتُها التي تُشعل بها وتُضرم لإِيقادها هي الكفار والأصنام التي عبدوها من دون الله كقوله تعالى {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} قال مجاهد: حجارةٌ من كبريت أنتُن من الجيفة يعذبون بها مع النار {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} أي هُيّئت تلك النارُ وأُرصدت للكافرين الجاحدين، ينالون فيها ألوان العذاب المهين.
والخلاصة: أن التحدي كان متنوعاً، مرة بالنظم والمعنى، ومرة بالنظم دون المعنى، بافتراء شيء لا معنى له، وفي كل الأحوال ظهر فشلهم.
وأرشدت الآية: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا…} على ظهور العجز التام عن المعارضة، وعلى استحقاق الكافرين النار لإنكارهم نبوة النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولعدم تصديقهم بالقرآن، وعلى أن من اتقى النار ترك المعاندة، وعلى أن النار حالياً مخلوقة مهيأة موجودة معدّة للعصاة والفسّاق والكفّار.

المناسبة:
يعقد القرآن عادة مقارنات بين الأشياء المتضادة، فلما ذكر الله جزاء الكافرين والعصاة، أردف ذلك ببيان جزاء المؤمنين الأتقياء الأطهار، ليظهر الفرق بين الفريقين، وليكون ذلك أدعى للعبرة والعظة، والامتثال من مقارنة الأحوال.

ما أعدَّه الله لأوليائه
{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(25)}.

ثم لما ذكر ما أعدَّه لأعدائه، عطف عليه بذكر ما أعدَّه لأوليائه، على طريقة القرآن في الجمع بين الترغيب والترهيب، للمقارنة بين حال الأبرار والفجار فقال {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي وبَشِّرْ يا محمد المؤمنين المتقين، الذين كانوا في الدنيا محسنين، والذين جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح {أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي بأن لهم حدائق وبساتين ذاتِ أشجار ومساكن، تجري من تحت قصورها ومساكنها أنهار الجنة .
{كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا} أي كلما أعطوا عطاءً ورُزقوا زرقاً من ثمار الجنة {قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} أي هذا مثلُ الطعام الذي قُدِّم إِلينا قبل هذه المرة.
قال المفسرون: إِن أهل الجنة يُرزقون من ثمارها، تأتيهم به الملائكة، فإِذا قُدّم لهم مرةً ثانية قالوا: هذا الذي أتيتمونا به من قبل فتقول الملائكة: كلْ يا عبد الله فاللونُ واحدٌ والطعم مختلف قال تعالى {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} أي متشابهاً في الشكل والمنظر، لا في الطعم والمَخْبر، قال ابن جرير: يعني في اللون والمرأى وليس يشبهه في الطعم، قال ابن عباس: لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إِلا في الأسماء.
{وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} أي ولهم في الجنة زوجاتٌ من الحور العين مطهَّرات من الأقذار والأدناس الحسية والمعنوية، قال ابن عباس: مطهَّرة من القذر والأذى، وقال مجاهد: مطهَّرة من الحيض والنفاس، والغائط والبول والنخام، وورد أن نساء الدنيا المؤمنات يكنَّ يوم القيامة أجمل من الحور العين كما قال تعالى {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً* فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا* عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة: 35 – 37] {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي دائمون، وهذا هو تمام السعادة، فإِنهم مع هذا النعيم في مقام أمين، يعيشون مع زوجاتهم في هناءٍ خالد لا يعتريه انقطاع.

المنَاسَبَة:
لمّا بينّ تعالى بالدليل الساطع، والبرهان القاطع، أن القرآن كلام الله لا يتطرق إِليه شك، وإِنه كتاب معجز أنزله على خاتم المرسلين، وتحداهم أن يأتوا بمثل سورةٍ من أقصر سوره، ذكر هنا شبهة أوردها الكفار للقدح فيه وهي أنه جاء في القرآن ذكر (النحل، والذباب، والعنكبوت، والنمل) إلخ وهذه الأمور لا يليق ذكرها بكلام الفصحاء فضلاً عن كلام ربّ الأرباب، فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة، وردَّ عليهم بأنَّ صغر هذه الأشياء لا يقدح في فصاحة القرآن وإِعجازه، إِذا كان ذكر المثل مشتملاً على حِكَمٍ بالغة.

سبب النزّول:
لما ذكر الله تعالى الذباب والعنكبوت في كتابه، وضرب للمشركين به المثل ضحكت اليهود وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله، وما أراد بذكر هذه الأشياء الخسيسة؟ فأنزل الله الآية.

الحكمة من ضرب الأمثال في القرآن
{إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ(26)الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(27)}.

يقول تعالى في الرد على مزاعم اليهود والمنافقين {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} أي إِن الله لا يستنكف ولا يمتنع عن أن يضرب أيَّ مثلٍ كان، بأي شيءٍ كان، صغيراً كان أو كبيراً {بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} أي سواء كان هذا المثل بالبعوضة أو بما هو دونها في الحقارة والصغر، فكما لا يستنكف عن خلقها، كذلك لا يستنكف عن ضرب المثل بها.
{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} أما المؤمنون فيعلمون أن الله حق، لا يقول غير الحق، وأن هذا المثل من عند الله {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً}؟ وأما الذين كفروا فيتعجبون ويقولون: ماذا أراد الله من ضرب الأمثال بمثل هذه الأشياء الحقيرة؟
قال تعالى في الرد عليهم {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} أي يضل بهذا المثل كثيراً من الكافرين لكفرهم فيزيد به، ويهدي به كثيراً من المؤمنين لتصديقهم به، فيزي أولئك ضلالة، وهؤلاء هدىً {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ} أي ما يضل بهذا المثل أو بهذا القرآن إِلا الخارجين عن طاعة الله، الجاحدين بآياته.
ثم عدّد تعالى أوصاف هؤلاء الفاسقين فقال {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} أي ينقضون ما عهده إِليهم في الكتب السماوية، من الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم من بعد توكيده عليهم، أو ينقضون كل عهد وميثاق من الإِيمان بالله، والتصديق بالرسل، والعمل بالشرائع {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} من صلة الأرحام والقرابات، واللفظ عام في كل قطيعة لا يرضاها الله كقطع الصلة بين الأنبياء، وقطع الأرحام، وترك موالاة المؤمنين {وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} بالمعاصي، والفتن، والمنع عن الإِيمان، وإِثارة الشبهات حول القرآن {أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أي أولئك المذكورون، الموصوفون بتلك الأوصاف القبيحة هم الخاسرون لأنهم استبدلوا الضلالة بالهدى، والعذاب بالمغفرة، فصاروا إِلى النار المؤبدة.

المناسبة:
بعد أن ذكر الله صفات الفاسقين وموقف الكفار من القرآن، وجّه الخطاب إلى الكفار فيهاتين الآيتين على طريق الإنكار والتعجب والتوبيخ على موقفهم وصفة كفرهم، بذكر البراهين الداعية إلى الإيمان: وهي النعم الدالة على قدرته تعالى من مبدأ الخلق إلى منتهاه، من إحيائهم بعد الإماتة، ثم الإماتة والإحياء، وخلق جميع الخيرات المكنونة في الأرض ليتمتعوا بجميع ما في ظاهرها وباطنها، وخلق سبع سماوات مزينة بمصابيح، ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر، أفبعد هذا كله يكفرون بمحمد وبرسالته صلى الله عليه وسلم؟!

من مظاهر قدرة الله تعالى
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(28)هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(29)}.

{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} استفهام للتوبيخ والإِنكار، والمعنى كيف تجحدون الخالق، وتنكرون الصانع {وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا} أي وقد كنتم في العدم نُطفاً في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات {فَأَحْيَاكُمْ} أي أخرجكم إِلى الدنيا {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انقضاء الآجال {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} بالبعث من القبور {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} للحساب والجزاء يوم النشور.
ثم ذكر تعالى برهاناً على البعث فقال {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} أي خلق لكم الأرض وما فيها لتنتفعوا بكل ما فيها، وتعتبروا بأن الله هو الخالق الرازق {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} أي ثم وجّه إرادته إلى السماء {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} أي صيّرهن وقضاهن سبع سماوات محكمة البناء وذلك دليل القدرة الباهرة {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي وهو عالم بكل ما خلق وذرأ، أفلا تعتبرون بأن القادر على خلق ذلك – وهي أعظم منكم – قادر على إعادتكم؟! بلى إنه على كل شيء قدير.

المنَاسَبَة:
لما امتنَّ تعالى على العباد بنعمة الخلق والإِيجاد وأنه سخر لهم ما في الأرض جميعاً، وأخرجهم من العدم إِلى الوجود، أتبع ذلك ببدء خلقهم، وامتنَّ عليهم بتشريف أبيهم وتكريمه، بجعله خليفة، وإِسكانه دار الكرامة، وإِسجاد الملائكة تعظيماً لشأنه، ولا شك أن الإحسان إِلى الأصل إِحسان إِلى الفرع، والنعمة على الآباء نعمة على الأبناء، ولهذا ناسب أن يذكَرهم بذلك، لأنه من وجوه النعم التي أنعم بها عليهم.

استخلاف الإنسان في الأرض وتعليمه اللغات
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ(30)وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(31)قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(32)قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ(33)}.

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} أي اذكر يا محمد حين قال ربك للملائكة واقصص على قومك ذلك {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} أي خالق في الأرض ومتخذ فيها خليفة يخلفني في تنفيذ أحكامي فيها وهو آدم، أو قوماً يخلف بعضهم بعضاً قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل.
{قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} أي قالوا على سبيل التعجب والاستعلام: كيف تستخلف هؤلاء، وفيهم من يفسد في الأرض بالمعاصي {وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} أي يريق الدماء بالبغي والاعتداء!! {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} أي ننزهك عما لا يليق بك متلبسين بحمدك {وَنُقَدِّسُ لَكَ} أي نعظّم أمرك ونطهّر ذكرك مما نسبه إِليك الملحدون {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي أعلم من المصالح ما هو خفيٌ عليكم، ولي حكمة في خلق الخليقة لا تعلمونها.
{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} أي أسماء المسمّيات كلها، قال ابن عباس: علّمه اسم كل شيء حتى القصعة والمغرفة {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ} أي عرض المسميات على الملائكة وسألهم على سبيل التبكيت {فَقَالَ أَنْبِئُونِي} أي أخبروني {بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء} أي بأسماء هذه المخلوقات التي ترونها {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي في زعمكم أنكم أحق بالخلافة ممن استخلفته.
والحاصل أن الله تعالى أظهر فضل آدم للملائكة بتعليمه ما لم تعلمه الملائكة، وخصّه بالمعرفة التامة دونهم، من معرفة الأسماء والأشياء، والأجناس، واللغات، ولهذا اعترفوا بالعجز والقصور {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا} أي ننزهك يا الله عن النقص ونحن لا علم لنا إِلا ما علمتنا إِياه {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ} أي الذي لا تخفى عليه خافية {الْحَكِيمُ} الذي لا يفعل إِلا ما تقتضيه الحكمة.
{قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} أي أعلمهم بالأسماء التي عجزوا عن علمها، واعترفوا بتقاصر هممهم عن بلوغ مرتبتها {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} أي أخبرهم بكل الأشياء، وسمَّى كل شيء باسمه، وذكر حكمته التي خلق لها {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي قال تعالى للملائكة: ألم أنبئكم بأني أعلم ما غاب في السموات والأرض عنكم {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} أي ما تظهرون {وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} أي تسرون من دعواكم أن الله لا يخلق خلقاً أفضل منكم. وروي أنه تعالى لما خلق آدم عليه السلام رأت الملائكة فطرته العجيبة، وقالوا: ليكن ما شاء فلن يخلق ربنا خلقاً إِلا كنا أكرم عليه منه.

المنَاسَبَة:
أشارت الآيات السابقة إِلى أن الله تعالى خصّ آدم عليه السلام بالخلافة، كما خصّه بعلم غزير وقفت الملائكة عاجزة عنه، وأضافت هذه الآيات الكريمة بيان نوع آخر من التكريم أكرمه الله به ألا وهو أمر الملائكة بالسجود له، وذلك من أظهر وجوه التشريف والتكريم لهذا النوع الإِنساني ممثلاً في أصل البشرية آدم عليه السلام.

تكريم اللهِ آدمَ بسجود الملائكة له
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِن الْكَافِرِينَ(34)}

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ} أي اذكر يا محمد لقومك حين قلنا للملائكة {اسْجُدُوا لآدَمَ } أي سجود تحية وتعظيم لا سجود عبادة {فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ} أي سجدوا جميعاً له غير إبليس {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} أي امتنع مما أمر به وتكبر عنه {وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ} أي صار بإبائه واستكباره من الكافرين حيث استقبح أمر الله بالسجود لآدم.

قصة آدم وحواء في الجنة
{وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ(35)فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ(36)فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(37)قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(38)وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(39)}

{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} أي اسكن في جنة الخلد مع زوجك حواء {وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا} أي كلا من ثمار الجنة أكلاً رغداً واسعاً {حَيْثُ شِئْتُمَا} أي من أي مكان في الجنة أردتما الأكل فيه {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} أي لا تأكلا من هذه الشجرة، قال أبو عباس: هي الكرمة {فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ} أي فتصيرا من الذين ظلموا أنفسهم بمعصية الله.
{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} أي أوقعهما في الزلة بسببها وأغواهما بالأكل منها. هذا إذا كان الضمير عائداً إلى الشجرة، أما إِذا كان عائداً إلى الجنة فيكون المعنى أبعدهما وحوّلهما من الجنة {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} أي من نعيم الجنة.
{وَقُلْنَا اهْبِطُوا} أي اهبطوا من الجنة إلى الأرض والخطاب لآدم وحواء وإبليس {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} أي الشيطان عدوّ لكم فكونوا أعداء له كقوله {إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} أي لكم في الدنيا موضع استقرار بالإقامة فيها {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} أي تمتع بنعيمها إلى وقت انقضاء آجالكم.
{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} أي استقبل آدم دعواتٍ من ربه ألهمه إياها فدعاه بها وهذه الكلمات مفسّرة في موطن آخر في سورة الأعراف {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} الآية {فَتَابَ عَلَيْهِ} أي قَبِل ربه توبته {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} أي إن الله كثير القبول للتوبة، واسع الرحمة للعباد.
{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} كرر الأمر بالهبوط للتأكيد ولبيان أنَّ إقامة آدم وذريته في الأرض لا في الجنة {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} أي رسول أبعثه لكم، وكتاب أنزله عليكم {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} أي من آمن بي وعمل بطاعتي {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي لا ينالهم خوف ولا حزن في الآخرة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي جحدوا بما أنزلت وبما أرسلت {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي هم مخلدون في الجحيم أعاذنا الله منها.

العظة من قصة آدم:
1- إذا توجهت عناية الله تعالى إلى شيء جعلته جليلاً عظيماً، كما توجهت عنايته إلى التراب فخلق منه بشراً سوياً، وأفاض عليه من العلم والمعرفة وغيرهما مما عجز الملائكة عن إدراكه.
2- الإنسان وإن كرّمه الله، لكنه ضعيف، عرضة للنسيان، كما نسي آدم أوامر الله ونواهيه، فأطاع إبليسَ عدوَّه، وأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها.
3- إن التوبة والإنابة إلى الله سبيل الظفر برحمة الله الواسعة، فإن آدم الذي عصى ربه تاب وقبل الله توبته، فعلى العاصي أو المقصر المبادرة إلى التوبة والاستغفار دون قنوط ولا يأس من رحمة الله ورضوانه ومغفرته.
4- الكبر والعناد والإصرار على الإفساد أسباب لاستحقاق السخط الإلهي، واللعنة والغضب والطرد من رحمة الله، فإن إبليس الذي أبى السجود، وأصرّ على موقفه، وعاند الله، وتحدى سلطانه بإغراء الإنسان وصرفه عن إطاعة الله، غضب الله عليه وطرده من الجنة إلى الأبد، وأوعده نار جهنم.

المناسبة:
اختصت هذه الآيات من (41-142) بالكلام عن بني إسرائيل فيما يقارب جزءاً كاملاً، لكشف حقائقهم وبيان مثالبهم، وكانت الآيات السابقة من أول السورة إلى هنا حول إثبات وجود الله ووحدانيته، والأمر بعبادته، وأن القرآن كلام الله المعجز، وبيان مظاهر قدرة الله بخلق الإنسان وتكريمه وخلق السموات والأرض، وموقف الناس من كل ذلك وانقسامهم إلى مؤمنين وكافرين ومنافقين.
ثم بدأ سبحانه بمخاطبة الشعوب التي ظهرت فيها النبوة، فبدأ باليهود، لأنهم أقدم الشعوب ذات الكتب السماوية، ولأنهم كانوا أشد الناس عداوة للمؤمنين بالقرآن، مع أنهم أولى الناس بالإيمان بخاتم الرسل، لذا ذكَّرهم الله تعالى بنعمه الكثيرة التي أنعم بها عليهم، وذكَّرهم بالعهد المؤكد معهم على التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وتنوع أسلوب القرآن في خطابهم، تارة بالملاينة والملاطفة، وتارة بالتخويف والشدة، وأحياناً بالتذكير بالنعم، وطوراً بتعداد جرائمهم وقبائحهم وتوبيخهم على أعمالهم وإقامة الحجة عليهم.

ما طلب الله من بني إسرائيل
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ(40)وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ(41)وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(42)وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ(43)}.

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي يا أولاد النبي الصالح يعقوب {اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} اذكروا ما أنعمت به عليكم وعلى آبائكم من نعم لا تعد ولا تحصى {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} أي أدّوا ما عاهدتموني عليه من الإِيمان والطاعة {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} بما عاهدتكم عليه من حسن الثواب {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} أي اخشوني دون غيري.
{وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ} من القرآن العظيم {مُصدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} أي من التوراة في أمور التوحيد والنبوة {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} أي أول من كفر من أهل الكتاب فحقكم أن تكونوا أول من آمن { وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً} أي لا تستبدلوا بآياتي البينات التي أنزلتها عليكم حطام الدنيا الفانية {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} أي خافون دون غيري {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} أي لا تخلطوا الحق المنزل من الله بالباطل الذي تخترعونه، ولا تحرفوا ما في التوراة بالبهتان الذي تفترونه {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} أي ولا تخفوا ما في كتابكم من أوصاف محمد عليه الصلاة والسلام {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه حق أو حال كونكم عالمين بضرر الكتمان.
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} أي أدوا ما وجب عليكم من الصلاة والزكاة، وصلوا مع المصلين بالجماعة، أو مع أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام.

عرض لشيء من أخلاق اليهود السيئة
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ(44)وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ(45)الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(46)يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ(47)وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ(48)}

المنَاسَبَة:
لا تزال الآيات تتحدث عن بني إسرائيل، وفي هذه الآيات ذمٌ وتوبيخ لهم على سوء صنيعهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، ويدعون الناس إلى الهدى والرشاد ولا يتبعونه.

سَبَبُ النّزول:
نزلت هذه الآية في بعض علماء اليهود، كانوا يقولون لأقربائهم الذين أسلموا: اثبتوا على دين محمد فإِنه حق، فكانوا يأمرون الناس بالإِيمان ولا يفعلونه.

يخاطب الله أحبار اليهود فيقول لهم على سبيل التقريع والتوبيخ {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} أي أتدعون الناس إِلى الخير وإِلى الإِيمان بمحمد {وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} أي تتركونها فلا تؤمنون ولا تفعلون الخير {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} أي حال كونكم تقرؤون التوراة وفيها صفة ونعت محمد عليه الصلاة والسلام {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي أفلا تفطنون وتفقهون أنّ ذلك قبيح فترجعون عنه؟!.
الخطاب في الآية لا ينطبق على اليهود فقط، بل على كل من سلك مسلكهم.
فالدين كلمة تقال وسلوك يفعل فإذا انفصلت الكلمة عن السلوك ضاعت الدعوة، لأن من يراك تفعل ما تنهاه عنه يدرك أنك خادع وغشاش، ولذا قال الحق سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3].
فلا بد للقول من عمل وهو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أمر أصحابه بشيء إلا كان أسبقهم إليه، ولذا أمرنا الله تعالى باتخاذه قدوة فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
وكان سيدنا عمر رضي الله عنه إذا أراد أن يأمر الرعية بشيء بدأ بنفسه وأهله قائلاً: "لقد بدا لي أن آمر بكذا وكذا، والذي نفسي بيده من خالف منكم لأجعلنه نكالاً للمسلمين".
فلا بد للعلماء والدعاة أن يكونوا قدوة إذا أرادوا إصلاح المجتمع، وهو المنهج الذي انتشر به الإسلام في كثير من البلدان كالصين عبر التجار المسلمين الملتزمين بتعاليم الإسلام.
ثم بيَّن لهم تعالى طريق التغلب على الأهواء والشهوات، والتخلص من حب الرياسة وسلطان المال فقال {وَاسْتَعِينُوا} أي اطلبوا المعونة على أموركم كلها {بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} أي بتحمل ما يشق على النفس من تكاليف شرعية، وبالصلاة التي هي عماد الدين { وَإِنَّهَا} أي الصلاة {لَكَبِيرَةٌ} أي شاقة وثقيلة {إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ} أي المتواضعين المستكينين الذين صفت نفوسهم لله {الَّذِينَ يَظُنُّونَ} أي يعتقدون اعتقاداً جازماً لا يخالجه شك {أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} أي سيلقون ربهم يوم البعث فيحاسبهم على أعمالهم {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} أي معادهم إِليه يوم الدين.
طلب الله تعالى منهم في الآية الاستعانة بالصبر والصلاة ثم قال: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} ولم يقل (وإنهما) فهل المقصود الصلاة فقط، أم الصبر والصلاة معاً؟
المقصود الأمران معاً وإنما اقتصر على واحدة لأنهما يؤديان نفس العلاج، كقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] ولم يقل (إليهما) لاشتراكهما في نفس العمل وهو شغل المؤمنين عن العبادة والذكر فكذلك الأمر بالصبر والصلاة، فلا يتم الصبر بلا صلاة ولا تتقن الصلاة إلا بالصبر.
والمراد بالخشوع في قوله تعالى: {إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ}، وهو الخضوع لمن ترى أنه فوقك بلا منازع، وهو ما يجعلك تستحضر عظمة الحق سبحانه وتعرف ضآلة قيمتك أمام قدرته جل جلاله في إبداع هذا الكون الفسيح، وتعلم أن ما عندك هو في قبضة الله يسلبه عنك في أي لحظة، لأننا تعيش في عالم الأغيار، فعلينا أن نخضع لمن يُغَيّر ولا يتغيّر جل جلاله وعظمت قدرته.
ثم ذكّرهم تعالى بنعمه وآلائه العديدة مرة أخرى فقال {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} بالشكر عليها بطاعتي {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ} أي فضلت آباءكم {عَلَى الْعَالَمِينَ} أي عالمي زمانهم بإِرسال الرسل، وإِنزال الكتب، وجعلهم سادة وملوكاً، وتفضيل الآباء شرفٌ للأبناء.
{وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} أي خافوا ذلك اليوم الرهيب الذي لا تقضي فيه نفسٌ عن أخرى شيئاً من الحقوق {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} أي لا تقبل شفاعة في نفس كافرة بالله أبداً {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} أي لا يقبل منها فداء {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} أي ليس لهم من يمنعهم وينجيهم من عذاب الله.
هذه الآية وردت مرتين والصدد ذاته، ولكن الآية الأولى {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ}، والثانية {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ…} ولا تكرار في ذلك، لأن الأولى تتعلق بالنفس التي تريد أن تشفع لمن أسرف على نفسه فلا يقبل منها، ثم تطلب العدل وهو الفدية فلا يقبل منها، وأما الثانية فهي تخص النفس المسرفة، فتطلب العدل أولاً (ارجعنا نعمل صالحاً) فلا يقبل منها، ثم تبحث عن الشفعاء فلا تنفعها الشفاعة.

ما يستخلص من الآيات [44-48]:
1- الصدق مع الناس من الصفات الأساسية التي يجب على المسلم أن يتحلى بها، ومِنْ مقتضى هذا الصدق أن يكون قوله مطابقاً لفعله حتى يؤثر في الآخرين، ومَنْ خالف ذلك فهو ممقوت عند الله لقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3] خصوصاً إذا كان هذا المُخالِف مِنَ العلماء.
2- لا بد للطاعة من صبر، ولا بد لترك المعصية من صبر، وخير معين على ذلك الدخول على الله تعالى وطلب العون منه أثناء الصلاة بكل خضوع وتذلل وافتقار، لأن أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد في صلاته.
3- موازين الآخرة غير موازين الدنيا، فالمجرم في الدنيا يمكن تخليصه وتبرئته بالوساطات والشفاعات عند مَنْ لا يخافون الله تعالى، وأما في الآخرة فهو خاضع لقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ}، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}.
4- الشفاعة المرفوضة يوم القيامة هي شفاعة الكافرين، فقد أجمع المفسرون على أن المراد بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ…} النفس الكافرة، لا كل نفس. أما المؤمنون فتنفعهم الشفاعة بإذن الله تعالى لقوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وقوله: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23]، وقد وردت أحاديث كثيرة تفيد ذلك.
5- تفضيل بني إسرائيل على العالمين ليس على إطلاقه.
فمن حيث الزمان فهو مرتبط بفترة زمانية سابقة لالتزامهم بشرع الله تعالى {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}، وغضب عليهم ولعنهم.
ومن حيث الأشخاص، لا تقتضي هذه الأفضلية بأن يكون كل فرد منهم أفضل من كل فرد من غيرهم، فهو تفضيل من حيث الجملة لا من حيث التفصيل.

نِعَمُ الله العشر على بني إسرائيل
{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ(49)وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ(50)وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ(51)ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(53)وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(54)}

المنَاسَبَة:
لَمَّا قدّم تعالى ذكر نعمه على بني إِسرائيل إِجمالاً، بيَّن بعد ذلك أقسام تلك النعم على سبيل التفصيل، ليكون أبلغ في التذكير وأدعى إِلى الشكر، فكأنه قال: اذكروا نعمتي، واذكروا إِذ نجيناكم من آل فرعون، واذكروا إِذ فرقنا بكم البحر… إِلى آخره وكل هذه النعم تستدعي شكر المنعم جل وعلا لا كفرانه وعصيانه.

{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ} أي اذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم حين نجيت آباءكم {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} أي من بطش فرعون وأشياعه العتاة، والخطاب للأبناء المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم إِذ أنّ النعمة على الآباء نعمة على الأبناء {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} أي يولونكم ويذيقونكم أشد العذاب وأفظعه. والسوء هو المشتمل على ألوان شتى من العذاب كالجلد والأعمال الشاقة ونحوها.
{يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ} أي يذبحون الذكور من الأولاد {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ} أي يستبقون الإِناث على قيد الحياة للخدمة {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} أي فيما ذكر من العذاب المهين من الذبح والاستحياء، محنة واختبارٌ عظيم لكم من الله تعالى بتسليطهم عليكم ليتميز البرُّ من الفاجر.
قوله تعالى {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} ورد في موضع آخر بـ {وإذ أنجيناكم من آل فرعون…}، وهناك فرق كبير بين كلمة "نَجَّى" وكلمة "أَنْجى"، فكلمة نَجّى تكون وقت نزول العذاب، وكلمة أَنْجى تمنع عنهم العذاب، الأولى للتخليص من العذاب والثانية لإبعاده نهائياً ففضل الله عليهم كان على مرحلتين: الأولى أنه خلّصهم من عذاب واقع عليهم، والثانية أبعدهم عن آل فرعون فخلّصهم منه نهائياً.
{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} أي اذكروا أيضاً إِذ فلقنا لكم البحر حتى ظهرت لكم الأرض اليابسة فمشيتم عليها {فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} أي نجيناكم من الغرق وأغرقنا فرعون وقومه، وذلك أن موسى عليه السلام عندما رأى فرعون وجيشه يتّجهون إلى البحر ليعبروه أراد أن يضرب البحر ليعود إلى السيولة، فلا يلحق بهم آل فرعون، أوحى الله تعالى إليه: {وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ} أي اتركه كما هو حتى يتبعكم فرعون وجيشه ليهلكوا {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} أي وأنتم تشاهدون ذلك فقد كان آية باهرة من آيات الله في إِنجاء أوليائه وإِهلاك أعدائه.
والله تعالى أراد أن يرى بنو إسرائيل آل فرعون وهم يغرقون ليذهب غيض قلوبهم على أعدائهم، وتحتمل معنى آخر وهو أن ينظر بعضكم إلى بعض وأنتم غير مصدقين أنكم نجوتم من هذا البلاء وفي نفس الوقت تطمئنون إلى أن عدوكم لن يطاردكم مرة أخرى لأنكم رأيتم مصرعه بأُمّ أعينكم.
وفرعون: لقب لكل مَنْ ملك مصر قبل البطالسة، مثل قيصر لملك الروم، وكسرى لملك الفرس، وتُبّع لملك اليمن، والنجاشي لملك الحبشة.
{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} أي وعدنا موسى أن نعطيه التوراة بعد أربعين ليلة وكان ذلك بعد نجاتكم وإِهلاك فرعون {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} أي عبدتم العجل {مِنْ بَعْدِهِ} أي بعد غيبته عنكم حين ذهب لميقات ربه {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} أي معتدون في تلك العبادة ظالمون لأنفسكم.
أصل هذا الذهب الذي صنع لهم السامريُّ منه عجلاً من الحليّ التي أخذوها خِلسة من نساء آل فرعون أثناء خدمتهم لهن، ولذا فتنهم الله بالمال الحرام، لأن المال الحرام لا يأتي منه خير، بل ينقلب على صاحبه شراً ووبالاً، فلا بد من أخذ العبرة مما حصل لهم، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "إن الله طَيّب ولا يقبل إلا طيّباً" [رواه مسلم].
{ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ} أي تجاوزنا عن تلك الجريمة الشنيعة {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي من بعد ذلك الاتخاذ المتناهي في القبح {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي لكي تشكروا نعمة الله عليكم وتستمروا بعد ذلك على الطاعة.
{وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} أي واذكروا نعمتي أيضاً حين أعطيت موسى التوراة الفارقة بين الحق والباطل وأيدته بالمعجزات {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي لكي تهتدوا بالتدبر فيها والعمل بما فيها من أحكام.
والكتاب: هو التوراة. وأمّا الفرقان: فقد اختلفوا في تفسيره، فقيل هو مرادف للكتاب من باب التأكيد، وقيل هي الأشياء التي يُفَرق الله بها بين الحق والباطل ولقد عَلَّمها الحق تعالى لموسى عليه السلام، وتطلق هذه الكلمة على كل ما يُفَرق بين الحق والباطل ولذلك سمى الله يوم بدر بقوله: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}.
ثم بَيَّنَ تعالى كيفية وقوع العفو المذكور بقوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ} أي واذكروا حين قال موسى لقومه بعدما رجع من الموعد الذي وعده ربه فرآهم قد عبدوا العجل يا قوم لقد ظلمتم أنفسكم {بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} أي بعبادتكم للعجل {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} أي توبوا إِلى من خلقكم بريئاً من العيب والنقصان {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} أي ليقتل البريء منكم المجرم {ذَلِكُمْ} أي القتل {خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} أي رضاكم بحكم الله ونزولكم عند أمره خير لكم عند الخالق العظيم {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أي قبل توبتكم {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} أي عظيم المغفرة واسع التوبة.
وقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} جزاء لها على عبادة غير الله، فكان تكفير الذنب أن ترد هذه النفس إلى بارئها بالقتل، وقد أوقفهم موسى عليه السلام صفوفاً وأمر الذين لم يعبدوا العجل بقتل الذين عبدوا العجل وعندما قتل منهم قرابة سبعين ألفاً استصرخ موسى وهارون ربهما وقالا: "البكية البكية، أي: أبكوا عسى أن يعفوا الله عنهم، ووقفوا يبكون أمام حائط المبكى فرحمهم الله.

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هناسبحان الله و بحمده

التصنيفات
الصف الثامن

يتابع تفسير سورة البقرة للصف الثامن

ما يستخلص من الآيات [44-48]:
1- الصدق مع الناس من الصفات الأساسية التي يجب على المسلم أن يتحلى بها، ومِنْ مقتضى هذا الصدق أن يكون قوله مطابقاً لفعله حتى يؤثر في الآخرين، ومَنْ خالف ذلك فهو ممقوت عند الله لقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3] خصوصاً إذا كان هذا المُخالِف مِنَ العلماء.
2- لا بد للطاعة من صبر، ولا بد لترك المعصية من صبر، وخير معين على ذلك الدخول على الله تعالى وطلب العون منه أثناء الصلاة بكل خضوع وتذلل وافتقار، لأن أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد في صلاته.
3- موازين الآخرة غير موازين الدنيا، فالمجرم في الدنيا يمكن تخليصه وتبرئته بالوساطات والشفاعات عند مَنْ لا يخافون الله تعالى، وأما في الآخرة فهو خاضع لقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ}، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}.
4- الشفاعة المرفوضة يوم القيامة هي شفاعة الكافرين، فقد أجمع المفسرون على أن المراد بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ…} النفس الكافرة، لا كل نفس. أما المؤمنون فتنفعهم الشفاعة بإذن الله تعالى لقوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وقوله: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23]، وقد وردت أحاديث كثيرة تفيد ذلك.
5- تفضيل بني إسرائيل على العالمين ليس على إطلاقه.
فمن حيث الزمان فهو مرتبط بفترة زمانية سابقة لالتزامهم بشرع الله تعالى {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}، وغضب عليهم ولعنهم.
ومن حيث الأشخاص، لا تقتضي هذه الأفضلية بأن يكون كل فرد منهم أفضل من كل فرد من غيرهم، فهو تفضيل من حيث الجملة لا من حيث التفصيل.

نِعَمُ الله العشر على بني إسرائيل
{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ(49)وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ(50)وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ(51)ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(53)وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(54)}

المنَاسَبَة:
لَمَّا قدّم تعالى ذكر نعمه على بني إِسرائيل إِجمالاً، بيَّن بعد ذلك أقسام تلك النعم على سبيل التفصيل، ليكون أبلغ في التذكير وأدعى إِلى الشكر، فكأنه قال: اذكروا نعمتي، واذكروا إِذ نجيناكم من آل فرعون، واذكروا إِذ فرقنا بكم البحر… إِلى آخره وكل هذه النعم تستدعي شكر المنعم جل وعلا لا كفرانه وعصيانه.

{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ} أي اذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم حين نجيت آباءكم {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} أي من بطش فرعون وأشياعه العتاة، والخطاب للأبناء المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم إِذ أنّ النعمة على الآباء نعمة على الأبناء {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} أي يولونكم ويذيقونكم أشد العذاب وأفظعه. والسوء هو المشتمل على ألوان شتى من العذاب كالجلد والأعمال الشاقة ونحوها.
{يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ} أي يذبحون الذكور من الأولاد {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ} أي يستبقون الإِناث على قيد الحياة للخدمة {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} أي فيما ذكر من العذاب المهين من الذبح والاستحياء، محنة واختبارٌ عظيم لكم من الله تعالى بتسليطهم عليكم ليتميز البرُّ من الفاجر.
قوله تعالى {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} ورد في موضع آخر بـ {وإذ أنجيناكم من آل فرعون…}، وهناك فرق كبير بين كلمة "نَجَّى" وكلمة "أَنْجى"، فكلمة نَجّى تكون وقت نزول العذاب، وكلمة أَنْجى تمنع عنهم العذاب، الأولى للتخليص من العذاب والثانية لإبعاده نهائياً ففضل الله عليهم كان على مرحلتين: الأولى أنه خلّصهم من عذاب واقع عليهم، والثانية أبعدهم عن آل فرعون فخلّصهم منه نهائياً.
{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} أي اذكروا أيضاً إِذ فلقنا لكم البحر حتى ظهرت لكم الأرض اليابسة فمشيتم عليها {فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} أي نجيناكم من الغرق وأغرقنا فرعون وقومه، وذلك أن موسى عليه السلام عندما رأى فرعون وجيشه يتّجهون إلى البحر ليعبروه أراد أن يضرب البحر ليعود إلى السيولة، فلا يلحق بهم آل فرعون، أوحى الله تعالى إليه: {وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ} أي اتركه كما هو حتى يتبعكم فرعون وجيشه ليهلكوا {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} أي وأنتم تشاهدون ذلك فقد كان آية باهرة من آيات الله في إِنجاء أوليائه وإِهلاك أعدائه.
والله تعالى أراد أن يرى بنو إسرائيل آل فرعون وهم يغرقون ليذهب غيض قلوبهم على أعدائهم، وتحتمل معنى آخر وهو أن ينظر بعضكم إلى بعض وأنتم غير مصدقين أنكم نجوتم من هذا البلاء وفي نفس الوقت تطمئنون إلى أن عدوكم لن يطاردكم مرة أخرى لأنكم رأيتم مصرعه بأُمّ أعينكم.
وفرعون: لقب لكل مَنْ ملك مصر قبل البطالسة، مثل قيصر لملك الروم، وكسرى لملك الفرس، وتُبّع لملك اليمن، والنجاشي لملك الحبشة.
{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} أي وعدنا موسى أن نعطيه التوراة بعد أربعين ليلة وكان ذلك بعد نجاتكم وإِهلاك فرعون {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} أي عبدتم العجل {مِنْ بَعْدِهِ} أي بعد غيبته عنكم حين ذهب لميقات ربه {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} أي معتدون في تلك العبادة ظالمون لأنفسكم.
أصل هذا الذهب الذي صنع لهم السامريُّ منه عجلاً من الحليّ التي أخذوها خِلسة من نساء آل فرعون أثناء خدمتهم لهن، ولذا فتنهم الله بالمال الحرام، لأن المال الحرام لا يأتي منه خير، بل ينقلب على صاحبه شراً ووبالاً، فلا بد من أخذ العبرة مما حصل لهم، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "إن الله طَيّب ولا يقبل إلا طيّباً" [رواه مسلم].
{ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ} أي تجاوزنا عن تلك الجريمة الشنيعة {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي من بعد ذلك الاتخاذ المتناهي في القبح {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي لكي تشكروا نعمة الله عليكم وتستمروا بعد ذلك على الطاعة.
{وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} أي واذكروا نعمتي أيضاً حين أعطيت موسى التوراة الفارقة بين الحق والباطل وأيدته بالمعجزات {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي لكي تهتدوا بالتدبر فيها والعمل بما فيها من أحكام.
والكتاب: هو التوراة. وأمّا الفرقان: فقد اختلفوا في تفسيره، فقيل هو مرادف للكتاب من باب التأكيد، وقيل هي الأشياء التي يُفَرق الله بها بين الحق والباطل ولقد عَلَّمها الحق تعالى لموسى عليه السلام، وتطلق هذه الكلمة على كل ما يُفَرق بين الحق والباطل ولذلك سمى الله يوم بدر بقوله: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}.
ثم بَيَّنَ تعالى كيفية وقوع العفو المذكور بقوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ} أي واذكروا حين قال موسى لقومه بعدما رجع من الموعد الذي وعده ربه فرآهم قد عبدوا العجل يا قوم لقد ظلمتم أنفسكم {بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} أي بعبادتكم للعجل {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} أي توبوا إِلى من خلقكم بريئاً من العيب والنقصان {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} أي ليقتل البريء منكم المجرم {ذَلِكُمْ} أي القتل {خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} أي رضاكم بحكم الله ونزولكم عند أمره خير لكم عند الخالق العظيم {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أي قبل توبتكم {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} أي عظيم المغفرة واسع التوبة.
وقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} جزاء لها على عبادة غير الله، فكان تكفير الذنب أن ترد هذه النفس إلى بارئها بالقتل، وقد أوقفهم موسى عليه السلام صفوفاً وأمر الذين لم يعبدوا العجل بقتل الذين عبدوا العجل وعندما قتل منهم قرابة سبعين ألفاً استصرخ موسى وهارون ربهما وقالا: "البكية البكية، أي: أبكوا عسى أن يعفوا الله عنهم، ووقفوا يبكون أمام حائط المبكى فرحمهم الله.

ما يستخلص من الآيات [49-54]:
1- لكل ظالم متكبر نهاية وخيمة، ففرعون كان هلاكه بالإغراق، وقارون بالخسف وغيرها بشتى أنواع البلاء الذي ذكره القرآن {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} الذين جاؤوا من بعدهم إلى يوم القيامة.
ولكل مستضعف مظلوم فرج قريب ونصر محقق طال الزمن أو قصر، كما جاء في الحديث القدسي: "وعزتي وجلال لأنصرنك ولو بعد حين".
2- نصرة المظلوم على عدوه نعمة إلهية تستوجب الشكر، ولذا اتخذ بنو إسرائيل يوم عاشوراء الذي أنجاه الله فيه من الغرق عيداً يتقربون فيه إلى الله بالصيام، وعندما قدم رسول الله صلى اللهعليه وسلم المدينة ووجدهم على ذلك، قال لهم: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وغرّق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن أحق وأولى بموسى منكم فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه بصيامه [رواه مسلم]. وقال الترمذي: وروي عن ابن عباس أنه قال: "صوموا التاسع والعاشر وخالفوا اليهود"، واحتج بهذا الحديث الشافعي وأحمد وإسحاق.
والشكر هو: الاجتهاد في بذل الطاعة مع الاجتناب للمعصية في السر والعلانية، كما قال سهل بن عبيد الله.
3- المبادرة إلى التوبة هي السبيل إلى التخلص من المعصية، والله جل جلاله {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر: 3]، بل إنه تعالى يغفر جميع الذنوب {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53].
4- الصبر هو مفتاح الفرج، قال القشيري: من صبر في الله على قضاء الله عوضه الله صحبة أوليائه، هؤلاء بنو إسرائيل صبروا على مقاساة الضر من فرعون وقومه فجعل منهم أنبياء وجعل منهم ملوكاً وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين [البحر المحيط 1/194].
إلا أن الصبر لا يعني أبداً الرضا بالضيح، فالمسلم لا يعرف الذل والخنوع، بل عليه أن يقاوم الظلم والاستبداد بالوسائل التي شرعها الله له {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}.
5- إن الله تعالى ذكر لنا في هذه الآيات طريقة تخلص بني إسرائيل من أوزارهم بالقتل ليظهر عظيم فضله على هذه الأمة المحمدية حيث إنه تعالى خَفَّف عنها ووضع عنها الأغلال التي كانت على الأمم السابقة، قال تعالى في وصف نبيه عليه الصلاة والسلام: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] استجابة لدعاء عباده الذي علمهم إياه في سورة البقرة {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286].
فمن ارتكب من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وِزْراً لا يتعلق بحقوق الآخرين أجزأته التوبة النصوح بينه وبين الله تعالى.

تتمة النِّعَم العشر على بني إسرائيل
{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ(55)ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(56)وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(57)وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ(58)فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ(59)وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ(60)}

المنَاسَبَة:
بعد أن ذكّر تعالى بني إسرائيل بالنعم، بيَّن لوناً من ألوان طغيانهم وجحودهم، وتبديلهم لأوامر الله، وهم مع الكفر والعصيان، يعاملون باللطف والإِحسان، فما أقبحهم من أمة وما أخزاهم!! قال الطبري: لما تاب بنو إِسرائيل من عبادة العجل أمر الله تعالى موسى أن يختار من قومه رجالاً يعتذرون إِليه من عبادتهم العجل، فاختار موسى سبعين رجلاً من خيارهم كما قال تعالى {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا} وقال لهم: صوموا وتطهروا وطهّروا ثيابكم ففعلوا، وخرج بهم إِلى "طور سيناء" فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا القوم حتى إِذا دخلوا في الغمام وقعدوا سجوداً، وعلموا من حال موسى أن الله يكلمه يأمره وينهاه، فلما انكشف عن موسى الغمام أقبل إِليهم فقالوا لموسى {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً}.

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى} أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين خرجتم مع موسى لتعتذروا إِلى الله من عبادة العجل فقلتم { لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} أي لن نصدّق لك بأنَّك رسول من عند الله {حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} أي حتى نرى الله علانية.
وسؤالهم رؤية الله جهرة، هو سؤال عناد وحماقة، لأن الله تعالى فوق المادة، {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103].
والدليل على ذلك أن الإنسان ذاته مكوّن من روح ومادة، وقد أوصله علمه عبر السنين الطوال من حلقات البحث المتسلسلة إلى إدراك بعض الجوانب المادية في جسمه، ولكنه عجز عن إدراك حقيقة الروح فضلاً عن رؤيتها {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا}
[الإسراء: 85]، {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]، فإذا عجز عن إدراك هذه الروح التي في جسده وهي مخلوقة فكيف يطمع أن يدرك، أو يرى الله جهرة وهو الخالق المصوِّر؟!
{فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} أي أرسل الله عليهم ناراً من السماء فأحرقهم {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} أي ما حلّ بكم ثم لما ماتوا قام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: ربّ ماذا أقول لبني إِسرائيل وقد أهلكت خيارهم، ومازال يدعو ربه حتى أحياهم قال تعالى {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} أي أحييناكم بعد أن مكثتم ميتين يوماً وليلة، فقُاموا وعاشوا ينظر بعضهم إِلى بعض كيف يحيون {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي لتشكروا الله على إِنعامه عليكم بالبعث بعد الموت.
ثم ذكّرهم تعالى بنعمته عليهم وهم في التيه لما امتنعوا من دخول مدينة الجبارين وقتالهم وقالوا لموسى {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} فَعُوقِبُوا على ذلك بالضياع أربعين سنة يتيهون في الأرض فقال تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} أي سترناكم بالسحاب من حر الشمس وجعلناه عليكم كالظُلَّة {وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} أي أنعمنا عليكم بأنواعٍ من الطعام والشراب من غير كدٍّ ولا تعب،والمنُّ كان ينزل عليهم مثل العسل فيمزجونه بالماء ثم يشربونه، والسلوى: طير يشبه السماني لذيذ الطعم.
{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي وقلنا لهم كلوا من لذائذ نعم الله {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي أنهم إذ كفروا هذه النعم الجليلة، ما ظلمونا ولكن ظلموا أنفسهم، لأن وبال العصيان راجع عليهم.
قال الشيخ الشعراوي: إن الدنيا عالم أغيار، والنعمة التي أنت فيها زائلة عنك، إما أن تتركها بالموت أو تتركك وتزول عنك. وتخرج من الدنيا تحمل أعمالك فقط، كل شيء زال وبقيت ذنوبك تحملها إلى الآخرة، ولذلك فإن كل من عصى الله وتمرّد على دينه قد ظلم نفسه لأنه قادها إلى العذاب الأبدي طمعاً في نفوذ أو مال زال عنه فترة قصيرة ولم يدم. فكأنه ظلمها بأن حرمها من نعيم أبدي وأعطاها شهوة قصيرة عاجلة.
{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} أي واذكروا أيضاً نعمتي عليكم حين قلنا لكم بعد خروجكم من التيه، ادخلوا بيت المقدس {فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} أي كلوا منها أكلاً واسعاً هنيئاً {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} أي وادخلوا باب القرية ساجدين لله شكراً على خلاصكم من التيه {وَقُولُوا حِطَّةٌ} أي قولوا يا ربنا حطَّ عنا ذنوبنا واغفر لنا خطايانا {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} أي نمح ذنوبكم ونَكَفِّرْ سيئاتكم {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} أي نزيد من أحسن إحساناً، بالثواب العظيم، والأجر الجزيل.
{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي غَيَّر الظالمون أمر الله فقالوا {قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} حيث دخلوا يزحفون على "أدبارهم" وقالوا على سبيل الاستهزاء "حِنْطة" وهي القمح، ليطوعوا اللفظ لأغراضهم فكأن المسألة ليست عدم قدرة على الطاعة ولكن رغبة في المخالفة وسخرية من أوامر الله. {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} أي أنزلنا عليهم طاعوناً وبلاءً {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} أي بسبب عصيانهم وخروجهم عن طاعة الله، روي أنه مات بالطاعون في ساعة واحدة منهم سبعون ألفاً.
{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين طلب موسى السقيا لقومه وقد عطشوا في التيه {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} أي اضرب أيّ حجر كان تتفجر بقدرتنا العيون منه {فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} أي فضرب فتدفق الماء منه بقوة وخرجت منه اثنتا عشرة عيناً بقدر قبائلهم.
وهنا ينبغي أن نقف وقفة، فالإنسان حين يستسقي الله يطلب منه أن ينزل عليه ماء من السماء، والحق جل جلاله كان قادراً على إنزاله من السماء، ولكنه تعالى أرادها معجزة لبني إسرائيل فسقاهم من الحجر التي تحت أرجلهم، ليعلموا أنه يستطيع أن يأتي بالماء من الحجر الصلب، وأن نبع الماء من متعلقات "كُنْ فيكون" وإن اقتضت حكمته تعالى ربط الأسباب بمسبباتها.
وصح هذا فقد تعنت بنو إسرائيل وقالوا لموسى عليه السلام: هب أننا في مكان لا حجر فيه، من أين ينبع الماء؟ فلا بد أن نأخذ معنا الحجر حتى عطشنا ضربت الحجر وشربنا. وقد نسوا أن سقوا بكلمة "كُنْ" لا بالحجر، ولكنهم قوم لا يؤمنون إلا بما يرونه بأُمِّ أعينهم.
{قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} أي علمت كل قبيلة مكان شربها لئلا يتنازعوا {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ} أي قلنا لهم: كلوا من المنّ والسلوى، واشربوا من هذا الماء، من غير كدّ منكم ولا تعب، بل هو من خالص إِنعام الله {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} أي ولا تطغوا في الأرض بأنواع البغي والفساد.

ما يستخلص من الآيات [55-60]:
1- تذكير القرآن بني إسرائيل المعاصرين بما أنعمه الله من نعم على أصولهم فيه دلالة على أن الفرع يتأثر بسلوك الأصل إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً. ولذا قال الحق تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]. وقال أيضاً في كنز الغلامين اليتيمين: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: 82]، فكان صلاح الأب أو الجد سبباً في صلاح الابن وحفظ ما تركه له من مال.
2- أفاد قوله تعالى: {وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}، أن الله تعالى لا تضره معصية العاصي ولا تنفعه طاعة الطائع، وهو معنى قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس: 23].
3- تفجير الماء من الحجر، هي من المعجزات التي أجراها الله على يد موسى عليه السلام. وكان الله قادراً على تفجير الماء وفلق البحر من غير ضرب عصا، ولكنه جلّت قدرته أراد أن يعلم عباده ربط المسببات بأسبابها، لكي يسعوا إلى الأخذ بها. وكذلك الحال بالنسبة لسائر المعجزات، وكذلك تقريب لفهم المعجزة.
4- تحريف الكالم وتبديله صفة عريقة في بني إسرائيل، فقال لهم الله تعالى: {وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ} فقالوا: حِنْطَة، أي: القمح، وموسى عليه السلام بين أظهرهم، فكيف وقد غاب عنهم؟ فاليوم يتفقون معك على شيء وغداً يحرفونه ويبدلونه والعرب في سباتهم نائمون.
5- أفادت آية: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى} تقرير سنة الاستسقاء بإظهار سنة العبودية والفقر والذلة مع التوبة النصوح، وتكون بخروج الإمام -أو من ينوب عنه- مع المسلمين إلى المصلى للخطبة والصلاة والدعاء لما رواه مسلم عن عبد الله بن زيد المازيني قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فاستسقى وحول رداءه ثم صلى ركعتين".
وذهب أبو حنيفة إلى أنه ليس من سنة الاستسقاء صلاة ولا خروج، وإنما هو دعاء لا غير، واحتج بحديث أنس في الصحيحين، وردّ عنه القرطبي بقوله: ولا حجة له فيه، فإن ذلك كان دعاء عُجِّلت إجابته فاكتفى به عما سواه ولم يقصد بذلك بيان سنته، ولما قصد البيان بيّن فعله بحديث مسلم السابق. [انظر القرطبي ج1/418].
6- دَلَّ قوله تعالى {كُلُوا واشْرَبوا} وقوله { وَلا تَعْثَوا في الأرْضِ مُفْسِدين} على إباحة النعم والتمتع بها، والنهي عن المعاصي والإنذار بعقوبتها وأضرارها.

بعض مطامع اليهود وجزاؤهم
{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُو بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ(61)}

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى} أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين قلتم لنبيكم موسى وأنتم في الصحراء تأكلون من المنّ والسلوى {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} أي على نوع واحدٍ من الطعام وهو المنُّ والسلوى وقد وُصِفَ الطعام هنا بأنه واحد مع أنه مكوّن من صنفين لأنه كان يأتيهم من جهة واحدة من السماء، فتطلعت أنظارهم الأرض، فقالوا: {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ} أي ادع الله أن يرزقنا غير ذلك الطعام فقد سئمنا المنَّ والسلوى وكرهناه ونريد ما تخرجه الأرض من الحبوب والبقول {مِنْ بَقْلِهَا} من خضرتها كالنعناع والكرفس والكراث {وَقِثَّائِهَا} يعني القتَّة التي تشبه الخيار {وَفُومِهَا} أي الثوم {وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} أي العدس والبصل المعروفان.
أراد الله تعالى أن يرفع من قدرهم فأنزل عليهم المنّ والسلوى من غير تعب منهم ولكنهم فضلوا الحنين إلى طعام العبيد، فطلبوا ما تخرجه الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها. فعتب الحق جلّ جلاله عليهم لعلهم يرجعون.
{قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} أي قال لهم موسى مُنْكِراً عليهم: ويْحَكُم أتستبدلون الخسيس بالنفيس! وتفضلون البصل والبقل والثوم على المنّ والسلوى؟
فائدة: تدخل الباء بعد كلمة الاستبدال على المتروك، فتقول: اشتريت الثوب بدرهم، أي أخذت الثوب وتركت الدرهم. فبنو إسرائيل تركوا الذي هو خير وهو المنّ والسلوى وأخذوا الذي هو أدنى، بمعنى أنه دونه رتبة في الخيرية، لا بمعنى أنه دنيء لأن رزق الله المباح لا يوصف بالدناءة.
{اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} أي ادخلوا مصراً من الأمصار وبلداً من البلدان أيّاً كان لتجدوا فيه مثل هذه الأشياء.
ومن الممكن أن تكون مصر التي عاش فيها فرعون.
وكلمة مصر تطلق على كل مكان له مفتي وأمير وقاض، وهي مأخوذة من الاقتطاع، لأنه مكان يقطع امتداد الأرض الخلاء.
ثم قال تعالى منبهاً على ضلالهم وفسادهم وبغيهم وعدوانهم {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} أي لزمهم الذل والهوان وضرب عليهم الصغار والخزي الأبدي الذي لا يفارقهم مدى الحياة {وَبَاءُو بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ} أي انصرفوا ورجعوا بالغضب والسخط الشديد من الله {ذَلِكَ} أي ما نالوه من الذل والهوان والسخط والغضب بسبب ما اقترفوه من الجرائم الشنيعة {بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُون النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي بسبب كفرهم بآيات الله جحوداً واستكباراً، وقتلهم أنبياء الله ظلماً وعدواناً {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} أي بسبب عصيانهم وطغيانهم وتمردهم عَلى أحكام الله.
فائدة: فإن قيل: كيف جاز أن يخلى بين الكافرين وقتل الأنبياء؟ أجيب: بأن ذلك كرامة لهم، وزيادة في منازلهم، كمثل من يُقتل في سبيل الله من المؤمنين، وليس ذلك بِخذْلان لهم. قال ابن عباس والحسن البصري: لم يُقتل نبي قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال، وكلّ من أمر بقتال نُصِر.

ما يستخلص من الآيات [61]:
1- ترك الأفضل من المطعومات وطلب الأدنى منه من بصل وعدس وثوم ونحوها، دليل على أن النفس البشرية قد تبدّل الطيّب بالخبيث، والأرقى بالأدنى. قال الحسن البصري: كان اليهود نتانى أهل كرّاث وأبصال وأعداس، فنزلوا إلى عكرهم -أي أصلهم- عِكْرَ السوء، واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم، فقالوا (لن نصبر على طعام واحد)، وقولهم (لن نصبر) يدل على كراهتهم ذلك الطعام، وعدم الشكر على النعمة دليل الزوال، فكأنهم طلبوا زوالها ومجيء غيرها.
2- حكم أكل الثوم والبصل وما له رائحة.
3- أفاد قوله تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} أن الله تعالى يخلق الأرزاق وغيرها بالأسباب، وبالأمر المباشر بكلمة (كُنْ) وما يخلقه بغير سبب يكون أفضل مما خلقه بسبب، لأن الخلق المباشر عطاء خالص من الله تعالى ولا دخل ليد الإنسان فيه، فما كان خالصاً من عطاء الله فهو قريب من عطاء الآخرة، ولذا قال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} فوصف رزق الدنيا بأنه فتنة، ووصف رزق الآخرة بأنه خير وأبقى.
4- لم يستجب بنو إسرائيل إلى تأنيب الله لهم، وأصروا على استبدال ما هو أدنى بما هو خير، فأجابهم الله لذلك وقال لهم: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} واستعمل البيان القرآني كلمة {اهبِطُوا} ليعبِّر عن نزولهم من الأعلى إلى الأدنى.
5- الجزاء الذي أنزله الله باليهود من الذلة والمسكنة وإحلال الغضب بهم، هو حق وعدل لأنه مطابق لجرائمهم، وهي: الاستكبار عن اتباع الحق وكفرهم بآيات الله، وإهانتهم الأنبياء لدرجة أن سوّلت لهم أنفسهم قتلهم بغير حق لأن الأنبياء معصومون من أن يصدر منهم ما يقتلون به، ولذا قال تعالى: {بغير حق}. وقد روى الإمام أحمد عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أشد الناس عذاباً يوم القيامة: رجل قتله نبي أو قَتَل نبياً، وإمام ضلالة، وممثل من الممثلين -أي بالتمثيل بالقتلى-".
6- الفرق بين الأنبياء والرسل: الأنبياء أسوة سلوكية يوحى إليهم ولكنهم لا يأتون بمنهج جديد، وأما الرسل فهو أسوة سلوكية يوحى إليهم بمنهج جديد، ولذلك كان كل رسول نبياً وليس كل نبي رسولاً. والله تعالى يعصم أنبياءه ورسله من الخطيئة، ويعصم رسله من القتل بخلاف الأنبياء فهم عرضة للقتل. وقد بعث الله أنبياءه لبني إسرائيل ليقتدوا بهم فقتلوهم لأنهم فضحوا كذبهم وفسقهم وانحرافهم، وذلك حال المنحرف في كل زمان فإنه يكره الملتزم ويحاول إزالته عن طريقه ولو بالقتل.

عاقبة المؤمنين
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)}

سبب النزول:
قال سلمان الفارسي: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دِين كنت معهم، فذكرت من صلاتهم وعبادتهم فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} الآية. وأخرج الواحدي عن مجاهد قال: لما قص سلمان على رسول الله صلى الله عليه وسلم قصة أصحابه قال: هم في النار. قال سلمان: فأظلمت عليَّ الأرض، فنزلت {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} إلى قوله: {يَحْزَنُونَ} قال: فكأنما كُشِفَ عني جبل.

المناسبة:
اتبع الأسلوب القرآني منهج التذكير في ثنايا بيان القصة القرآنية، وفتح باب الأمل لدفع اليأس والقنوط أثناء توضيح الأسباب الموجبة للعقاب، للفت النظر وجذب الانتباه، وهكذا كان الأمر هنا، فبعد أن ذكَّر الله اليهود بأفعال أسلافهم قديماً، وأوضح مصيرهم وجزاءهم، ليعتبر المعاصرون، أورد مبدأً عاماً لكل المؤمنين: وهو أن كل مؤمن بالله واليوم الآخر تمسَّكَ بحبل الدين المتين، وعمل صالحاً، فهو من الفائزين، سواء أكان من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم أم من الذين هادوا أي تابوا من أتباع موسى عليه السلام، أم من الذين قالوا نحن أنصار الله من أتباع عيسى عليه السلام أم من الذين تركوا دينهم مطلقاً وأسلموا، قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38].
دعا تعالى أصحاب المِلَل والنِّحَل "المؤمنين، واليهود، والنصارى، والصابئين" إِلى الإِيمان الصادق وإِخلاص العمل لله وساقه بصيغة الخبر فقال {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} المؤمنون أتباع محمد {وَالَّذِينَ هَادُوا} أي الذين تابوا من أتباع موسى {وَالنَّصَارَى} الذين قالوا نحن أنصار الله من أتباع عيسى {وَالصَّابِئِينَ} قوم عدلوا عن اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي من آمن من هذه الطوائف إيماناً صادقاً فصدَّق بالله، وأيقن بالآخرة وترك عقائد الشرك من التشبيه أو الكفر برسالة الإسلام وإنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فصار مسلماً {وَعَمِلَ صَالِحًا} أي عمل بطاعة الله في دار الدنيا {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي لهم ثوابهم عند الله لا يضيع منه مثقال ذرة {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي ليس على هؤلاء المؤمنين خوف في الآخرة، حين يخاف الكفار من العقاب، ويحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب.

ما يستخلص من الآيات [62]:
أفادت هذه الآية أن مدار الفوز على الإيمان بالله واليوم الآخر وعلامة ذلك العمل الصالح، لأن الإيمان إن لم يقترن بالعمل الصالح فهو عرضة للزوال، ولذا فقد قرن الإيمان بالعمل الصالح في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية كما قُرِنت الصلاة بالزكاة، ولذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدّقه العمل".

بعض جرائم اليهود وعقابهم
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(63)ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ(64)وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ(65)فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ(66)}.

المنَاسَبَة:
لمّا ذكرهم تعالى بالنعم الجليلة العظيمة، أردف ذلك ببيان ما حلَّ بهم من نقم،جزاء كفرهم وعصيانهم وتمردهم على أوامر الله، فقد كفروا النعمة، ونقضوا الميثاق، واعتدوا في السبت فمسخهم الله إِلى قردة، وهكذا شأن كل أمةٍ عتت عن أمر ربها وعصت رسله.

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين أخذنا منكم العهد المؤكد على العمل بما في التوراة.
وذلك بعد أن أنجاكم وأهلك عدوكم بالغرق ورجع موسى عليه السلام بالألواح والتوراة ووجدكم قد عبدتم العجل، ثم أعرضتم عن اتباع ما جاء فيها زاعمين أنها فوق طاقتكم، عندها كان التأديب الإلهي لكم بأن رفع جبل الطور فوقكم وخيّركم بين الامتثال لأوامره وبين أن يطبق عليكم الجبل.
{وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} أي نتقناه حتى أصبح كالظلة فوقكم وقلنا لكم {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} أي اعملوا بما في التوراة بجدٍّ وعزيمة {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} أي احفظوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} أي لتتقوا الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، أو رجاء منكم أن تكونوا من فريق المتقين.
لما رأى بنو إسرائيل الجبل فوقهم سجدوا خاشعين على الأرض مما يدل على قبولهم المنهج والتكاليف الربانية، ولكنهم كانوا وهم ساجدون ينظرون إلى الجبل خشية الوقوع عليهم. ولذلك سجود اليهود إلى يومنا هذا على جهة من الوجه، بينما تنظر الجهة الأخرى إلى أعلى. ولو سألتهم لقالوا: نحمل التوراة ثم يهتزون منتفضين لأنهم اهتزوا ساعة دفع الجبل عنهم، وهو الوضع ذاته في كل صلاة.
{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي أعرضتم عن الميثاق بعد أخذه {فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي بقبول التوبة {وَرَحْمَتُهُ} بالعفو عن الزلة {لَكُنتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ} أي لكنتم من الهالكين في الدنيا والآخرة.
فائدة: الفضل هو الزيادة عمّا تستحقه ولذا جاء في الحديث "سددوا وقاربوا وأبشروا فإنه لا يُدخِلُ أحداً الجنة عَمَلُه. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة" [رواه الشيخان وغيرهما]، لأن عمل الإنسان كله لا يعدل نعمة واحدة من نعم الله على الإنسان، فيأتي فضل الله ليدخله الجنة.
أما الرحمة فهي التي فتحت طريق التوبة لغفران الذنوب.
ومن رحمته تعالى وفضله على بني إسرائيل أن ذكر لهم أوصاف خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام في التوراة ليخرجهم من الضلالة إلى الهدى ومن الخسران المبين إلى الفوز العظيم، ولكنهم استكبروا وجحدوا وتعنتوا فاستحقوا غضب الله تعالى.
قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89].
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} أي عرفتم ما فعلنا بمن عصى أمرنا حين خالفوا واصطادوا يوم السبت وقد نهيناهم عن ذلك.
والقصة معروفة عند اليهود -ولذا جاء التعبير القرآني {ولقد علمتم}- وهي أنتهم أرادوا يوماً للراحة فأعطاهم الله يوم السبت، وكانوا يعيشون على صيد السمك فأراد الله ابتلاءهم فحرم عليهم العمل يوم السبت، وجعل الحيتان تأتي في هذا اليوم وتطفوا على سطح الماء لتفتنهم، فإذا جاء صباح الأحد ذهبت بعيداً، فأرادوا التحايل على الله فصنعوا حياضاً عميقة، وكان السمك إذا دخلها صعب عليه الخروج منها فيصطادونه صبيحة الأحد. فبحماقة من يحتال على من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور! فكان جزاؤهم:
{فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} أي مسخناهم قردة بعد أن كانوا بشراً مع الذلة والإِهانة {فَجَعَلْنَاهَا} أي المسخة {نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} أي عقوبة زاجرة لمن شاهدها وعاينها {وَمَا خَلْفَهَا} وعبرة لمن جاء بعدها من الأمم ولم يشاهدها {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} أي عظةً وذكرى لكل عبدٍ صالحٍ متّقٍ لله سبحانه وتعالى.

ما يستخلص من الآيات [63-66]:
1- ذكرت هذه الآيات قصتين، الأولى: قصة رفع جبل الطور فوق بني إسرائيل، والثانية: قصة تحايل بني إسرائيل على الله.
الأولى: يؤخذ منها أن اليهود لا يعترفون ولا يلتزمون إلا بمنطق القوة، فلا حوار ينفع معهم، ولا عهود ولا مواثيق يثبتون عليها. والتاريخ خير شاهد على غدرهم وخيانتهم، فمبال بعض الناس يكذبون التاريخ ويعرضون عن كلام الله الشافي الواقي ويؤولونه على حسب ما تمليه عليهم أمزجتهم لتبرير مواقفهم، فتراهم يستشهدون بقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ويطبّقونها في غير موضعها، ويعرضون عن قوله تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35].
ولا تعارض بين الآيتين، فمَن أراد السلم حقيقة وردّ الحقوق كاملة إلى أصحابها سالمناه، ومن أعرض ورفع شعار السلم ليسخر منّا أدّبناه بالقوة كما علّمنا ربُّنا الخبير بخفايا النفوس وما يصلح لكلٍّ منها.
الثانية: قصة تحايل بني إسرائيل على الله ومسخهم قردة: ذهب جمهور العلماء إلى أن الله تعالى مسخ المعتدين منهم بصيد السمك يوم السبت، فقال قتادة: صار الشبان قردة والشيوخ خنازير فما نجا إلا الذين نَهَوْا عن السوء -لما ذكر القرآن في سورة الأعراف- وهلك سائرهم.
وقال بعض العلماء: لمّا وجدوا أنفسهم قد تحولوا إلى خلق أقل من الإنسان لم يأكلوا ولم يشربوا حتى ماتوا. والإنسان إذا مُسخ لا يتناسل لكي ينقرض رحمة بمن جاء بعده قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، فمقتضى العدل الإلهي ألاّ يتحمل الأبناء أوزار الآباء.
2- دلت هذه الآيات على أن المقصود بالكتب السماوية تلاوتها وفهمها للعمل بمقتضاها، وأما مجرد التغني بالألفاظ دون الوقوف على المعاني لفهم خطاب الشارع قصد التزامه فإنه يعرض صاحبه لغضب الله كما حَلَّ ببني إسرائيل، ولذا جاء في الحديث الذي رواه النسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ من شرّ الناس رجلاً فاسقاً يقرأ القرآن لا يرعوي إلى شيء منه". وقال أيضاً: "رُبّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه". ولا يكون ذلك إلا عند عدم تدبّره وترك العمل به.

قصة البقرة وإحياء الميت
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ(67)قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ(68)قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ(69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ(70)قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ(71)وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ(72)فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(73)}.

المنَاسَبَة:
لما ذكر تعالى بعض قبائح اليهود وجرائمهم، من نقض المواثيق، واعتدائهم في السبت، وتمردهم على الله عز وجل في تطبيق شريعته المنزلة، أعقبه بذكر نوعٍ من مساوئهم ألا وهو مخالفتهم للأنبياء وتكذبيهم لهم، وعدم مسارعتهم لامتثال الأوامر التي يوحيها الله إِليهم، ثم كثرة اللجاج والعناد للرسل صلوات الله عليهم، وجفاؤهم في مخاطبة نبيّهم الكريم موسى عليه السلام، إلى أن ما هنالك من قبائح ومساوئ.
سبب هذه الحادثة العظيمة التي سميت أطول سورة باسمها، أن رجلاً من بني إسرائيل كان ثرياً جداً ولم يكن له وارث، فتآمر على ابن أخيه فقتله ليلاً ثم أخذ الجثة وألقاها في مكان قريب من إحدى القرى المجاورة ليتهموا بقتله. وكذلك كان الحال واحتدم الخلاف بينهم وأقارب القتيل، فذهبوا إلى موسى عليه السلام ليدعو ربه فيكشف القاتل، فاستجاب الله دعاءه وأمرهم بذبح البقرة.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين قال لكم نبيكم موسى إِن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة.
جاء الأمر هنا من غير علة وقد أرجئت إلى آخر القصة، والحكمة في ذلك أن الأمر إذا كان صادراً ممّن هو أعلى ينبغي المبادرة إلى تنفيذه من غير البحث عن علة ذلك، فالعبد يمتثل أوامر مولاه ظهرت له الحكمة والعلة أو أخفيت عنه للابتلاء. قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].
{قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} أي فكان جوابكم الوقح لنبيكم أن قلتم: أتهزأ بنا يا موسى {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ} أي ألتجئ إِلى الله أن أكون في زمرة المستهزئين الجاهلين.
{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} أي ما هي هذه البقرة وأي شيء صفتها؟ {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} أي لا كبيرة هرمة، ولا صغيرة لم يلحقها الفحل {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} أي وسط بين الكبيرة والصغيرة {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} أي افعلوا ما أمركم به ربكم ولا تتعنتوا ولا تشدّدوا فيشدّد الله عليكم.
{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} أي ما هو لونها أبيض أم أسود أم غير ذلك؟ {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} أي إِنها بقرة صفراء شديدة الصفرة، حسن منظرها تسر كل من رآها. ومع هذا اختلفوا بينهم في تحديدها فرجعوا إلى موسى عليه السلام.
و {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} أعادوا السؤال عن حال البقرة بعد أن عرفوا سنها ولونها ليزدادوا بياناً لوصفها، ثم اعتذروا بأن البقر الموصوف بكونه عواناً وبالصفرة الفاقعة كثيرٌ {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} أي التبس الأمر علينا فلم ندر ما البقرة المأمورة بذبحها {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} أي سنهتدي إِلى معرفتها إِن شاء الله، ولو لم يقولوا ذلك لم يهتدوا إِليها أبداً كما ثبت في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: "لو لم يستثنوا ويقولوا: إن شاء الله لما تبينت لهم آخر الأبد".
{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} أي ليست هذه البقرة مسخرة لحراثة الأرض، ولا لسقاية الزرع {مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} أي سليمة من العيوب ليس فيها لونٌ آخر يخالف لونها فهي صفراء كلها {قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أي الآن بينتها لنا بياناً شافياً لا غموض فيه ولا لبس، وكأن ما قاله لهم موسى عليه السلام وحياً من ربه قبل ذلك ليس حقاً. قال تعالى إِخباراً عنهم {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} لغلاء ثمنها أو خوف الفضيحة أو تماطلاً في تطبيق الأوامر الإلهية كما هو شأنهم ولعله الأرجح.
ثم أخبر تعالى عن سبب أمرهم بذبح البقرة، وعما شهدوه من آيات الله الباهرة {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين قتلتم نفساً {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} أي تخاصمتم وتدافعتم بشأنها، وأصبح كل فريق يدفع التهمة عن نفسه وينسبها لغيره {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} أي مظهر ما تخفونه {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} أي اضربوا القتيل بشيء من البقرة يحيا ويخبركم عن قاتله {كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} أي كما أحيا هذا القتيل أمام أبصاركم يحيي الموتى من قبورهم {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي يريكم دلائل قدرته لتتفكروا وتتدبروا وتعلموا أن الله على كل شيء قدير.

ما يستخلص من الآيات [67-73]:
1- أراد الله تعالى من قصة ذبح البقرة وضرْب الميت ببعضها أن يثبت لبني إسرائيل ومَنْ جاء بعدهم من المتشكيين أن الله {وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 6-7].
ومن هنا سميت أطول سورة في القرآن باسمها -سورة البقرة- لأن القصة عالجت قضية تتعلق بركن أساسي من أركان الإيمان ألا وهو الإيمان باليوم الآخر الذي يسبقه بعث الناس من القبور.
2- إن بني إسرائيل أكثروا من الأسئلة وشددوا فشدد الله عليهم ولو أنهم امتثلوا الأمر في البداية وذبحوا أية بقرة لأجزأتهم. لأجل ذلك حذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من كثرة الأسئلة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم" [رواه الشيخان]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ…} [المائدة: 101].
والأسئلة المنهي عنها: مثل السؤال عما أخفاه الله عن عباده كالسؤال عن قيام الساعة وعن حقيقة الروح، وعن القضاء والقدر، والسؤال على سبيل التعنت والعبث والاستهزاء، وسؤال المعجزات، والسؤال عن الأغاليط والسؤال عما لا يحتاج إليه، والسؤال عما سكت عنه الشرع من الحلال والحرام وما نحو ذلك.
وأما السؤال عمّا ينفع وينبني عليه عمل فهو أمر مطلوب شرعاً.
3- كان الأمر بذبح البقرة دون غيرها من الحيوان لأنها من جنس ما عبدوه وهو العجل ليُهَوِّن عندهم أمر تعظيمه.
4- المال الحلال يبارك الله فيه ولو كان قليلاً، وخير دليل على ذلك هذه القصة فقد كانت تلك البقرة لرجل صالح يتحرى الحلال فعندما حضرته الوفاة ورث زوجه وابنه الصغير عِجْلة كانت فيما بعد تلك البقرة الوحيدة التي انطبقت عليها المواصفات، فكان ثمنها كما جاء في الحديث (… حتى انتهوا إلى البقرة التي أمِروا بذبحها فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها فقال: والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهباً فأخذوها بملء جلدها ذهباً فذبحوها …" [تفسير ابن كثير 1/108].
5- أظهر الله تعالى عظمته لخلقه من خلال هذه الآية، وذلك أنه أحيا ميتاً بجزء من ميت، ولو أنه تعالى أحياه بدون أن يضرب ببعضها لقالوا: لم يكن ميتاً، وإنما كان في حالة إغماءة ثم أفاق. ولكنه تعالى أراد أن يعطيهم درساً وهم الماديون {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ليرى بنو إسرائيل وهم على قيد الحياة كيف يحي الله الموتى، وليعرفوا أن الإنسان لا يبقى حياً بأسباب الحياة، ولكن بإرادة مسبب الحياة جَلّ جلاله.
جفاء اليهود وقسوة قلوبهم
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(74)}.

ثم أخبر تعالى عن جفائهم وقسوة قلوبهم فقال {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} أي صلبت قلوبكم يا معشر اليهود فلا يؤثر فيها وعظٌ ولا تذكير {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي من بعد رؤية المعجزات الباهرة {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} أي بعضها كالحجارة وبعضها أشد قسوة من الحجارة كالحديد.
ذكر الله تعالى القلب ونسب القسوة إليه ولم ينسبها إلى النفوس، لأن القلب هو موضع الرقة والرحمة والعطف، فكلما امتلأ القلب ذكراً لله تعالى امتلأ رقة ورحمة وعطفاً، ولكما غفل عن ذكر الله ازداد قسوة وجفاء، وانعكست آثاره في الحالتين على الجوارح فيصلح المجتمع به أو يفسد. ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" [رواه الشيخان].
{وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ} أي تتدفق منها الأنهار الغزيرة {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} أي من الحجارة ما يتصدع إِشفاقاً من عظمة الله فينبع منه الماء.
والفرق بين تفجر الأنهار من الحجارة وتشققها ليخرج منها الماء، أنه عند تفجر الأنهار يأتي الماء إلينا ونحن في مكاننا. وعندما تتشقق ليخرج منها الماء نذهب نحن إلى مكان الماء لنأخذ حاجتنا. وفرق بين عطاء نذهب إليه، وعطاء يأتي إلينا. وكلٌّ من عطاء ربنا.
{وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} أي ومنها ما يتفتّت ويتردّى من رؤوس الجبال من خشية الله.
وحدث ذلك عندما تجلى الله تعالى للجبل فجعله دكاً، قال تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143].
فالحجارة تلين وتخشع وقلوبكم يا معشر اليهود لا تتأثر ولا تلين {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي أنه تعالى رقيب على أعمالكم لا تخفى عليه خافية، وسيجازيكم عليها يوم القيامة، وفي هذا وعيد وتهديد.

ما يستخلص من الآيات [74]:
1- أساس شيء في الإنسان قلبه، فإذا صلح صلحت سائر جوارحه وإذا فسد فسدت سائر جوارحه.
2- القلب معرض لأمراض كثيرة، وأخطرها القسوة التي أشارت إليها الآية القرآنية. وسبب القسوة العناء والتماطل في تطبيق أوامر الله تعالى كما فعل بنو إسرائيل. ومن قسى قلبه لا ينفعه بشيء إن لم يتدارك نفسه، وهو عرضة لغضب الله، ومن غضب الله عليه طبع على قلبه. ومن طُبِع على قلبه فلن يهتدي أبداً.
فعلى المسلم العاقل الراجي رحمة ربه أن يبادر إلى تطبيق أوامر ربه فور استماعها لقوله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51].
3- الحجارة في قبضة الله تعالى والقلوب كذلك، فمن شعر بقسوة في قلبه فعليه أن يلتجيء إلى الله تعالى مالك القلوب ليغير قلبه إلى أحسن حال وليفجره خشوعاً وليناً وانضياءاً كما فجّر الحجارة عيوناً وأنهاراً {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].

استبعاد إيمان اليهود
{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(75)وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ(76)أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ(77)وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ(78)}.

المنَاسَبَة:
لما ذكر تعالى عناد اليهود، وعدم امتثالهم لأوامر الله تعالى، ومجادلتهم للأنبياء الكرام، وعدم الانقياد والإِذعان، عقَّب ذلك بذكر بعض القبائح والجرائم التي ارتكبوها كتحريف كلام الله تعالى، وادعائهم بأنهم أحباب الله، وأن النار لن تمسَّهم إِلا بضعة أيام قليلة، إلى آخر ما هم عليه من أماني كاذبة ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، وقد بدأ تعالى الآيات بتيئيس المسلمين من إِيمانهم لأنهم فطروا على الضلال، وجبلوا على العناد والمكابرة.

سبب النزول:
نزلت في الأنصار كانوا حلفاء لليهود وبينهم جوارٌ ورضاعة وكانوا يودون لو أسلموا فأنزل الله تعالى {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ..} الآية.
وروى مجاهد عن ابن عباس أن اليهود كانوا يقولون: إِن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإِنما نُعذب بكل ألف سنة يوماً في النار، وإِنما هي سبعة أيام معدودة فأنزل الله تعالى {وقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}.

يخاطب الله تعالى عباده المؤمنين فيقول {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} أي أترجون يا معشر المؤمنين أن يُسلم اليهود ويدخلوا في دينكم {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ} أي والحال قد كان طائفة من أحبارهم وعلمائهم يتلون كتاب الله ويسمعونه بَيِّناً جَلِياً {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} أي يغيّرون آيات التوراة بالتبديل أو التأويل، من بعد ما فهموه وضبطوه بعقولهم {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم يرتكبون جريمة أي أنهم يخالفونه على بصيرة لا عن خطأٍ أو نسيان.
هذه الآيات تحمل أعظم تعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتطالبه ألا يحزن على عدم إيمان اليهود به لأنه مكلف بالبلاغ فقط، ولكن حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إيمان أهل الأرض كلهم لا يعني أنه لم يفهم خطاب ربه، ولكن معناه أنه أدرك حلاوة التكليف من ربه بحيث يريد أن يهدي كل خلق الله.
والطمع هو رغبة النفس في شيء غير حقها وإن كان محبوباً لها. فكلمة "أفتطمعون" هنا تحدد أنه يجب ألا نطمع إلا فيما نقدر عليه. وهداية اليهود أمر زائد على ما كُلِّفنا به وإن كان محبوباً لدينا. {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ} [الغاشية: 20-24].
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} أي إِذا اجتمعوا بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال المنافقون من اليهود: آمنا بأنكم على الحق، وأن محمداً هو الرسول المبشَّر به {وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} أي إِذا انفرد واختلى بعضهم ببعض {قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} أي قالوا عاتبين عليهم أتخبرون أصحاب محمد بما بيَّن الله لكم في التوراة من صفة محمد عليه السلام {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} أي لتكون الحجة للمؤمنين عليكم في الآخرة في ترك اتباع الرسول مع العلم بصدقه {أَفَلا تَعْقِلُونَ}؟ أي أفليست لكم عقول تمنعكم من أن تحدثوهم بما يكون لهم فيه حجة عليكم؟ والقائلون ذلك هم اليهود لمن نافق منهم.
قال تعالى رداً عليهم وتوبيخاً {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي ألا يعلم هؤلاء اليهود أن الله يعلم ما يخفون وما يظهرون، وأنه تعالى لا تخفى عليه خافية، فكيف يقولون ذلك ثم يزعمون الإِيمان!!
ولما ذكر تعالى العلماء الذين حرّفوا وبدّلوا، ذكر العوام الذين قلدوهم ونبّه أنهم في الضلال سواء فقال: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} أي ومن اليهود طائفة من الجهلة العوامّ، الذين لا يعرفون القراءة والكتابة ليطلعوا على ما في التوراة بأنفسهم ويتحققوا بما فيها {إِلا أَمَانِيَّ} أي إِلاَّ ما هم عليه من الأماني التي منّاهم بها أحبارهم، من أن الله يعفو عنهم ويرحمهم، وأن النار لن تمسهم إِلا أياماً معدودة، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، إِلى غير ما هنالك من الأماني الفارغة {وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} أي ما هم على يقين من أمرهم، بل هم مقلّدون للآباء تقليد أهل العمى والغباء.
الأماني جمع أمنية، وهي الشيء الذي يحب الإنسان تحققه وهو مستحيل الحدوث عادة. كما قال الشاعر:
ألا ليت الشباب يعود يوماً فأُخبره بما فعل المَشيبُ
ومَنْ فاته شبابه لن يعود إلى يوم القيامة.

ما يستخلص من الآيات [75-78]:
1- النفاق ظاهرة عامة موجودة عند جميع الأجناس، فليس هو محصوراً فيمن نافق من أهل المدينة فقط، بل هو موجود عند أهل الكتاب من اليهود كما أشارت الآيات، وعند النصارى وغيرهم ومن هنا وجب على المسلمين أخذ الحيطة حتى لا ينخدعوا بالإيمان المزيّف، ويتجرعوا من ورائه الويلات.
2- دلَّت الآية الأخيرة من هذا المقطع {وإن هم إلا يظنون} على بطلان التقليد في العقائد وأصول الأحكام، فلا بد للإيمان من يقين يقوم على الحجة والبرهان وهو ما عليه سلف هذه الأمة إذ كل من قلَّد في التوحيد إيمانه لا يخلو من ترد يد. ولذا قال الحق جل وعلا {فاعلم أنه لا إله لا الله} والعلم هو إدراك الشيء على ما هو عليه في الواقع بدليل.

تحريف أحبار اليهود للتوراة
{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ(79)وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ(80)بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(81)وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(82)}.

سبب النزول:
نزلت الآية (79) في أهل الكتاب كما قال ابن عباس، أو في أحبار اليهود كما قال العباس: "الذين غيّروا صفة النبي صلى الله عليه وسلم وبدلوا نعته"، وكانت صفته في التوراة: أكحل، أعين، ربعة، جعد الشعر، حسن الوجه، فَمَحَوه حسداً وبغياً، وقالوا: نجده طويلاً أزرق، سبط الشعر.
ونزلت الآية (80) كما قال ابن عباس: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ويهود تقول: إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما يعذب الناس في النار، لكل ألف سنة من أيام الدنيا يوم واحد في النار من أيام الآخرة، فإنما هي سبعة أيام، ثم ينقطع العذاب، فأنزل الله في ذلك: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} إلى قوله {خَالِدُونَ}. وروى الطبري عن ابن عباس: أن اليهود قالوا: لن ندخل النار، إلا تَحِلَّة القَسَم، الأيام التي عبدنا فيها العجل أربعين ليلة، فإذا انقضت، انقطع عنا العذاب، فنزلت الآية.

ذكر تعالى جريمة أولئك الرؤساء المضلّين، الذين أضلّوا العامة في سبيل حطام الدنيا فقال: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} أي هلاك وعذاب لأولئك الذي حرّفوا التوراة، وكتبوا تلك الآيات المحرفة بأيديهم {ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي يقولون لأتباعهم الأميِّين هذا الذي تجدونه هو من نصوص التوراة التي أنزلها الله على موسى عليه السلام، مع أنهم كتبوها بأيديهم ونسبوها إِلى الله كذباً وزوراً {لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً} أي لينالوا به عرض الدنيا وحطامها الفاني {فوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} أي فشدة عذاب لهم على ما فعلوا من تحريف الكتاب {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} أي وويل لهم مما يصيبون من الحرام والسحت.
فائدة: الويل يعني الحسرة وقت رؤية العذاب، وقيل: هو واد في جهنم يهوي الإنسان فيه سبعين خريفا.
{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} أي لن ندخل النار إلا أياماً قلائل، هي مدة عبادة العجل، أو سبعة أيام فقط.
فائدة: المس يعني اللمس الخفيف أو اقتراب شيء من شيء بحيث يحس أحدهما بالآخر إحساساً لا يكاد يذكر. وهكذا أخذوا أقل الأقل في العذاب، وأقل الأقل في مدة العذاب، فقالوا أياماً معدودة. وهو دليل غبائهم لأن مدة المسّ لا تكون إلا لحظة ولكنها أماني وضعها الشيطان في عقولهم، فجاء الرد الإلهي:
{قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا} أي قل لهم يا محمد على سبيل الإِنكار والتوبيخ: هل أعطاكم الله الميثاق والعهد بذلك؟ فإذا كان قد وعدكم بذلك{فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} لأن الله لا يخلف الميعاد {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي أم تكذبون على الله فتقولون عليه ما لم يقله، فتجمعون بين جريمة التحريف لكلام الله، والكذب والبهتان عليه جل وعلا.
ثم بيَّن تعالى كذب اليهود، وأبطل مزاعمهم بأن النار لن تمسهموأنهم لا يخلدون فيها فقال: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} أي بلى تمسكم النار وتخلدون فيها، كما يخلد الكافر الذي ارتكب إلى جانب كفره السيئات {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} أي غمرته من جميع جوانبه، وسدّت عليه مسالك النجاة، بأن فعل مثل فعلكم أيها اليهود {فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي فالنار ملازمة لهم لا يخرجون منها أبداً.
فائدة: "بلى" حرف جواب في النفي، أي ينفي الذي قبله. أي قولكم {لمن تمسنا النار إلا أياماً معدودة} غير صحيح، بل ستخلدون فيها. ومن هنا فإذا قال لك إنسان: ليس لك عندي شيء. وأردت أن تنفي ذلك، فعليك أن تقول: بلى. ولو قلت: نعم. تكون قد أثبتْتَ ما ادعاه.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي وأما المؤمنون الذين جمعوا بين الإِيمان، والعمل الصالح فلا تمسهم النار، بل هم في روضات الجنات يحبرون {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}أي مخلدون في الجنان لا يخرجون منها أبداً، اللهم اجعلنا منهم يا أرحم الراحمين.

ما يستخلص من الآيات [79-82]:
1- أفاد قوله تعالى {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم} مَدَى تعمد هؤلاء اليهود للإثم. لأن الإثم قد يرتكب بالأمر وقد يرتكب بالفعل. فرئيس الدولة غالباً لا يكتب الكتب بيده وإنما تكتب بأمره ولكن هؤلاء الأحبار حرفوا وبدلوا كلام الله بأيديهم ليتأكدوا أن الأمر قد تم كما يريدون، فليست المسألة نزوة عابرة ولكنها مع سبق الإصرار والترصد، وموقمة العصيان.
2- تضمنت الآية {فويل للذين يكتبون الكتاب…} التحذير من التبديل والتغيير والزيادة في شرع الله، فكل من بدّل وغيّر وابتدع في دين الله ما ليس منه فهو داخل تحت هذا الوعيد الشديد إلا أن هذا التبديل والتحريف على نوعين، الأول: تبديل وتحريف في الحروف والألفاظ وهو الأشد، والثاني: تحريف وتبديل في المعاني والأحكام التي تستخلص من الألفاظ والحروف. ولئن سلمت هذه الأمة من الوقوع في الأول لقوله تعالى {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} فقد وقع بعض هذه الأمة في الثاني والعياذ بالله، وما تلك الفتاوى الباطلة -كإباحة الفوائد الربوية القليلة، والاستعانة بالمشركين لقتال المسلمين- التي يبتغي بها عرض من الدنيا قليل أو التزلف للحكام والسلاطين، ببعيد. ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افترقت بنوا إسرائيل إلى اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلهم في لنار إلا واحدة" فاللهم اجعلنا من الفرقة الناجية.
3- أفاد قوله تعالى {بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته…} أن المعصية وحدها لا تخلد صاحبها في النار ما لم تكن مقرونة بالشرك، ومن هنا فأنسب تفسير لـ {أحاطت به خطيئته} هو الشرك بالله، لأنه هو الذي يحيط بالإنسان من كل جانب ويحجب عنه رحمة الله، ودليل ذلك قوله تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48]. ولما كان هؤلاء اليهود -ومن سار على طريقهم- عصاة ومشركين استحقوا الخلود في النار {فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.
4- أرشدت الآية الأخيرة {والذين آمنوا وعملوا الصالحات…} إلى أن دخول الجنة منوط بالإيمان والعمل الصالح كما روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسفيان بن عبد الله الثقيف، وقد سأله: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك. قل: قل آمنت بالله ثم استقم".
5- يستخلص من الآيتين الأخيرتين منهج تربوي فريد في معالجة النفس البشرية في جميع مراحلها، ألا هو الجمع بين الوعد الوعيد أو الترغيب والترهيب، وقد تكرر ذلك في القرآن كثيراً.

مخالفة اليهود للميثاق
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ(83)وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ(84)ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمُ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(85)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ(86)}.

المنَاسَبَة:
لا تزال الآيات الكريمة تعدّد جرائم اليهود، وفي هذه الآيات أمثلة صارخة على عدوانهم وطغيانهم وإِفسادهم في الأرض، فقد نقضوا الميثاق الذي أخذ عليهم في التوراة، وقتلوا النفس التي حرّم الله، واستباحوا أكل أموال الناس بالباطل، واعتدوا على إِخوانهم في الدين فأخرجوهم من الديار، فاستحقوا اللعنة والخزي والدمار.

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي اذكروا حين أخذنا على أسلافكم يا معشر اليهود العهد المؤكد غاية التأكيد والميثاق هو كل شيء فيه تكليف من الله {لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ} بأن لا تعبدوا غير الله.
وهذه العبادة تستلزم إفراد الله بالألوهية والإيمان بموسى عليه السلام وبالتوراة وبمن جاء وصفه في التوراة وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أي وأمرناهم بأن يحسنوا إِلى الوالدين إِحساناً.
الإحسان هو ما زاد على الواجب، فنحن مطالبون بأن نؤدي إليهم الواجبات وما زاد عنها من نوافل. ولأهمية الإحسان إلى الوالدين فقد قرنه بعباده في عدة مواضيع منها قوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً…} [الإسراء: 43].
{وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} أي وأن يحسنوا أيضاً إِلى الأقرباء، واليتامى الذين مات آباؤهم وهم صغار.
لأن الآباء هم الذين يكافحون في الحياة ليرعوا أولادهم. فإذا رعى المجتمع الإسلامي اليتيم عَمّت الطمأنينة بين أفراده، فلا أبٌ يخشى على أولاده بعد موته، ولا يتيم يخشى على ماله من الضياع أو على نفسه من الإهمال إذا خلفه أبوه فقيراً، ولا غني يخشى على ماله من زواله بالاختلاس أو الحسد لأن التكافل أورث بين أفراد المجتمع المحبة والألفة.
والمساكين الذين عجزوا عن الكسب.
{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} أي قولاً حسناً بخفض الجناح، ولين الجانب، مع الكلام الطيّب {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} أي صلوا وزكّوا كما فرض الله عليكم من أداء الرُّكْنَيْن العظيمين "الصلاة، والزكاة" لأنهما أعظم العبادات البدنية والمالية { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} أي ثم رفضتم وأسلافكم الميثاق رفضاً باتاً، وأعرضتم عن العمل بموجبه إِلاّ قليلاً منكم ثبتوا عليه.
فائدة: توليتم، يعني أعرضتم، إلا أن التولي قد يكون بنية حسنة كما في قوله تعالى {ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله} [الأنفال: 16]. فالتولي بنية الهرب مذموم، ولكنه إذا كان بنية إعانة فئة أخرى من المسلمين أو تغيير الموقع للانقضاض على العدو فهو محمود.
والحق سبحانه وتعالى في هذه الآية أراد أن يلفت نظرنا إلى أن اليهود تولوا بنية الإعراض لا بنية أخرى ولذا قال تعالى {ثم توليتم إلا قليلاً منكم وأنتم معرضون} فأكد نواياهم السيئة بقوله {وأنتم معرضون}.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ} أي واذكروا أيضاً يا بني إِسرائيل حين أخذنا عليكم العهد المؤكد بأن لا يقتل بعضكم بعضاً.
فائدة: لماذا قال الله تعالى {لا تسفكون دماءكم} مع أن المراد قتل الغير؟
وكذلك قوله {ولا تُخرجون أنفسكم} مع أن المراد إخراج الغير.
والجواب أن الله تعالى تخاطب الجماعة المؤمنة على أنها وحدة واحدة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" [رواه البخاري] فمن قتل أخاه فكأنما قتل نفسه.
{وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} ولا يعتدي بعضكم على بعض بالإِخراج من الديار، والإِجلاء عن الأوطان {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} أي ثمّ اعترفتم بالميثاق وبوجوب المحافظة عليه، وأنتم تشهدون بلزومه.
{ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ} أي ثم نقضتم أيضاً الميثاق يا معشر اليهود بعد إِقراركم به، فقتلتم إِخوانكم في الدين، وارتكبتم ما نهيتم عنه من القتل {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ} أي كما طردتموهم من ديارهم من غير التفاتٍ إِلى العهد الوثيق {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} أي تتعاونون عليهم بالمعصية والظلم {وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ} أي إِذا وقعوا في الأسر فاديتموهم، ودفعتم المال لتخليصهم من الأسر {وَهُوَ مُحَرَّمُ عَلَيْكُمْ أِخْرَاجُهُمْ} أي فكيف تستبيحون القتل والإِخراج من الديار، ولا تستبيحون ترك الأسرى في أيدي عدوهم؟.
{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعضٍ}؟ أي أفتؤمنون ببعض أحكام التوراة وتكفرون ببعض؟ والغرض التوبيخ لأنهم جمعوا بين الكفر والإِيمان، والكفر ببعض آيات الله كُفْرٌ بالكتاب كله، ولهذا عقّب تعالى ذلك بقوله {فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي ما عقوبة مَن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض إِلا ذلٌ وهوان، ومقتٌ وغضب في الدنيا {وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} أي وهم صائرون في الآخرة إِلى عذاب أشدّ منه، لأنه عذاب خالد لا ينقضي ولا ينتهي {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وفيه وعيد شديد لمن عصى أوامر الله.
فائدة: كانت (بنو قريظة) و (بنو النضير) من اليهود، فحالفت بنو قريظة الأوس، وبنو النضير الخزرج، فكانت الحرب إِذا نشبت بينهم قاتل كل فريق من اليهود مع حلفائه، فيقتل اليهودي أخاه اليهودي من الفريق الآخر، يخرجونهم من بيوتهم، وينهبون ما فيها من الأثاث والمتاع والمال، وذلك حرام عليهم في دينهم وفي نص التوراة، ثم إِذا وضعت الحرب أوزارها افْتكُوا الأسارى من الفريق المغلوب عملاً بحكم التوراة ولهذا قال تعالى {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعضٍ}.
ثم أخبر تعالى عن سبب ذلك العصيان والعدوان فقال {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ}أي أولئك الموصوفون بما ذكر من الأوصاف القبيحة هم الذين استبدلوا الحياة الدنيا بالآخرة بمعنى اختاروها وآثروها على الآخرة {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} أي لا يُفتَّر عنهم العذاب ساعة واحدة {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} أي وليس لهم ناصر ينصرهم، ولا مجير ينقذهم من عذاب الله الأليم.

ما يستخلص من الآيات [83-86]:
1- الأمور التي أمر الله بها بني إسرائيل في الآية (83) وأخذ منهم العهد عليها أمر بها تعالى جميع الخلق، وهي تكوِّن النظام الديني والاجتماعي والأخلاقي وقد رتبها ترتيباً دقيقاً متناسقاً، فقدم حق الله تعالى في أفراده بالعبودية لأنه هو المنعم والمتفضل على جميع خلقه، ثم ذكر الوالدين لأنهما سبب وجود الإنسان، وهم اللذان رعاياه صغيراً حتى كبر واشتد، ثم القرابة لأن فيهم صلة الرحم، ثم اليتامى لقصورهم ثم المساكين لضعفهم، ثم أمر تعالى بالقول الحسن لإبعاد الشيطان عن بني البشر مصداقاً لقوله تعالى: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم} [الإسراء: 53]، ثم ختم جل جلاله تلك الأوامر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، لأن الأولى تقوي الصلة بين العبد وربه ومَنْ قويت صلته بربه التزم أوامره التي تحثه على الإحسان لخلقه. والثانية تقوى الصلة بينه وبين الخلق وتخرج الدنيا من قلبه، وبهذا يحدث الترابط والتكافل بين أفراد المجتمع وهو ما يقصد إليه الشارع الحكيم.
2- السبب الأساسي في الإعراض عن شرع الله تعالى هو التعلق بالدنيا وجعلها غاية وهدفاً حتى يشرب القلب بحبها، ولذا ختم المقطع القرآني بـ {أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة} فحب الدنيا رأس كل خطيئة كما جاء في الحديث الشريف، ولذا حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من التعلق بالدنيا، فقال: "ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على الذين من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم".
فالتعامل مع الدنيا أمر مطلوب شرعاً، ولكن على أن تكون وسيلة للبناء والترابط والتكافل، لا على أن تكون هدفاً وغاية في حد ذاته تستعمل في سبيل تحقيقها كل الطرق المشروعة وغير المشروعة، بحيث يصبح المرء لا يجد أي حرج في سفك الدماء والبطش بكل مَنْ تسول له نفسه بمنافسته فيها، وهو ما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3- الشريعة كل متكامل فلا يجوز أن نطبق بعضها ونعرض عن الآخر بحجة أنها لم تعد صالحة لهذا الزمان، لأن هذه المقولة من أساسها باطلة عِلميَّاً وواقعاً.
فمن جزّأ الشريعة وهو يعتقد صحة ما ذهب إليه فقد كفر بإجماع المسلمين وهو ما أشار إليه البيان القرآني {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض}.
ومن جزّأها من حيث التطبيق تكاسلاً وهو يعتقد صلاحيتها فقد فسق وانحرف.

موقف اليهود من الرسل والكتب المنزلة
{ولَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ(87)وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ(88)وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ(89)}

المنَاسَبَة:
لا تزال الآيات تتحدث عن بني إِسرائيل، وفي هذه الآيات الكريمة تذكير لهم بضربٍ من النعم التي أمدّهم الله بها ثم قابلوها بالكفر والإِجرام، كعادتهم في مقابلة الإِحسان بالإِساءة، والنعمة بالكفران والجحود.

سبب نزول الآية (89):
قال ابن عباس: كانت يهود خيبر تقاتل غَطَفان، فكلما التقوا هُزِمت يهود خيبر، فعاذت اليهود بهذا الدعاء: "اللهم إنا نسألك بحق محمد النبيّ الأميّ الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان، إلا نصرتنا عليهم" فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان. فلما بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به، فأنزل الله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} أي بك يا محمد، إلى قوله: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب، كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء وداود بن سلمة: يا معشر اليهود:اتقوا الله وأَسلِموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد، ونحن أهل شرك، وتخبروننا بأنه مبعوث، وتصفونه بصفته، فقال أحد بني النَّضِير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم، فأنزل الله: {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة 2/89].
وقال السُّدِّي: "كانت العرب تمرّ بيهود، فتلقى اليهود منهم أذى، وكانت اليهود تجد نعت محمد في التوراة أنه يبعثه الله، فيقاتلون معه العرب، فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم كفروا به حسداً، وقالوا: إنما كانت الرسل من بني إسرائيل، فما بال هذا من بني إسماعيل".
بعد أن بيّن الله لنا ما فعله اليهود مع نبيهم موسى عليه السلام، أراد جل جلاله أن يبيّن لنا موقفهم مع رسل وأنبياء كثيرين جاؤوا بعد موسى عليه السلام، فقال تعالى:
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} أي أعطينا موسى التوراة {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} أي أتبعنا وأرسلنا على أثره الكثير من الرسل.
بل كانت الرسل والأنبياء تأتيهم واحداً بعد الآخر على فترات قريبة وربما اجتمع أكثر من نبي في فترة واحدة ليذكروهم وينهوهم عن غيِّهم وانحرافاتهم وما أحدثوه من فساد بعد موسى عليه السلام. وقد اعتبر اليهودُ كثرة الرسل والأنبياء فيهم ميزة ومفخرة لهم على سائر الأمم، ولكنهم قوم مغفّلون مغرورون لأن كثرة الأنبياء والرسل دلالة على كثرة الفساد الذي انتشر فيهم. ذلك أن الله يرسل رسله لتذكير الناس وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ألا ترى إلى المريض الذي تعددت أمراضه كيف يكثر حوله الأطباء؟ فلا حجة لهم يوم القيامة.
{وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} أي أعطينا عيسى الآيات البينات والمعجزات الواضحات الدالة على نبوته {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} أي قويناه وشددنا أزره بجبريل عليه السلام.
فإن قيل: ألم يكن باقي الرسل والأنبياء مؤيدين روح القدس فلماذا التخصيص؟ والجواب أن جبريل عليه السلام كان مصاحباً لعيسى عليه السلام منذ بداية تخلقه في بطن أمه إلى أن رفعه الله إليه في السماء، فولادته لم تكن مألوفة لدى الناس مما جعل جبريل عليه السلام لا يفارقه حتى يرد كيد الناس عنه بشتى الطرق التي كلفه الله بها.
{أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ} أي أفكلما جاءكم يا بني إِسرائيل رسول بما لا يوافق هواكم {اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} أي تبرتم عن اتباعه فطائفة منهم كذبتموهم، وطائفة قتلتموهم ..
التكذيب مسألة منكرة، ولكن القتل أمر بشع، فيحن ترى إنساناً أو حاكماً ظالماً يريد أن يتخلص من خصمه بالقتل فاعلم أنها شهادة بضعفه أمام خصمه، ولو كان ذا رجولة ومروءة لقابل الحجة بالحجة ولما تجرّأ على قتله.
ثم أخبر تعالى عن اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم وبيّن ضلالهم في اقتدائهم بالأسلاف فقال حكاية عنهم: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} أي في أكنة، والغلف مأخوذ من الغِلاف، فهي مُغَلّفَة لا تفقه ولا تعي ما تقوله يا محمد، والغرض إِقناطه عليه الصلاة السلام من إِيمانهم، قال تعالى رداً عليهم {بَلْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} أي طردهم وأبعدهم من رحمته بسبب كفرهم وضلالهم {فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} أي فقليلٌ من يؤمن منهم، أو يؤمنون إِيماناً قليلاً وهو إِيمانهم ببعض الكتاب وكفرهم بالبعض الآخر.
{وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} وهو القرآن العظيم الذي أنزل على خاتم المرسلين، مصدقاً لما في التوراة {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} أي وقد كانوا قبل مجيئه يستنصرون به على أعدائهم.
وهم كفار المدينة من الأوس والخزرج.
ويقولون: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث آخر الزمان، الذي نجد نعته في التوراة.
وكانوا يقولون لأهل المدينة أيضاً: أهل زمن رسول سنؤمن به ونتبعه ونقتلكم قتل عاد وإرم.
{فَلَمَّا جَاءهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} أي فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم الذي عرفوه حق المعرفة كفروا برسالته {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي لعنة الله على اليهود الذين كفروا بخاتم المرسلين.
فائدة: كفر اليهود وعنادهم كان أحد أسباب نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الأوس والخزرج عندما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم تذكروا تهديد اليهود لهم به ونعوته فسارعوا للإيمان به ومبايعته ونصرته، فعظم من سخر أعداءه لنصرة شريعته.

ما يستخلص من الآيات [87-89]:
1- كثرة الرسل والأنبياء الذين أرسلوا إلى بني إسرائيل يدل على مدى العناية الإلهية بهم، ولكنهم قوم أشربت قلوبهم باللؤم فقابلوا النعم الكثيرة بالعناء والاستكبار والتكذيب ثم ختموا ذلك بأبشع جريمة عرفتها البشرية ألا وهي قتل أنبياء الله وأصفيائه، فاستحقوا لأجل ذلك اللعنة والطرد من رحمة الله والختم على القلوب {فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 98] كما حدث لفرعون وقومه.
2- من صفاته تعالى "العدل" فهو منزّه عن الظلم {وما ربك بظلام للعبيد} ولذا أجاب عن سبب ختمه على قلوبهم وطرده المعاندين المستكبرين منهم من رحمته، فقال: {بل لعنهم الله بكفرهم} أي بسبب جحودهم وإعراضهم عن الحق استكباراً بعد ما تبيّن لهم ناصعاً لا غبار عليه، لأن الكفر هو الجحود والتغطية. ولا أدلّ على ذلك الجحود من تكذيبهم رسالة خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام وقد كانوا يستفتحون به على الأوس والخزرج. فنعوذ بالله من الكب والمتكبرين.

كفر اليهود بما أنزل الله، وقتلهم الأنبياء
{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ(90)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(91)}

{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ} أي بئس الشيء التافه الذي باع به هؤلاء اليهود أنفسهم واشتروا الكفر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فخسروا الصفة لأنهم أخذوا الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة {أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} أي كفرهم بالقرآن الذي أنزله الله {بَغْيًا} أي حسداً وطلباً لما ليس لهم {أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي حسداً منهم لأجل أن يُنَزّل الله وحياً من فضله على من يشاء ويصطفيه من خلقه، فلقد اختبرهم الله في رسالات متعددة ولكنهم كذبوا وقتلوا فكان مقتضى حكمته وعدله أن يعاقبهم بنزع الرسالة منهم وإعطائها لخير أمة أخرجت للناس ولذلك بغوا وحسدوا، فكان العقاب الإلهي: {فَبَاءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} أي رجعوا بغضب من الله زيادة على سابق غضبه عليهم، فنالوا غضبين: الأول أنهم لم ينفذوا ما جاء في التوراة، والثاني حين جاءهم رسول مذكور عندهم في التوراة ومطلوب منهم أن يؤمنوا به ولكنهم كفروا به حسداً فاستحقوا غضباً ثانياً. {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي ولهم عذاب شديد مع الإِهانة والإِذلال لأن كفرهم سببه التكبر والحسد فقوبلوا بالإِهانة والصغار.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} أي آمنوا بما أنزل الله من القرآن وصدّقوه واتبعوه {قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} أي يكفينا الإِيمان بما أنزل علينا من التوراة {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} أي يكفرون بالقرآن مع أنه هو الحق موافقاً لما معهم من كلام الله {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي قل لهم يا محمد إِذا كان إِيمانكم بما في التوراة صحيحاً فلم كنتم تقتلون أنبياء الله من قبل إِذا كنتم فعلاً مؤمنين؟ وكأن الحق أخذ الحجة لدحض كذبهم من قولهم {نؤمن بما أنزل علينا} فإذا كان هذا صحيحاً فهل يوجد في التوراة التي تؤمنون بها ما يبيح لكم قتل الأنبياء؟ ولكنه التمرّد الذي رُبّوا عليه ووَرَّثوه لأبنائهم جيلاً بعد جيل.

ما يستخلص من الآيات [90-91]:
1- الإنسان السويّ العاقل لا يؤثر الفاني على الباقي، والشيء التافه الرخيص على الغالي الثمن، ولذا ندّد القرآن بفعل اليهود مقرراً: بئس الشيء الذي اختاروا لأنفسهم، حيث استبدلوا الباطل بالحق والكفر بالإيمان.
2- مَنْ لم يؤمن بما أنزل عليه فلا مطمع في الإيمان ما أنزل على غيره.
3- علّمنا القرآن الكريم في الآية (91) كيف نُفحِم المخالف ونبطل دعواه من خلال أقواله {قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين} كما يقول المثل: من فمك أدينك.

تكذيب ادعاء اليهود الإيمان بالتوراة
{وَلَقَدْ جَاءكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ(92)وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(93)}

المنَاسَبَة:
هذه طائفة أخرى من جرائم اليهود، فقد نقضوا الميثاق حتى رفع جبلُ الطور عليهم وأمروا أن يأخذوا بما في التوراة، فأظهروا القبول والطاعة ثم عادوا إِلى الكفر والعصيان، فعبدوا العجل من دون الله، وزعموا أنهم أحباب الله، وأن الجنة خالصة لهم من دون الناس لا يدخلها أحد سواهم، وعادَوا الملائكة الأطهار وعلى رأسهم جبريل عليه السلام، وكفروا بالأنبياء والرسل، وهكذا شأنهم في سائر العصور والدهور.

{وَلَقَدْ جَاءكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} أي بالحجج الباهرات {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} أي عبدتم العجل من بعد ذهابه إِلى الطور، وأنتم ظالمون في هذا الصنيع.
وهذه الحجة ثانية على أنكم كاذبون في قولكم {نؤمن بما أنزل علينا} فالإيمان بالتوراة ينافي عبادة العجل.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} أي اذكروا يا بني إسرائيل حين أخذنا عليكم العهد المؤكد على العمل بما في التوراة، ورفعنا فوقكم جبل الطور قائلين {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} أي بعزمٍ وحزم وإلاّ طرحنا الجبل فوقكم.
وينبغي أن نعلم أن رفع الجبل فوقهم لم يكن لإجبارهم على أخذ الميثاق لأنهم اتبعوا موسى عليه السلام قبل رفع الجبل، ولكنهم قوم ماديون لا يؤمنون إلا بالمحسوس فأراد الله تعالى أن يخوّفهم ليعودوا لإيمانهم، وهذا يأتي من حب الله لعباده لأنه يريدهم مؤمنين.
{وَاسْمَعُوا} أي سماع طاعة وقبول.
{قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} أي سمعنا قولك، وعصينا أمرك.
فائدة: هناك قول وفعل وعمل فالقول أن تنطق بلسانك، والفعل أن تقوم جوارحك بالتنفيذ، والعمل أن يطابق القول الفعل. فهم سمعوا ما قاله لهم الله تعالى وعصوه. ولكن {عصينا} ليست معطوفة على {سمعنا} وإنما هي معطوفة على {قالوا} قالوا سمعنا في القول وفي الفعل عصينا، فهم لم يقولوا الكلمتين، وإنما قالوا سمعنا، ولم ينفذوا ما أمرهم الله به بأفعالهم.
{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} أي خالط حبُّه قلوبَهم، وتغلغل في سويدائها، والمراد أن حب عبادة العجل امتزج بدمائهم ودخل في قلوبهم، كما يدخل الصبغُ في الثوب، والماء في البدن {بِكُفْرِهِمْ} أي بسبب كفرهم، فهم كفروا أولاً، وبكفرهم دخل العجل إلى قلوبهم وختم عليها.
{قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} أي قل لهم على سبيل التهكم بهم بئس هذا الإِيمان الذي يأمركم بعبادة العجل {إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي إِن كنتم تزعمون الإِيمان فبئس هذا العمل والصنيع، والمعنى: لستم بمؤمنين لأن الإِيمان لا يأمر بعبادة العجل. وقوله تعالى {إن كنتم مؤمنين} دليل على أنهم ليسوا مؤمنين، لأن قلوبهم مشربة بحب العجل الذي عبدوه.

ما يستخلص من الآيات [92-93]:
1- الإيمان الصحيح هو الذي يجعل صاحبه منسجماً في سلوكه مع مقتضى ما آمن به. ولكن اليهود على خلاف ذلك فزعموا وادعوا أنهم آمنوا بالتوراة التي ترشدهم إلى عبادة الله وحده، ولكنهم عبدوا العجل واتخذوه إلهاً من دون الله فبئس هذا الإيمان الذي يصنع إنساناً متنقضاً في حيته وسلوكه تجاه ما آمن به.
2- علامة الإيمان الصحيح المقبول عند الله أن يطابق السلوك الخارجي المعتقد الداخلي في القلب، وعلامة الإنسان السويّ أني طابق فعلُه قوله، فنعوذ بالله من قوم {قالوا سمعنا} بألسنتهم و{عصينا} بأفعالهم.

حرص اليهود على الحياة وموقفهم من الملائكة والرسل
{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(94)وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ(95)وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ(96)قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ(97)مَنْ كَانَ عَدُوًّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ(98)}

سبب نزول الآية (94):
أخرج ابن جرير الطبري عن أبي العالية قال: قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً، فأنزل الله: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً…} [البقرة: 94].

{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ} أي قل لهم يا محمد إِن كانت الجنة لكم خاصة لا يشارككم في نعيمها أحد كما زعمتم {فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي اشتاقوا الموت الذي يوصلكم إِلى الجنة، لأن نعيم هذه الحياة لا يساوي شيئاً إِذا قيس بنعيم الآخرة. ومن أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إِليها.
ثم قال تعالى رادّاً عليهم تلك الدعوى الكاذبة: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي لن يتمنوا الموت ما عاشوا بسب ما اجترحوه من الذنوب والآثام.
وفي قوله تعالى {لن يتمنوه} إعجاز قرآني، لأن الله حكم حُكماً نهائياً في أمر اختياري لعدو يكيد الإسلام، وكان من الممكن أن يفطن هؤلاء اليهود ويقولوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: "نحن نتمنى الموت فادع لنا ربك يميتنا". من أجل أن يشككوا في هذا الدين، ولكنهم إلى الآن لم يفعلوا، ولن يفعلوا، لأنهم يعلمون أنه الحق ولو طلبوا ذلك لماتوا حقاً، وهم يحبون الحياة ويكرهون الموت، بل يحبون الحياة أكثر من غيرهم كما سيأتي.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} أي عالم بظلمهم وإِجرامهم وسيجازيهم على ذلك.
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} أي ولتجدنَّ اليهود أشدّ الناس حرصاً على الحياة، وأحرص من المشركين أنفسهم، وذلك لعلمهم بأنهم صائرون إِلى النار لإِجرامهم.
لذلك كلما طالت حياتهم ظنوا أنهم بعيدون من عذاب الآخرة. وأما المشركون فلا آخرة لهم لعدم إيمانهم بها، فالدنيا هي الغاية، ولذا لا يخافون من عواقب الموت كما يخاف منها اليهود الذين أجرموا فالمشرك إن خاف من الموت فلكونها تقطعه عن لذة الدنيا. وأما اليهود فيخافون الموت لفوات لذات الدنيا ويخافونها أكثر لما ينتظرهم من خزي وعذاب على إجرامهم وطغيانهم.
{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} أي يتمنى الواحد منهم أن يعيش ألف سنة {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} أي وما طول العمر – مهما عمّر – بمبعده ومنجيه من عذاب الله {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي مطّلع على أعمالهم فيجازيهم عليها.
{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} أي قل لهم يا محمد من كان عدواً لجبريل فإِنه عدو لله، لأن الله جعله واسطة بينه وبين رسله فمن عاداه فقد عادى الله.
وسبب عداوتهم لجبريل عليه السلام أنه ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوحي، وعلى الظالمين المستكبرين بالعذاب، فقد سأل ابنُ جوريا -أحد أحبارهم- رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنِ الذي ينزل عليك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جبريل. فقال اليهودي: لو كان غيره لآمنّا بك. جبريل عدونا لأنه ينزل دائماً بالخسف والعذاب ولكن ميكائيل ينزل بالرحمة والغيث والخصب". وقد غفل هؤلاء الحمقى أن الملائكة كلهم ينفذون أوامر الله. فمن عادى أحدهم فقد عادى أمر الله.
{فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} أي فإِن جبريل الأمين نزّل هذا القرآن على قلبك يا محمد بأمر الله تعالى ولا شأن لجبريل في ذلك فلماذا تعادونه؟ {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي مصدقاً لما سبقه من الكتب السماوية {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي وفيه الهداية الكاملة، والبشارة السارة للمؤمنين بجنات النعيم.
{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} أي من عادى الله وملائكته ورسله، وعادى على الوجه الأخص "جبريل وميكائيل" فهو كافر عدو لله {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} لأن الله يبغض من عادى أحداً من أوليائه، ومن عاداهم عاداه الله، ففيه الوعيد والتهديد الشديد.
فالعداوة للرسل مثل العداوة للملائكة مثل العداوة لجبريل وميكائيل مثل العداوة لله جل جلاله، فمصدر الدين واحد وهو الحق تعالى والرسل والملائكة سفراء الله إلى عباده أمناء على ما كلفهم الله بتبليغه.

ما يستخلص من الآيات [94-98]:
1- دلت الآيتين (94-95) على أن أساء وظلم في دنياه لا يتمنى الموت أبداً، وأما صاحب العمل الصالح فإنه يستبشر بلقاء الله وكرمه له في الجنة.
فإن قيل: ما معنى النهي الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يَتَمَنَّيَنَّ أحدكم الموت ولا يدعو به من قبل أن يأتيه إلا أن يكون قد وثق بعلمه" [رواه أحمد في مسنده].
فالجواب: أن تمني الموت المنهى عنه يكون بقصة الاحتجاج على المصائب والآلام هروباً من قدر الله تعالى، وكأنه كره قدر الله وهذا مناف للإيمان.
وأما تمني الموت من الرجل الصالح بقصد محبة لقاء الله تعالى فهو أمر مستحب يشرحه قوله عليه الصلاة والسلام "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه" وهو معنى قوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام {توفني مسلماً وألحقني بالصالحين} [يوسف: 101].
2- تعددت اعتذارات اليهود عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهنا لون آخر من الاعتذار وهو كون جبريل عليه السلام نزل وبالوحي على محمد صلى الله عليه وسلم، وجبريل من أعدائهم كما زعموا، ولكنه العناد، وحجتهم باطلة، فهو أمين الوحي بين الله ورسله، وعداوته تعني عداوة الله ورسله.
3- كشفت هذه الآيات عن مادية اليهود، فهم يقيسون الأمر على البشر لتصورهم أن الذي يجلس عن يمين السيد والذي يجلس عن يساره يتنافسان على المنزلة عنده ولكن هذا في دنيا البشر، وقد فات هؤلاء أن الملائكة منزهون عن هذا التنافس {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمرون}.
كفر اليهود بالقرآن ونقضهم المعهود
{وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ(99)أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(100)وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ(101)}

المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى ما جبل عليه اليهود من خبث النفس ونقض العهد، وتكذيب رسل الله، ومعاداة جبريل أمين الوحي عليه السلام، أعقب ذلك أن من عادة اليهود التكذيب بآيات الله، وعدم الوفاء بالعهود، وتكذيب الرسل، والإعراض عن القرآن. وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم حيث عارضوا دعوته، وأعرضوا عن القرآن الكريم.

{وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أي والله لقد أنزلنا يا محمد آيات واضحات دالاّت على نبوتك {وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الفَاسِقُونَ} أي وما يجحد بهذه الآيات ويكذب بها إلا الخارجون عن الطاعة الماردون على الكفر {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} أي أيكفرون بالآيات وهي في غاية الوضوح وكلّما أعطوا عهداً نقضه جماعة منهم؟ {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي بل أكثر اليهود لا يؤمن بالتوراة الإِيمان الصدق لذلك ينقضون العهود والمواثيق.
{وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وهو محمد صلى الله عليه وسلم {مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} أي مصدقاً للتوراة وموافقاً لها في أصول الدين ومقرراً لنبوة موسى عليه السلام {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} أي طرح أحبارهم وعلماؤهم التوراة وأعرضوا عنها بالكليةلأنها تدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فجحدوا وأصروا على إِنكار نبوته مما جعلهم يطرحون الكتاب وراء ظهورهم حتى نسوه تماماً ولا يلتفتوا إليه. بخلاف ما لو طرحوه أمامهم فإن رؤيته قد تذكرهم بالرجوع إليه.
{كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي كأنهم لا يعلمون من دلائل نبوته شيئاً.
أفاد قوله تعالى {نبذ فريق منهم} أن بعض اليهود تمسك بالكتاب واهتدى إلى الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم كابن سلام وكعب الأحبار وغيرها.

سبب نزول الآية (102):
قال محمد بن إسحاق: قال بعض أحبار اليهود: ألا تعجبون من محمد، يزعم أن سليمان كان نبياً؟ والله ما كان إلا ساحراً، فأنزل الله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم زماناً عن أمور من التوراة، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله عليه ما سألوه عنه، فيخصمهم، فلما رأوا ذلك، قالوا: هذا أعلم بما أنزل إلينا منا، وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه به، فأنزل الله: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ}.

القسم الثاني

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هناسبحان الله و بحمده

التصنيفات
الصف الثاني عشر

تفسير سورة البقرة -تعليم الامارات

2- تفسير سورة البقرة عدد آياتها 286 ( آية 1-25 )
وهي مدنية
{ 1 – 5 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
تقدم الكلام على البسملة. وأما الحروف المقطعة في أوائل السور, فالأسلم فيها, السكوت عن التعرض لمعناها [من غير مستند شرعي], مع الجزم بأن الله تعالى لم ينزلها عبثا بل لحكمة لا نعلمها.
وقوله { ذَلِكَ الْكِتَابُ } أي هذا الكتاب العظيم الذي هو الكتاب على الحقيقة, المشتمل على ما لم تشتمل عليه كتب المتقدمين والمتأخرين من العلم العظيم,
والحق المبين. فـ { لَا رَيْبَ فِيهِ } ولا شك بوجه من الوجوه، ونفي الريب عنه, يستلزم ضده, إذ ضد الريب والشك اليقين، فهذا الكتاب مشتمل على علم اليقين المزيل للشك والريب. وهذه قاعدة مفيدة, أن النفي المقصود به المدح, لا بد أن يكون متضمنا لضدة, وهو الكمال, لأن النفي عدم, والعدم المحض, لا مدح فيه.
فلما اشتمل على اليقين وكانت الهداية لا تحصل إلا باليقين قال: { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } والهدى: ما تحصل به الهداية من الضلالة والشبه، وما به الهداية إلى سلوك الطرق النافعة. وقال { هُدًى } وحذف المعمول, فلم يقل هدى للمصلحة الفلانية, ولا للشيء الفلاني, لإرادة العموم, وأنه هدى لجميع مصالح الدارين، فهو مرشد للعباد في المسائل الأصولية والفروعية, ومبين للحق من الباطل, والصحيح من الضعيف, ومبين لهم كيف يسلكون الطرق النافعة لهم, في دنياهم وأخراهم.
وقال في موضع آخر: { هُدًى لِلنَّاسِ } فعمم. وفي هذا الموضع وغيره { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } لأنه في نفسه هدى لجميع الخلق.فالأشقياء لم يرفعوا به رأسا. ولم يقبلوا هدى الله, فقامت عليهم به الحجة, ولم ينتفعوا به لشقائهم، وأما المتقون الذين أتوا بالسبب الأكبر, لحصول الهداية, وهو التقوى التي حقيقتها: اتخاذ ما يقي سخط الله وعذابه, بامتثال أوامره, واجتناب النواهي, فاهتدوا به, وانتفعوا غاية الانتفاع. قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } فالمتقون هم المنتفعون بالآيات القرآنية, والآيات الكونية.
ولأن الهداية نوعان: هداية البيان, وهداية التوفيق. فالمتقون حصلت لهم الهدايتان, وغيرهم لم تحصل لهم هداية التوفيق. وهداية البيان بدون توفيق للعمل بها, ليست هداية حقيقية [تامة].
ثم وصف المتقين بالعقائد والأعمال الباطنة, والأعمال الظاهرة, لتضمن التقوى لذلك فقال: { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } حقيقة الإيمان: هو التصديق التام بما أخبرت به الرسل, المتضمن لانقياد الجوارح، وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحس, فإنه لا يتميز بها المسلم من الكافر. إنما الشأن في الإيمان بالغيب, الذي لم نره ولم نشاهده, وإنما نؤمن به, لخبر الله وخبر رسوله. فهذا الإيمان الذي يميز به المسلم من الكافر, لأنه تصديق مجرد لله ورسله. فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به, أو أخبر به رسوله, سواء شاهده, أو لم يشاهده وسواء فهمه وعقله, أو لم يهتد إليه عقله وفهمه. بخلاف الزنادقة والمكذبين بالأمور الغيبية, لأن عقولهم القاصرة المقصرة لم تهتد إليها فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ففسدت عقولهم, ومرجت أحلامهم. وزكت عقول المؤمنين المصدقين المهتدين بهدى الله.
ويدخل في الإيمان بالغيب, [الإيمان بـ] بجميع ما أخبر الله به من الغيوب الماضية والمستقبلة, وأحوال الآخرة, وحقائق أوصاف الله وكيفيتها, [وما أخبرت به الرسل من ذلك] فيؤمنون بصفات الله ووجودها, ويتيقنونها, وإن لم يفهموا كيفيتها.
ثم قال: { وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ } لم يقل: يفعلون الصلاة, أو يأتون بالصلاة, لأنه لا يكفي فيها مجرد الإتيان بصورتها الظاهرة. فإقامة الصلاة, إقامتها ظاهرا, بإتمام أركانها, وواجباتها, وشروطها. وإقامتها باطنا بإقامة روحها, وهو حضور القلب فيها, وتدبر ما يقوله ويفعله منها، فهذه الصلاة هي التي قال الله فيها: { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } وهي التي يترتب عليها الثواب. فلا ثواب للإنسان من صلاته, إلا ما عقل منها، ويدخل في الصلاة فرائضها ونوافلها.
ثم قال: { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } يدخل فيه النفقات الواجبة كالزكاة, والنفقة على الزوجات والأقارب, والمماليك ونحو ذلك. والنفقات المستحبة بجميع طرق الخير. ولم يذكر المنفق عليهم, لكثرة أسبابه وتنوع أهله, ولأن النفقة من حيث هي, قربة إلى الله، وأتى بـ " من " الدالة على التبعيض, لينبههم أنه لم يرد منهم إلا جزءا يسيرا من أموالهم, غير ضار لهم ولا مثقل, بل ينتفعون هم بإنفاقه, وينتفع به إخوانهم.
وفي قوله: { رَزَقْنَاهُمْ } إشارة إلى أن هذه الأموال التي بين أيديكم, ليست حاصلة بقوتكم وملككم, وإنما هي رزق الله الذي خولكم, وأنعم به عليكم، فكما أنعم عليكم وفضلكم على كثير من عباده, فاشكروه بإخراج بعض ما أنعم به عليكم, وواسوا إخوانكم المعدمين.
وكثيرا ما يجمع تعالى بين الصلاة والزكاة في القرآن, لأن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود, والزكاة والنفقة متضمنة للإحسان على عبيده، فعنوان سعادة العبد إخلاصه للمعبود, وسعيه في نفع الخلق، كما أن عنوان شقاوة العبد عدم هذين الأمرين منه, فلا إخلاص ولا إحسان.
ثم قال: { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ } وهو القرآن والسنة، قال تعالى: { وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } فالمتقون يؤمنون بجميع ما جاء به الرسول, ولا يفرقون بين بعض ما أنزل إليه, فيؤمنون ببعضه, ولا يؤمنون ببعضه, إما بجحده أو تأويله, على غير مراد الله ورسوله, كما يفعل ذلك من يفعله من المبتدعة, الذين يؤولون النصوص الدالة على خلاف قولهم, بما حاصله عدم التصديق بمعناها, وإن صدقوا بلفظها, فلم يؤمنوا بها إيمانا حقيقيا.
وقوله: { وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } يشمل الإيمان بالكتب السابقة، ويتضمن الإيمان بالكتب الإيمان بالرسل وبما اشتملت عليه, خصوصا التوراة والإنجيل والزبور، وهذه خاصية المؤمنين يؤمنون بجميع الكتب السماوية وبجميع الرسل فلا يفرقون بين أحد منهم.
ثم قال: { وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } و " الآخرة " اسم لما يكون بعد الموت، وخصه [بالذكر] بعد العموم, لأن الإيمان باليوم الآخر, أحد أركان الإيمان؛ ولأنه أعظم باعث على الرغبة والرهبة والعمل، و " اليقين " هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك, الموجب للعمل.
{ أُولَئِكَ } أي: الموصوفون بتلك الصفات الحميدة { عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ } أي: على هدى عظيم, لأن التنكير للتعظيم، وأي هداية أعظم من تلك الصفات المذكورة المتضمنة للعقيدة الصحيحة والأعمال المستقيمة، وهل الهداية [الحقيقية] إلا هدايتهم، وما سواها [مما خالفها]، فهو ضلالة.
وأتى بـ " على " في هذا الموضع, الدالة على الاستعلاء, وفي الضلالة يأتي بـ " في " كما في قوله: { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } لأن صاحب الهدى مستعل بالهدى, مرتفع به, وصاحب الضلال منغمس فيه محتقر.
ثم قال: { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } والفلاح [هو] الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب، حصر الفلاح فيهم؛ لأنه لا سبيل إلى الفلاح إلا بسلوك سبيلهم, وما عدا تلك السبيل, فهي سبل الشقاء والهلاك والخسار التي تفضي بسالكها إلى الهلاك.

{ 6 – 7 } { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
فلهذا لما ذكر صفات المؤمنين حقا, ذكر صفات الكفار المظهرين لكفرهم، المعاندين للرسول فقال: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } يخبر تعالى أن الذين كفروا, أي: اتصفوا بالكفر, وانصبغوا به, وصار وصفا لهم لازما, لا يردعهم عنه رادع, ولا ينجع فيهم وعظ، إنهم مستمرون على كفرهم, فسواء عليهم أأنذرتهم, أم لم تنذرهم لا يؤمنون، وحقيقة الكفر: هو الجحود لما جاء به الرسول, أو جحد بعضه، فهؤلاء الكفار لا تفيدهم الدعوة إلا إقامة الحجة, وكأن في هذا قطعا لطمع الرسول صلى الله عليه وسلم في إيمانهم, وأنك لا تأس عليهم, ولا تذهب نفسك عليهم حسرات.
ثم ذكر الموانع المانعة لهم من الإيمان فقال: { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ } أي: طبع عليها بطابع لا يدخلها الإيمان, ولا ينفذ فيها، فلا يعون ما ينفعهم, ولا يسمعون ما يفيدهم.
{ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } أي: غشاء وغطاء وأكنة تمنعها عن النظر الذي ينفعهم, وهذه طرق العلم والخير, قد سدت عليهم, فلا مطمع فيهم, ولا خير يرجى عندهم، وإنما منعوا ذلك, وسدت عنهم أبواب الإيمان بسبب كفرهم وجحودهم ومعاندتهم بعد ما تبين لهم الحق, كما قال تعالى: { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } وهذا عقاب عاجل.
ثم ذكر العقاب الآجل، فقال: { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وهو عذاب النار, وسخط الجبار المستمر الدائم.
ثم قال تعالى في وصف المنافقين الذين ظاهرهم الإسلام وباطنهم الكفر فقال:
{ 8 – 10 } { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ }
واعلم أن النفاق هو: إظهار الخير وإبطان الشر، ويدخل في هذا التعريف النفاق الاعتقادي, والنفاق العملي، كالذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " آية المنافق ثلات: إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا اؤتمن خان " وفي رواية: " وإذا خاصم فجر "
وأما النفاق الاعتقادي المخرج عن دائرة الإسلام, فهو الذي وصف الله به المنافقين في هذه السورة وغيرها، ولم يكن النفاق موجودا قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم [من مكة] إلى المدينة, وبعد أن هاجر, فلما كانت وقعة " بدر " وأظهر الله المؤمنين وأعزهم، ذل من في المدينة ممن لم يسلم, فأظهر بعضهم الإسلام خوفا ومخادعة, ولتحقن دماؤهم, وتسلم أموالهم, فكانوا بين أظهر المسلمين في الظاهر أنهم منهم, وفي الحقيقة ليسوا منهم.
فمن لطف الله بالمؤمنين, أن جلا أحوالهم ووصفهم بأوصاف يتميزون بها, لئلا يغتر بهم المؤمنون, ولينقمعوا أيضا عن كثير من فجورهم [قال تعالى]: { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ } فوصفهم الله بأصل النفاق فقال: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } فإنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فأكذبهم الله بقوله: { وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } لأن الإيمان الحقيقي, ما تواطأ عليه القلب واللسان, وإنما هذا مخادعة لله ولعباده المؤمنين.
والمخادعة: أن يظهر المخادع لمن يخادعه شيئا, ويبطن خلافه لكي يتمكن من مقصوده ممن يخادع، فهؤلاء المنافقون, سلكوا مع الله وعباده هذا المسلك, فعاد خداعهم على أنفسهم، فإن هذا من العجائب؛ لأن المخادع, إما أن ينتج خداعه ويحصل له ما يريد أو يسلم, لا له ولا عليه، وهؤلاء عاد خداعهم عليهم, وكأنهم يعملون ما يعملون من المكر لإهلاك أنفسهم وإضرارها وكيدها؛ لأن الله تعالى لا يتضرر بخداعهم [شيئا] وعباده المؤمنون, لا يضرهم كيدهم شيئا، فلا يضر المؤمنين أن أظهر المنافقون الإيمان, فسلمت بذلك أموالهم وحقنت دماؤهم, وصار كيدهم في نحورهم, وحصل لهم بذلك الخزي والفضيحة في الدنيا, والحزن المستمر بسبب ما يحصل للمؤمنين من القوة والنصرة.
ثم في الآخرة لهم العذاب الأليم الموجع المفجع, بسبب كذبهم وكفرهم وفجورهم, والحال أنهم من جهلهم وحماقتهم لا يشعرون بذلك.
وقوله: { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } والمراد بالمرض هنا: مرض الشك والشبهات والنفاق، لأن القلب يعرض له مرضان يخرجانه عن صحته واعتداله: مرض الشبهات الباطلة, ومرض الشهوات المردية، فالكفر والنفاق والشكوك والبدع, كلها من مرض الشبهات، والزنا, ومحبة [الفواحش و]المعاصي وفعلها, من مرض الشهوات ، كما قال تعالى: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } وهي شهوة الزنا، والمعافى من عوفي من هذين المرضين, فحصل له اليقين والإيمان, والصبر عن كل معصية, فرفل في أثواب العافية.
وفي قوله عن المنافقين: { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا } بيان لحكمته تعالى في تقدير المعاصي على العاصين, وأنه بسبب ذنوبهم السابقة, يبتليهم بالمعاصي اللاحقة الموجبة لعقوباتها كما قال تعالى: { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } وقال تعالى: { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } وقال تعالى: { وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ } فعقوبة المعصية, المعصية بعدها, كما أن من ثواب الحسنة, الحسنة بعدها، قال تعالى: { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى }

{ 11 – 12 } { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ }
أي: إذا نهي هؤلاء المنافقون عن الإفساد في الأرض, وهو العمل بالكفر والمعاصي, ومنه إظهار سرائر المؤمنين لعدوهم وموالاتهم للكافرين { قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } فجمعوا بين العمل بالفساد في الأرض, وإظهارهم أنه ليس بإفساد بل هو إصلاح, قلبا للحقائق, وجمعا بين فعل الباطل واعتقاده حقا، وهذا أعظم جناية ممن يعمل بالمعصية, مع اعتقاد أنها معصية فهذا أقرب للسلامة, وأرجى لرجوعه.
ولما كان في قولهم: { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } حصر للإصلاح في جانبهم – وفي ضمنه أن المؤمنين ليسوا من أهل الإصلاح – قلب الله عليهم دعواهم بقوله: { ألا إنهم هم المفسدون } فإنه لا أعظم فسادا ممن كفر بآيات الله, وصد عن سبيل الله، وخادع الله وأولياءه, ووالى المحاربين لله ورسوله, وزعم مع ذلك أن هذا إصلاح, فهل بعد هذا الفساد فساد؟" ولكن لا يعلمون علما ينفعهم, وإن كانوا قد علموا بذلك علما تقوم به عليهم حجة الله، وإنما كان العمل بالمعاصي في الأرض إفسادا, لأنه يتضمن فساد ما على وجه الأرض من الحبوب والثمار والأشجار, والنبات, بما يحصل فيها من الآفات بسبب المعاصي، ولأن الإصلاح في الأرض أن تعمر بطاعة الله والإيمان به, لهذا خلق الله الخلق, وأسكنهم في الأرض, وأدر لهم الأرزاق, ليستعينوا بها على طاعته [وعبادته]، فإذا عمل فيها بضده, كان سعيا فيها بالفساد فيها, وإخرابا لها عما خلقت له.

{ 13 } { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ }
أي: إذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن الناس, أي: كإيمان الصحابة رضي الله عنهم، وهو الإيمان بالقلب واللسان, قالوا بزعمهم الباطل: أنؤمن كما آمن السفهاء؟ يعنون – قبحهم الله – الصحابة رضي الله عنهم, بزعمهم أن سفههم أوجب لهم الإيمان, وترك الأوطان, ومعاداة الكفار، والعقل عندهم يقتضي ضد ذلك, فنسبوهم إلى السفه; وفي ضمنه أنهم هم العقلاء أرباب الحجى والنهى.
فرد الله ذلك عليهم, وأخبر أنهم هم السفهاء على الحقيقة, لأن حقيقة السفه جهل الإنسان بمصالح نفسه, وسعيه فيما يضرها, وهذه الصفة منطبقة عليهم وصادقة عليهم، كما أن العقل والحجا, معرفة الإنسان بمصالح نفسه, والسعي فيما ينفعه, و[في] دفع ما يضره، وهذه الصفة منطبقة على [الصحابة و]المؤمنين وصادقة عليهم، فالعبرة بالأوصاف والبرهان, لا بالدعاوى المجردة, والأقوال الفارغة.

ثم قال تعالى: { 14 – 15 } { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }
هذا من قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، و[ذلك] أنهم إذا اجتمعوا بالمؤمنين, أظهروا أنهم على طريقتهم وأنهم معهم, فإذا خلوا إلى شياطينهم – أي: رؤسائهم وكبرائهم في الشر – قالوا: إنا معكم في الحقيقة, وإنما نحن مستهزءون بالمؤمنين بإظهارنا لهم, أنا على طريقتهم، فهذه حالهم الباطنة والظاهرة, ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.
قال تعالى: { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } وهذا جزاء لهم, على استهزائهم بعباده، فمن استهزائه بهم أن زين لهم ما كانوا فيه من الشقاء والحالة الخبيثة, حتى ظنوا أنهم مع المؤمنين, لما لم يسلط الله المؤمنين عليهم، ومن استهزائه بهم يوم القيامة, أنه يعطيهم مع المؤمنين نورا ظاهرا, فإذا مشي المؤمنون بنورهم, طفئ نور المنافقين, وبقوا في الظلمة بعد النور متحيرين, فما أعظم اليأس بعد الطمع، { يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ } الآية.
قوله: { وَيَمُدُّهُمْ } أي: يزيدهم { فِي طُغْيَانِهِمْ } أي: فجورهم وكفرهم، { يَعْمَهُونَ } أي: حائرون مترددون, وهذا من استهزائه تعالى بهم.
ثم قال تعالى كاشفا عن حقيقة أحوالهم:

{ 16 } { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ }
أولئك, أي: المنافقون الموصوفون بتلك الصفات { الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى } أي: رغبوا في الضلالة, رغبة المشتري بالسلعة, التي من رغبته فيها يبذل فيها الأثمان النفيسة. وهذا من أحسن الأمثلة, فإنه جعل الضلالة, التي هي غاية الشر, كالسلعة، وجعل الهدى الذي هو غاية الصلاح بمنزلة الثمن، فبذلوا الهدى رغبة عنه بالضلالة رغبة فيها، فهذه تجارتهم, فبئس التجارة, وبئس الصفقة صفقتهم
وإذا كان من بذل دينارا في مقابلة درهم خاسرا, فكيف من بذل جوهرة وأخذ عنها درهما؟" فكيف من بذل الهدى في مقابلة الضلالة, واختار الشقاء على السعادة, ورغب في سافل الأمور عن عاليها ؟" فما ربحت تجارته, بل خسر فيها أعظم خسارة. { قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ }
وقوله: { وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } تحقيق لضلالهم, وأنهم لم يحصل لهم من الهداية شيء, فهذه أوصافهم القبيحة.
ثم ذكر مثلهم الكاشف لها غاية الكشف، فقال:
{ 17 – 20 } { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
أي: مثلهم المطابق لما كانوا عليه كمثل الذي استوقد نارا، أي: كان في ظلمة عظيمة, وحاجة إلى النار شديدة فاستوقدها من غيره, ولم تكن عنده معدة, بل هي خارجة عنه، فلما أضاءت النار ما حوله, ونظر المحل الذي هو فيه, وما فيه من المخاوف وأمنها, وانتفع بتلك النار, وقرت بها عينه, وظن أنه قادر عليها, فبينما هو كذلك, إذ ذهب الله بنوره, فذهب عنه النور, وذهب معه السرور, وبقي في الظلمة العظيمة والنار المحرقة, فذهب ما فيها من الإشراق, وبقي ما فيها من الإحراق، فبقي في ظلمات متعددة: ظلمة الليل, وظلمة السحاب, وظلمة المطر, والظلمة الحاصلة بعد النور, فكيف يكون حال هذا الموصوف؟ فكذلك هؤلاء المنافقون, استوقدوا نار الإيمان من المؤمنين, ولم تكن صفة لهم, فانتفعوا بها وحقنت بذلك دماؤهم, وسلمت أموالهم, وحصل لهم نوع من الأمن في الدنيا، فبينما هم على ذلك إذ هجم عليهم الموت, فسلبهم الانتفاع بذلك النور, وحصل لهم كل هم وغم وعذاب, وحصل لهم ظلمة القبر, وظلمة الكفر, وظلمة النفاق, وظلم المعاصي على اختلاف أنواعها, وبعد ذلك ظلمة النار [وبئس القرار].
فلهذا قال تعالى [عنهم]: { صُمٌّ } أي: عن سماع الخير، { بُكْمٌ } [أي]: عن النطق به، { عُمْيٌ } عن رؤية الحق، { فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } لأنهم تركوا الحق بعد أن عرفوه, فلا يرجعون إليه، بخلاف من ترك الحق عن جهل وضلال, فإنه لا يعقل, وهو أقرب رجوعا منهم.
ثم قال تعالى: { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ } يعني: أو مثلهم كصيب، أي: كصاحب صيب من السماء، وهو المطر الذي يصوب, أي: ينزل بكثرة، { فِيهِ ظُلُمَاتٌ } ظلمة الليل, وظلمة السحاب, وظلمات المطر، { وَرَعْدٌ } وهو الصوت الذي يسمع من السحاب، { وَبَرْقٌ } وهو الضوء [اللامع] المشاهد مع السحاب.
{ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ } البرق في تلك الظلمات { مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا } أي: وقفوا.
فهكذا حال المنافقين, إذا سمعوا القرآن وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده, جعلوا أصابعهم في آذانهم, وأعرضوا عن أمره ونهيه ووعده ووعيده, فيروعهم وعيده وتزعجهم وعوده، فهم يعرضون عنها غاية ما يمكنهم, ويكرهونها كراهة صاحب الصيب الذي يسمع الرعد, ويجعل أصابعه في أذنيه خشية الموت, فهذا تمكن له السلامة. وأما المنافقون فأنى لهم السلامة, وهو تعالى محيط بهم, قدرة وعلما فلا يفوتونه ولا يعجزونه, بل يحفظ عليهم أعمالهم, ويجازيهم عليها أتم الجزاء.
ولما كانوا مبتلين بالصمم, والبكم, والعمى المعنوي, ومسدودة عليهم طرق الإيمان، قال تعالى: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } أي: الحسية, ففيه تحذير لهم وتخويف بالعقوبة الدنيوية, ليحذروا, فيرتدعوا عن بعض شرهم ونفاقهم، { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فلا يعجزه شيء، ومن قدرته أنه إذا شاء شيئا فعله من غير ممانع ولا معارض.
وفي هذه الآية وما أشبهها, رد على القدرية القائلين بأن أفعالهم غير داخلة في قدرة الله تعالى, لأن أفعالهم من جملة الأشياء الداخلة في قوله: { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
{ 21 – 22 } { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
هذا أمر عام لكل الناس, بأمر عام, وهو العبادة الجامعة, لامتثال أوامر الله, واجتناب نواهيه, وتصديق خبره, فأمرهم تعالى بما خلقهم له، قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }
ثم استدل على وجوب عبادته وحده, بأنه ربكم الذي رباكم بأصناف النعم, فخلقكم بعد العدم, وخلق الذين من قبلكم, وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة, فجعل لكم الأرض فراشا تستقرون عليها, وتنتفعون بالأبنية, والزراعة, والحراثة, والسلوك من محل إلى محل, وغير ذلك من أنواع الانتفاع بها، وجعل السماء بناء لمسكنكم, وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم, كالشمس, والقمر, والنجوم.
{ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } والسماء: [هو] كل ما علا فوقك فهو سماء, ولهذا قال المفسرون: المراد بالسماء هاهنا: السحاب، فأنزل منه تعالى ماء، { فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ } كالحبوب, والثمار, من نخيل, وفواكه, [وزروع] وغيرها { رِزْقًا لَكُمْ } به ترتزقون, وتقوتون وتعيشون وتفكهون.
{ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } أي: نظراء وأشباها من المخلوقين, فتعبدونهم كما تعبدون الله, وتحبونهم كما تحبون الله, وهم مثلكم, مخلوقون, مرزوقون مدبرون, لا يملكون مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، ولا ينفعونكم ولا يضرون، { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أن الله ليس له شريك, ولا نظير, لا في الخلق, والرزق, والتدبير, ولا في العبادة فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك؟ هذا من أعجب العجب, وأسفه السفه.
وهذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده, والنهي عن عبادة ما سواه, وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته, وبطلان عبادة من سواه, وهو [ذكر] توحيد الربوبية, المتضمن لانفراده بالخلق والرزق والتدبير، فإذا كان كل أحد مقرا بأنه ليس له شريك في ذلك, فكذلك فليكن إقراره بأن [الله] لا شريك له في العبادة, وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري، وبطلان الشرك.
وقوله تعالى: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } يحتمل أن المعنى: أنكم إذا عبدتم الله وحده, اتقيتم بذلك سخطه وعذابه, لأنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك، ويحتمل أن يكون المعنى: أنكم إذا عبدتم الله, صرتم من المتقين الموصوفين بالتقوى, وكلا المعنيين صحيح, وهما متلازمان، فمن أتى بالعبادة كاملة, كان من المتقين، ومن كان من المتقين, حصلت له النجاة من عذاب الله وسخطه. ثم قال تعالى:
{ 23 – 24 } { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ }
وهذا دليل عقلي على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم, وصحة ما جاء به، فقال: { وإن كنتم } معشر المعاندين للرسول, الرادين دعوته, الزاعمين كذبه في شك واشتباه, مما نزلنا على عبدنا, هل هو حق أو غيره ؟ فهاهنا أمر نصف، فيه الفيصلة بينكم وبينه، وهو أنه بشر مثلكم, ليس بأفصحكم ولا بأعلمكم وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم, لا يكتب ولا يقرأ، فأتاكم بكتاب زعم أنه من عند الله, وقلتم أنتم أنه تقوَّله وافتراه، فإن كان الأمر كما تقولون, فأتوا بسورة من مثله, واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم, فإن هذا أمر يسير عليكم، خصوصا وأنتم أهل الفصاحة والخطابة, والعداوة العظيمة للرسول، فإن جئتم بسورة من مثله, فهو كما زعمتم, وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز, ولن تأتوا بسورة من مثله، ولكن هذا التقييم على وجه الإنصاف والتنزل معكم، فهذا آية كبرى, ودليل واضح [جلي] على صدقه وصدق ما جاء به, فيتعين عليكم اتباعه, واتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة [والشدة], أن كانت وقودها الناس والحجارة, ليست كنار الدنيا التي إنما تتقد بالحطب, وهذه النار الموصوفة معدة ومهيأة للكافرين بالله ورسله. فاحذروا الكفر برسوله, بعد ما تبين لكم أنه رسول الله.
وهذه الآية ونحوها يسمونها آيات التحدي, وهو تعجيز الخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن، قال تعالى { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا }
وكيف يقدر المخلوق من تراب, أن يكون كلامه ككلام رب الأرباب؟ أم كيف يقدر الناقص الفقير من كل الوجوه, أن يأتي بكلام ككلام الكامل, الذي له الكمال المطلق, والغنى الواسع من كل الوجوه؟ هذا ليس في الإمكان, ولا في قدرة الإنسان، وكل من له أدنى ذوق ومعرفة [بأنواع] الكلام, إذا وزن هذا القرآن العظيم بغيره من كلام البلغاء, ظهر له الفرق العظيم.
وفي قوله: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ } إلى آخره, دليل على أن الذي يرجى له الهداية من الضلالة: [هو] الشاك الحائر الذي لم يعرف الحق من الضلال، فهذا إذا بين له الحق فهو حري بالتوفيق إن كان صادقا في طلب الحق.
وأما المعاند الذي يعرف الحق ويتركه, فهذا لا يمكن رجوعه, لأنه ترك الحق بعد ما تبين له, لم يتركه عن جهل, فلا حيلة فيه.
وكذلك الشاك غير الصادق في طلب الحق, بل هو معرض غير مجتهد في طلبه, فهذا في الغالب أنه لا يوفق.
وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم, دليل على أن أعظم أوصافه صلى الله عليه وسلم, قيامه بالعبودية, التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين.
كما وصفه بالعبودية في مقام الإسراء، فقال: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } وفي مقام الإنزال، فقال: { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ }
وفي قوله: { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } ونحوها من الآيات, دليل لمذهب أهل السنة والجماعة, أن الجنة والنار مخلوقتان خلافا للمعتزلة، وفيها أيضا, أن الموحدين وإن ارتكبوا بعض الكبائر لا يخلدون في النار, لأنه قال: { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } فلو كان [عصاة الموحدين] يخلدون فيها, لم تكن معدة للكافرين وحدهم، خلافا للخوارج والمعتزلة.
وفيها دلالة على أن العذاب مستحق بأسبابه, وهو الكفر, وأنواع المعاصي على اختلافها.
{ 25 } { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

لما ذكر جزاء الكافرين, ذكر جزاء المؤمنين, أهل الأعمال الصالحات, على طريقته تعالى في القرآن يجمع بين الترغيب والترهيب, ليكون العبد راغبا راهبا, خائفا راجيا فقال: { وَبَشِّرِ } أي: [يا أيها الرسول ومن قام مقامه] { الَّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } بجوارحهم, فصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة.
ووصفت أعمال الخير بالصالحات, لأن بها تصلح أحوال العبد, وأمور دينه ودنياه, وحياته الدنيوية والأخروية, ويزول بها عنه فساد الأحوال, فيكون بذلك من الصالحين, الذين يصلحون لمجاورة الرحمن في جنته.
فبشرهم { أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ } أي: بساتين جامعة من الأشجار العجيبة, والثمار الأنيقة, والظل المديد, [والأغصان والأفنان وبذلك] صارت جنة يجتن بها داخلها, وينعم فيها ساكنها.
{ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } أي: أنهار الماء, واللبن, والعسل, والخمر، يفجرونها كيف شاءوا, ويصرفونها أين أرادوا, وتشرب منها تلك الأشجار فتنبت أصناف الثمار.
{ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ } أي: هذا من جنسه, وعلى وصفه, كلها متشابهة في الحسن واللذة، ليس فيها ثمرة خاصة, وليس لهم وقت خال من اللذة, فهم دائما متلذذون بأكلها.
وقوله: { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } قيل: متشابها في الاسم, مختلف الطعوم وقيل: متشابها في اللون, مختلفا في الاسم، وقيل: يشبه بعضه بعضا, في الحسن, واللذة, والفكاهة, ولعل هذا الصحيح
ثم لما ذكر مسكنهم, وأقواتهم من الطعام والشراب وفواكههم, ذكر أزواجهم, فوصفهن بأكمل وصف وأوجزه, وأوضحه فقال: { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ } فلم يقل " مطهرة من العيب الفلاني " ليشمل جميع أنواع التطهير، فهن مطهرات الأخلاق, مطهرات الخلق, مطهرات اللسان, مطهرات الأبصار، فأخلاقهن, أنهن عرب متحببات إلى أزواجهن بالخلق الحسن, وحسن التبعل, والأدب القولي والفعلي, ومطهر خلقهن من الحيض والنفاس والمني, والبول والغائط, والمخاط والبصاق, والرائحة الكريهة، ومطهرات الخلق أيضا, بكمال الجمال, فليس فيهن عيب, ولا دمامة خلق, بل هن خيرات حسان, مطهرات اللسان والطرف، قاصرات طرفهن على أزواجهن, وقاصرات ألسنتهن عن كل كلام قبيح.
ففي هذه الآية الكريمة, ذكر المبشِّر والمبشَّر, والمبشَّرُ به, والسبب الموصل لهذه البشارة، فالمبشِّر: هو الرسول صلى الله عليه وسلم ومن قام مقامه من أمته، والمبشَّر: هم المؤمنون العاملون الصالحات، والمبشَّر به: هي الجنات الموصوفات بتلك الصفات، والسبب الموصل لذلك, هو الإيمان والعمل الصالح، فلا سبيل إلى الوصول إلى هذه البشارة, إلا بهما، وهذا أعظم بشارة حاصلة, على يد أفضل الخلق, بأفضل الأسباب.
وفيه استحباب بشارة المؤمنين, وتنشيطهم على الأعمال بذكر جزائها [وثمراتها], فإنها بذلك تخف وتسهل، وأعظم بشرى حاصلة للإنسان, توفيقه للإيمان والعمل الصالح، فذلك أول البشارة وأصلها، ومن بعده البشرى عند الموت، ومن بعده الوصول إلى هذا النعيم المقيم، نسأل الله أن يجعلنا منهم.
( آية 1-25 )-( آية 26-57 )-( آية 58-78 )-( آية 79-100 )-( آية 101-125 )-( آية 126-150 )-( آية 151-176 )-( آية 177-202 )-( آية 203-225 )-( آية 226-252 )-( آية 253-286 )

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هناسبحان الله و بحمده

التصنيفات
الصف الثاني عشر

شرح صورة البقرة من اية 190الى195 للصف الثاني عشر

ساااااااااااااااااعدوني ابي حلول الدرس الثاني مال اللغه العربيه
دخيلكم
بلييييييييييييز

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هناسبحان الله و بحمده

التصنيفات
الصف الثالث الابتدائي

الآيات التي تتحدث عن الصوم من سورة البقرة للصف الثالث

هلاآآ والله

شحاااالكم ؟

اممممم سوووري لاني تعبتكم وياي واايد بطلبااتي

ابا حل :

# – ابحث عن الآيات التي تتحدث عن الصوم من سورة البقرة ؟

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هناسبحان الله و بحمده