استطاع الإسلام الحنيف أن يغير الكثير من صفات العرب الذاتية والاجتماعية عندما جاءهم وتمكن ذلك التنظيم الإسلامي في سنوات قلائل لا تصل إلى ربع قرن مدة بقاء الرسول صلى الله عليه وسلم مبعوثا فيهم أن يجعل منهم خير أمة أخرجت للناس بما يأمرون به من معروف وما ينهون عنه من منكر بعد إيمانهم بالله
فقد استطاع الإسلام أن يذهب عنهم رجس الجاهلية وأن يقوم ما كان منحرفا من أخلاقهم وسلوكهم الفردي والاجتماعي .
لقد كان العرب أمة أمية لا يقرأون ولا يكتبون إلا في النادر القليل ، فلقد روى بعض المؤرخين أن الإسلام دخل وفي قريش سبعة عشر رجلا كلهم يكتب ثم عدهم ، ومنهم عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وأبو عبيدة بن الجراح ويزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهم . وقليل من نساءهم كن يكتبن مثل حفصة وأم كلثوم من زوجات النبي صلوات الله عليه .
ولم يكن فيهم عالم أو فيلسوف ولم تكن فيهم على الجملة من صفات العلم والمعرفة إلا ما كان منها فطريا لا يحتاج في اكتسابه إلى تعلم وتدريب وكذلك كان الحال عندما دخل الإسلام المدينة .
فلما غمرهم نور الإسلام أزال من عقولهم هذا الجهل وكانت أول آية من آيات القرآن الكريم تقول : ( …اقرأ …) فالدعوة إلى القراءة والمعرفة من أول ما نادى به الإسلام ولقد اهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعليم المسلمين القراءة والكتابة وكان يستعين بمن يعرفون الكتابة ليدونوا له الوحي وقد كان له غير واحد من كتاب الوحي أمثال أبي بن كعب الأنصاري ثم يزيد بن ثابت الأنصاري وعبد الله بن سعد بن أبي سرح من قريش ، وعثمان وشرحبيل بن حسنة وغيرهم
شجع الرسول الكريم أصحابه على تعلم القراءة والكتابة منذ الأيام الأولى للدعوة الإسلامية فقد كان خباب بن الأرت معه صحيفة فيها من سورة طه وكان يقرءها فاطمة بنت الخطاب على ما هو معروف من قصة إسلام عمر بن الخطاب .
وقد روى الإمام البخاري عن زيد بن ثابت قال : أتى بي النبي صلى الله عليه وسلم مقدمة المدينة فقيل : هذا من بني النجار وقد قرأ سبع عشرة سورة فقرأت عليه فأعجبه ذلك فقال : تعلم كتاب يهود – أي كتابتهم – فإني ما آمنهم على كتابي ففعلت فما مضى لي نصف شهر حتى حذقته فكنت أكتب له إليهم وإذا كتبوا إليه قرأت له …
ويروى البخاري عن زيد بن ثابت حديثا آخر يقول فيه : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم إني أكتب إلى قوم فأخاف أن يزيدوا على أو ينقصوا فتعلم السريانية فتعلمتها في سبعة عشر يوما .
ونشر الإسلام بين العرب ألوانا من المعارف لم يكونوا يعرفونها من قبل أو كانوا يعرفونها على وجه خاطىء ، فقد دعاهم الإسلام إلى نبذ العصبية القبلية وإلى نبذ التفاخر بالأنساب والأحساب ونزلت عليهم الآيات القرآنية التي تقول لهم : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) وتحدث إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال : ( أيها الناس إن الله تعالى أذهب عنكم نخوة الجاهلية وفخرها بالآباء كلكم لآدم وآدم من تراب ، ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى ) .
ثم أشاع الإسلام بينهم الكثير من تاريخ الأولين ، فيما جاء به القرآن الكريم من قصص آدم ونوح وإبراهيم عليهم السلام ثم من قصص عاد وثمود وفرعون وغيرهم من الأمم الماضية .
ولقد كان هذا اللون من القصص شائعا على وجه ما عند أهل الكتاب ولكن العرب لم يكونوا يعرفون منه إلا أقل القليل .
كما دعا الإسلام العرب إلى مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال وحببهم في الخير والبر وبغض إليهم الشر والإثم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان وحارب فيهم الظلم والعدوان ونهاهم عن التعالي والكبرياء وحرم عليهم شرب الخمر والزنا واتخاذ الأخدان والمسافحة ونهاهم عن الربا والميسر وحرم عليهم الغش والكذب وعلى الإجمال قوم فيهم كل سلوك معوج وحال بينهم وبين الانحراف عن الحق والهدى ولم يدع لديهم من رذيلة إلا ونهاهم عنها ولم يترك فضيلة إلا دعاهم إليها ورسم لهم نمطا سلوكيا في حياتهم يسعدون به ويسعدون سواهم إن هم تمسكوا ومشوا في ضوء هداه .
والحق أن الإسلام صاغ العرب صياغة جديدة وضعتهم في الصورة التي مكنتهم بعد قليل من الزمان من إن يحملوا مشاعل الحضارة ليضيئوا بها للبشرية طريق الحق والعدالة والإنسانية الراشدة وقد فعلوا فملأوا بالحضارة الإسلامية فيما بعد جنبات الدنيا وأنحاء الوجود .
وأحدث الإسلام في العرب تغييرا جذريا عميقا في عاداتهم وتقاليدهم الاجتماعية ونقلهم من منطق الغلبة للأقوى – إلى منطق جديد لا يخاف فيه الضعيف لأنه ضعيف ولا يغتر فيه القوي بأنه قوى ، بل القوى الظالم ضعيف أمام الإسلام والضعيف المظلوم قوى أمام هذا المنطق الجديد وقد شرع لهم الإسلام من النظم ما يكفل لهم أرقى أنواع الحياة وما يطب لكل مشكلاتها .
كما حظيت الأسرة في التشريع الإسلامي بنصيب كبير من الاهتمام فقد نظم الإسلام الزواج والطلاق وكل ما يتفرع عن الحياة الزوجية من مسائل كالنفقة والإرضاع والخلع والظهار واللعان . وقد وضع الإسلام المرأة في تشريعاته حيث يجب أن توضع ، وأزال عنها ما كانت تعانيه في ظل النظم الجاهلية ، وكذلك أوضح ما لأفراد الأسرة جميعا من حقوق أو واجبات ، وكذلك نظم سائر المعاملات التي تجمع الناس أو تفرق بينهم كالبيع والشراء والرهن والقرض والسلم ، والإجارة والمزارعة والشفعة وكل ما هو من فروع التعامل بين الناس .
وحدد الإسلام موقف الفرد والجماعة من الجريمة والعقاب بما يحافظ على حياة الناس ويوفر لهم الأمن والاستقرار ، ولم يدع الحاكم هكذا يفعل ما يشاء وإنما حدد كيف يطاع وفيما يطاع ومتى يعصى ومتى يخلع ، وهكذا أحدث الإسلام تشريعات اشتملت على كل ما يصلح حياتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية .
وشجع الإسلام العرب على الفكر وأعمال العقول وإجالة النظر في كل ما يحيط بهم من خلق الله . بل وفي أنفسهم وما تذخر به من مكنونات وكان الهدف من ذلك أن تقدر هذه العقول عندما تعمل على النظر في ملكوت الله والإطلاع على جليل مخلوقاته وعظيم حكمته فيهديهم ذلك إلى الإيمان بالله سبحانه ، وإن الآيات القرآنية التي تدعوهم إلى النظر والفكر لكثيرة ، وإنها لتدعوهم إلى النظر في الكون وما يمتلىء به من ناس وأشياء يقول سبحانه ( أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء ) .
ويقول : ( فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا مناعا لكم ولأنعامكم ) .
إن العرب بما هم عليه من صفات تجعلهم أنسب الشعوب لحمل أعباء الدعوة والانطلاق بها في الآفاق الجديدة من أرجاء العالم المختلفة وما كان يستطيع غير العرب أن يحملوا هذا العبء لأنهم لم تكن لهم الصفات الضرورية للدعوة من حب الخير والطواعية في الاستجابة لسلطان الدين ومن الشجاعة والقدرة على الغلبة تلك الصفات التي لم تشابههم فيها أمة من الأمم .
وإن معجزة من معجزات الدعوة الإسلامية هي التي جعلت العرب الأمة الأمية يحملون إلى العالم دين العلم والمعرفة وأمة العصبية والقبليات تحمل إلى الناس في كافة أنحاء الأرض أرقى دعوة تعلم الناس أرقى ألوان السماحة والعدالة والإنسانية العامة .
- تاريخ.doc (53.0 كيلوبايت, 389 مشاهدات)