بسم الله الرحمن الرحيم
تقرير عن الجناس جاهز
المقدمة:
عرفتَ فما سبق أن علم البيان وسيلة إلى تأْدية المعنى بأساليبَ عدة بين تشبيه ومجاز وكناية، وعرفت أن دراسة علم المعاني تُعِينُ على تأْدية الكلام مطابقاً لمقتضى الحال، مع وفائه بغرض بلاغيٍّ يفْهمُ ضمناً من سياقه وما يُحيط به من قرائن.
الموضوع:
هناك ناحية أخرى من نواحي البلاغة، لا تتناول مباحث علم البيان، ولا تنظر في مسائل علم المعاني، ولكنها دراسة لا تتعدى تزيين الألفاظ أو المعاني بألوان بديعة من الجمال اللفظي أو المعنوىّ، ويسمى العلمُ الجامع لهذه المباحث بعلم البديع. وهو يشتمل كما أشرنا على محسناتٍ لفظية، وعلى محسنات معنوية، وإِنا ذاكرون لك من كل قسم طرفاً.
المحسِّناتُ اللفظيَّة:
(1) الجنَاس
الأمثلة:
(1) قال تعالى: {ويَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ}.
(2) وقال الشاعر في رثاء صغير اسمه يَحْيَى:
إِلى رَدِّ أمْرِ اللهِ فِيهِ سَبيلُ
وَسَمَّيْتُهُ يَحْيَى لِيَحْيَا فَلَمْ يَكُن
* * *
(3) وقال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتيمَ فَلاَ تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ}.
(4) وقال ابن الفارض [1] :
لَمْ يُلْفَ غَيْرَ مُنَعَّمٍ بِشَقَاءِ [2]
هَلاَّ نَهَاكَ نُهَاكَ عَنْ لَوْمِ امْرئٍ
(5) وقالت الخنساءُ من قصيدة تَرثى فيها أخاها صخرًا:
ءُ مِن الجَوَى بَيْنَ الْجَوَانِح [3]
إِنَّ الْبُكاءَ هُوَ الشِّفَا
(6) وقال تعالى حكايةً عن هَرون يخاطب موسى:
{خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إسْرائِيلَ}.
البحث:
تأَمل الأمثلة السابقة تجد في كل مثال كلمتين تجانس إحداهما الأخرى وتشاكلها في اللفظ مع اختلاف في المعنى؛ وإيرادُ الكلام على هذا الوجه يسمى جناساً.
ففي المثال الأول من الطائفة الأولى تجد أَن لفظ "الساعة" مكررٌ مرتين، وأن معناه مرةً يومُ القيامة،. ومرة إحدى الساعات الزمانية، وفي المثال الثاني ترى "يَحْيى" مكررا مع اختلاف المعنى. واختلاف كل كلمتين في المعنى على هذا النحو مع اتفاقهما في نوع الحروف وشكلها وعددها وترتيبها يُسمى جناساً تامًّا.
وإذا تأمَّلتَ كلَّ كلمتين متجانستين في الطائفة الثانية رأيت أنهما اختلفتا في ركن من أَركان الوفاق الأَربعة المتقدمة، مثل تقْهرْ وتَنْهَرْ، ونَهاكَ ونُهَاكَ. والجَوى والْجوانحِ، وبيْن وبَنى، على ترتيب الأَمثلة، ويُسمى ما بين كل كلمتين. هنا من تجانس جناساً غير تام.
والجناس في مذهب كثير من أهل الأدب غير محبوب؛ لأَنه يؤدى إلى التعقيد، ويَحول بين البليغ وانطلاق عِنانه في مضمار المعاني اللهم إِلا ما جاءَ منه عفوًا وسَمحَ به الطبع من غير تكلف.
القاعدة:
(68) الجِنَاسُ أَن يَتَشَابَهَ اللفظانِ في النُّطْق وَيَخْتَلِفَا في الْمَعْنى. وهو نَوْعان:
(أ) تَامٌّ : وهو ما اتَّفَقَ فيه اللفظان في أمورٍ أَربعةٍ هيَ: نَوْعُ الحُروفِ، وشَكلُهَا، وعَدَدُها، وتَرْتيبُها.
(ب) غَيْرُ تَامِّ: وهو ما اخْتَلَف، فيه اللفظان في واحدٍ مِنَ الأمور الْمُتَقَدِّمة.
تمرينات
(1)
في كل مثال من الأمثلة الآتية جناس تام، فبيًن موضعه:
(1) قال أبو تمام:
يحْيا لَدى يحْيى بْنِ عبد الله
ما مات مِنْ كرمِ الزمان فإِنَّه
21) قال أبو العلاءِ المعرى:
فَلا برحْتَ لِعيْنِ الدهْر إِنْسانا
لَمْ نَلْقَ غَيْرَكَ إِنْساناً يُلاذُ بهِ
(3) قال البُسْتِىّ:
فَهمْتُ ولاَ عجبٌ أنْ أهِيما فَهمْتُ كتَابك يا سيِّدِي
(4) وقال يمدح:
رأَيْنَاها مُبدَّدَةَ النَّظَام [5]
بسيفِ الدَّوْلة اتَّسقَتْ أمُورٌ
فَليس كَمِثْلِهِ سامٍ وحامِ
سما وحمَى بنِى سامٍ وحامٍ
(5) وقال أبو نُواس:
والفَضْلُ فَضْلٌ والربيعُ ربيعُ [6]
عبَّاسُ عبَّاسٌ إِذَا احتَدَم الوغَى
(2)
في كل مثال من الأمثلة آتية جناس غير تام، فوضحه وبيِّن لم كان غير تام؟
(1) قال تعالى: {وإِذا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أو الخَوْفِ أذاعُوا بِه [7] }.
(2) وقال تعالى: {وهُم ينهوْنَ عنْهُ وينْأونَ عنْهُ}.
(3) وقال ابن جُبير الأندلسي [8] :
فِداؤُكَ نَفْسِي كيْفَ تلكَ المَعالِمُ [9]
فَيا راكِبَ الوجْنَاءِ هل أنْت عالِمٌ
(4) وقال الحريري [10] يصِفُ هُيام الجاهل بالدنيا:
بهَا وفَرْط صَبَابَهْ [11]
ما يستَفِيقُ غراماً
مِمَّا يَرُوم صُبابَه [12]
ولَوْ دري لكَفاهُ
(5) وقال عبد الله بن رواحةَ [13] يمدح النَّبىَّ صلَّى الله عليه وسلم، وقيل إنه أمدح بيت قالته العرب:
بالبُردِ كالبدْرِ جلَّى نُورُهُ الظُّلَمَا [14]
تحْمِلهُ النَّاقةُ الأدْماءُ مُعْتَجِرًا
(3)
بيِّن مواضع الجناس فيما يأْتي وبين نوعه في كل مثال:
(1) قال البحترى فى مطلع قصيدة:
أمْ لِشاكٍ مِن الصَّبابةِ شافي
هلْ لِما فات مِن تَلاَقٍ تلاَفى
(2) وقال النابغة في الرثاء:
جدِيدُ الرَّدَى بيْن الصَّفا والصَّفائح [15]
فَيالَك مِنْ حزْمٍ وعزْمٍ طَواهُما
(3) وقال البحترى:
وصوْبُ المُزْنِ في راحٍ شمول [16]
نَسِيمُ الروضِ في ريحٍ شمالِ
(4) وقال الحريرى:
ولا أَغْرِسُ الأَيادِى في أَرض الأداري.
لا أُعْطي زمامي من يُخْفرُ ذِمامي [17]
(5) وقال: لهم في السيْر جرْىُ السَّيْل، وإِلى الخَيْر جَرْى الخيل.
(6) قال البحترى:
وسِرْ مُبْعِدا عنْهُنَّ إِن كنتَ عاذِلا
فَقِفْ مُسْعِدًا فِيهنَّ إِنْ كُنْتَ عاذِراً
(7) وقال أبو تمام:
مُتُونِهن جلاءُ الشَّكِّ والريبِ [18]
بيضُ الصفَائح لا سُودُ الصَّحائِفِ في
(8) وقال تعالى:
{ذلِكُمْ بما كُنْتُم تفْرحُون في الأرض بغَيْر الحق وبما كنْتُم تمْرحون [19] }.
(9) وقال عليه الصلاة والسلام:
"الخيلُ معقودٌ بنواصيها الخيْر" [20] .
(10) وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
نَصِلْ جانِبيْهِ بالقَنا والقَنَابِل [21]
وكنَّا متى يغْزُو النبىُّ قبيلة
(11) وقال أبو تمام:
تصُول بأسيافٍ قواضٍ قَواضِبِ [22]
يمدُّونَ مِنْ أيْدٍ عواصٍ عواصمِ
(12) لا تُنالُ الغُرَرُ إِلا بركوب الغرَر [23] .
(4)
هات مثالين من إنشائك للجناس التام، ومثالين آخرين لغير التام، وراع ألاَّ يظهر في كلامك أَثر للتكلف.
(5)
اشرح قول أبي تمام وبين نوع الجناس الذي فيه:
مغارمَ في الأَقوام وهْيَ مغانم [24]
ولمْ أر كالْمعْرُوف تُدْعَى حُقُوقُهُ
هو أبو حفص عمر بن على بن مرشد، أشعر المتصوفين، أصله من حماة، ومولده. في القاهرة، وله ديوان شعر، وتوفي بمصر سنة 632 هـ وقبره معروف يزار.
[2] النهى: جمع نهية وهي العقل، ويلفى: يوجد.
[3] الجوى: الحرقة وشدة الوجد، الجوانح: الأضلاع التي تحت الترائب وهى مما يلي الصدر كالضلوع مما يلي الظهر، والواحدة جانحة.
[4] يلاذ به: يلجأ إليه، وإنسان العين: المثال الذي يرى في السواد.
[5] اتسقت: انتظمت.
[6] عباس في أول البيت هو عباس بن الفضل أنصاري، قاض من رجال الحديث، ولي قضاء الموصل في عهد الرشيد وتوفى بها سنة 186 هـ، وكلمة عباس الثانية صيغة مبالغة من عبس وجهه إذا كلح وتجهم. والفضل الأول هو الفضل بن الربيع بن يونس وزير الرشيد ثم وزير الأمين، والفضل الثاني الشرف والرفعة. والربيع الأول هو الربيع بن يونس وزير المنصور العباسي، والربيع الثاني الخصب والنماء.
[7] يقول: إذا جاء ضعفاء الإيمان نبأ نصر أو هزيمة أفشوه ونشروه.
[8] رحالة عني بالأدب وبلغ الغاية فيه، وتقدم في صناعة القريض والكتابة، وأولع بالأسفار, ومات بالإسكندرية سنة 614 هـ.
[9] الوجناء: الناقة الشديدة.
[10] هو أبو عبد الله محمد القاسم صاحب المقامات الحريرية، كان أحد أئمة عصره ورزق الحظوة التامة في عمل المقامات. ومن عرفها حق المعرفة استدل بها على فضل الرجل وغزارة مادته وكثرة اطلاعه. وله غيرها تآليف حسان، توفى بالبصرة سنة 510 هـ.
[11] الصبابة بالفتح: حرارة الشوق.
[12] الصبابة بالضم: بقية الماء في الإناء.
[13] صحابي جليل وشاعر من الشعراء الراجزين، شهد غزوات كثيرة، واستخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة في إحدى غزواته، ومات سنة 8 هـ.
[14] الناقة الأدماء: الشديدة البياض، والمعتجر: الملتف، وجلي: كشف.
[15] الصفا: الحجارة، الواحدة صفاة، والصفائح: حجارة رقاق تبلط بها الدور وتسقف بها القبور.
[16] الصوب: نزول المطر،والمزن: جمع مزنة وهي السحابة البيضاء، والراح: الخمر، والشمول: الخمر تنفحها ريح الشمال، يصف البحترى بذلك أخلاق ممدوحه.
[17] يخفر ذمامي: ينقض عهدى.
[18] بيض الصفائح: كناية عن السيوف، وسود الصحائف: الكتب، ومتن السيف: حده.
[19] المرح: شدة الفرح.
[20] النواصي: جمع ناصية وهي مقدم الرأس.
[21] القنا: جمع قناة وهي الرمح.
[22] عواص: جمع عاصية عن عصاه ضربه بالسيف أو العصا، وعواصم: عن عصمه إذا حفظه وحماه، وقواض من قضى عليه إذا حكم، وقواضب: من قضبه إذا قطعه.
[23] الغرر: بالضم غرة، وغرة كل شيء أوله، والغرر بفتحتين: الخطر.
[24] المغارم: جمع مغرم وهو ما يلزم أداؤه، والمغانم: جمع مغنم وهو الغنيمة.