يهدد مرض التوحد (الأوتيزم) سلامة ناشئتنا النفسية والبدنية، فهو شائع منتشر، يزداد تفشيا بين الأطفال، وتبدو على ضحاياه أعراض سريرية متنوعة، كالاضطراب في الانتباه والإدراك وضعف العلاقات الاجتماعية وفقر الرصيد اللغوي وقصور في فهم التعليمات اللفظية، وإفراط في النشاط الحركي مع ضعف في التحكم في الحركات الدقيقة وغير ذلك من الأعراض التي يمكن اعتبارها من مظاهر الفصام المبكر الذي يؤشر لتطورات خطيرة وينبئ بمزيد من التردي للأحوال النفسية والبدنية للمرضى خاصة عند بلوغ سن المراهقة.
وتكاد تجمع الدراسات التي أنجزت حول هذا المرض إلى أن بعض أسبابه ترتبط بأنماط التفاعل الأسري غير السوية، بحيث أن الصبي الذي يعيش في كنفها يفتقد الشعور بالتوافق النفسي والانفعالي، وحرصه على تحقيق هذا التوافق يعاق بالعجز عن بلوغه، ومع تكرار فشل محاولاته يصاب بالإحباط والاكتئاب النفسي، ثم ينسحب من هذا التفاعل المنفر وينكفئ على ذاته ويغوص في عالمه الخاص.
فالتفاعل الأسري الذي يتميز بضعف عام في التواصل الاجتماعي بين أفراده يؤدي إلى تنشئة أطفال قلقين معرضين دوما للإصابة بالأمراض والاضطرابات النفسية والجسدية، والتواصل الفعال هو الذي يستثمر المهارات اللغوية والإدراكية للطفل وينميها ويغذيها، بينما إذا كانت العواطف جافة وباردة والتواصل اللفظي ناقصا فإن ذلك ينذر بالاضطراب النفسي.
والتحدث يأخذ مكانا رئيسا في عملية التواصل الاجتماعي، وهو في نفس الوقت فعال في التأثير على تفكير الأطفال وقدراتهم العقلية ونموهم الانفعالي والوجداني، لأن القدرة على التحدث تستدعي مهارات التعبير اللفظي من تسمية الأشياء بمسمياتها، واستعمال أدوات الربط اللغوي، وأساليب النداء والتعبير المختلفة، وغير ذلك، كما قد تستدعي مهارات التعبير غير اللفظي التي تنقل الأحاسيس والمشاعر مثل الإشارات ونظرات العين وقسمات الوجه وحركات اليدين وغيرها، التي تضفي الطابع الشخصي الخاص على التعبير اللفظي وتشترك معه في نقل الرسائل الاتصالية بفعالية وقوة.
ومما يلاحظ على الأطفال القلقين المتوحدين أنهم يجدون صعوبات جمة في عملية الاتصال الاجتماعي، وكل موقف اجتماعي يتعرضون له يتطلب تفاعلا واختلاطا ومبادلة للعلاقات، يسبب لهم حرجا وألما نفسيا وقلقا وتوترا شديدا، فيحرصون على تجنبه والهروب منه والانكفاء على الذات كملجأ وحيد وآمن؛ فهم لا يستطيعون التصريح بما نرغب في معرفته عنهم، كما لا يستطيعون الإدلاء بحجج منطقية أو الدفاع عن وجهات النظر بالأساليب الفكرية أو اللفظية التي يمكن أن تعيننا في سبيل مساعدتهم وتقديم العون الضروري لهم وإعادة إدماجهم والتخفيف من قلقهم وحدة توتراتهم؛ فهم غالبا ما يقضون وقتا أكبر في اللعب الإيهامي الفردي.
ولمساعدتهم على التخفيف من حدة قلقهم وتوحدهم، لم يوجد خيرا من اللعب التمثيلي كوسيلة وحيدة وفعالة في تعديل سلوكهم والتخفيف من حدة توترهم، وما يضفي مزيدا من الأهمية والقيمة على هذه الوسيلة، هو أن هؤلاء الصبيان يميلون إلى مثل هذا اللعب وينغمسون فيه بسرعة وتلقائية.
ويجب أن يتوقع المتعامل مع الأطفال المتوحدين صعوبة كبيرة في المراحل الأولى إذا ما رغب في حمل هؤلاء الأطفال على الانخراط في مسرحيات تمثيلية يشتركون في لعب أدوارها مع غيرهم من الأطفال، فالمتوحدون يعدون هذا الدفع إكراها لهم، فيمتنعون عن الاشتراك بالتلقائية المطلوبة، مما يحول دون تحقيق الأهداف المتوخاة من العملية، إذ سرعان ما يعودون إلى الانكفاء على ذاتهم بعد نهاية اللعب، ويزيد من ميولهم التوحدية.
فبدلا من حمل الأطفال على الاشتراك القسري في التمثيل ضمن فريق من التلاميذ، يستحسن الاقتراب منهم واختراق عالمهم بالاشتراك معهم في ألعابهم الإيهامية التي يميلون إليها، وشيئا فشيئا يتم ولوج دائرة الأطفال بما يحقق معهم التجاوب والاتصال الثنائي، عندها يمكن أن نطلب منهم وبشكل تدريجي لعب أدوار انفعالية يقلدون فيها الأشخاص الذين يتأثرون بهم ويثيرون فيهم الانفعالات المختلفة المفرحة أو المقلقة، ومن خلال هذا اللعب نستطيع تمييز عوامل القلق عندهم.
فضلا على ذلك فإن هذا الأسلوب يفيد في تغيير اتجاهات الأطفال الذين عبروا عن مستويات عليا من القلق، بتغيير وجهات رأيهم السلبية حول قضايا مختلفة، مثل قضايا المخالطة الاجتماعية وقضايا الحياة المدرسية وقضايا التفاعل العائلي، وذلك بأن نطلب منهم ارتجال الحجج والبراهين المؤيدة لوجهات النظر المخالفة لوجهات نظرهم الأصلية، فيصبحون متحفزين للتفكير في كل النقط الجدلية المؤيدة لوجهات النظر الأخرى ويدافعون عنها، ويعدلون أفكارهم السابقة ويتقبلون الأفكار الجديدة بسهولة؛ وتلك خطوة أولى نحو تعديل سلوكهم وتصرفاتهم واستجاباتهم التي تحول دون تحقيق تفاعلهم الاجتماعي السليم.
من خلال هذه الألعاب يجد الأطفال المتوحد والقلقون مسربا للتعبير عن ذاتهم، ويتدربون على مجابهة الصعوبات التي تحول دون تفاعلهم وتواصلهم الاجتماعي اللغوي والعاطفي، ويتعلمون السلوك الاجتماعي وتتوثق صلاتهم بأصدقائهم المتعلمين، وبمعلميهم وسائر أفراد محيطهم الدراسي والعائلي، ويتخلصون من الشعور بالكآبة وكثير من مشاعر القلق والنقص التي تكون ملازمة لهم.
فالتمثيل عمل جماعي يقتضي إشراك الآخرين والتعاون معهم ومراعاة أدوارهم ووظائفهم وتقديرها ومبادلتهم المشاعر والعواطف، ومن هذا الباب يعتبر خير وسيلة لتدريب الطفل المتوحد على العمل والسلوك الجماعيين ووسيلة فعالة لتحقيق إدماج وتكيف اجتماعي سليم.
م
نفع الله به