إن حرب البسوس هي من أشد الحروب التي وقعت بين العرب في قديم الزمان،فقد ظهرت فيها شخصيات بطولية كثيره من بينهم الزير سالم البطل المغوار الذي شاع ذكره في الأقطار وأذل بسيفه كل عدو جبار .فهي حرب شديدة وقع فيها الكثير من الوقائع المهولة والمريعة ، وأشعار العرب أهل الفضل والأدب وذكرت ما حصل بين كليب وحسان وجساس وما وقع عليهم من حرب البسوس والملك برجيس وغيرها من الأهوال..
سبب وقوع الحرب:
أخذت عجوز طاسة من الفضة و ملأتها من المسك و الزباد و العطر و خفقت الجميع في بعضهم البعض و عمدت إلى ناقتها الجربانة و أخذت تطلي أجنابها و تدهنها بذلك الطيب ثم أمرت بعض العبيد أن يأخذها إلى المرعى و يمر فيها بالقرب من صيوان جساس في الصباح و المساء ، و استنشق جساس الرائحة الطيبة فتعجب و كان قد نظر إلى العبد و تلك الناقة فأمر بإحضار العبد و كان يظن تلك الرائحة عابقة منه و لما حضر و إذا رائحته كريهة جداً فسأله عن تلك الرائحة، فلم يجب فاستدعى العجوز فحضرت ثم سألها عن قضية الناقة فأخبرته أنها فيها خواص غريبة فإن بعرها من المسك و بولها من العطر و عرقها من الزباد ، فتعجب جساس غاية العجب ، فأمرها أن ترسلها إلى المراعي مع نوقه و جماله لكي ترعى، فأخبرته أن ناقتها لا تأكل إلا من الرياحين و زهرة البساتين فأمرها أن تطلق ناقتها لترعى من أحسن البساتين. فراحت العجوز و انشرح صدرها ثم خرجت من عنده فأمرت عبيدها أن يأخذوا الناقة و يتركوها ترعى من البستان المعروف بحمى كليب و أن يجعلوها تهدم الحيطان و تقطع الأشجار و تأكل الأغصان و إن اعترضهم أحد يشتموه و يسبوه و إذا اقتضى الأمر يقتلوه. فجاء رجل إلى كليب و أعلمه بواقعة الحال فاغتاظ غيظاً شديداً و جاء إلى البستان و معه أربعة غلمان فرأى العبدين أحدهما جالس على سريره الذي يجلس عليه وقت النزهة ، و الآخر داير مع الناقة بين الزهور و هو يسب كليب. فركض غلمان كليب على العبدين ليقبضوا عليهما، فتركا الناقة و هربا فأحضر الغلمان الناقة لكليب فأمر بذبحها فذبحوها و طرحوها خارج البستان. ثم أخذت العجوز جلد الناقة و سارت بها إلى عند الأمير جساس فحدثته بالقصة فاغتاظ جساس على ما فعله ابن عمه كليب فصمم على الانتقام ثم قتله فهاجت بمقتله حرب البسوس.(1)
موت كلـيب:
عندما اشتهر موت كليب و وصل الخبر إلى أبياته و لمت بذلك جميع أهله فمزقوا الثياب و أكثروا من البكاء و الانتحاب فتهتكت الوجوه الملامح و وقع في الحي العويل و الصياح ، و كسرت الفرسان السيوف و الرماح، و خرجت بنات كليب من الخدور و هن مهتكات الستورناشرات الشعور حافيات الأقدام يقطعن السهول و الآكام و قدامهن اليمامة، و كان ذلك اليوم مثل يوم القيامة، و لما وصلن إليه وجدن الطيور حائمة عليه فوقعن على جثته و قبلن يديه و ارتمين حوله، و لما قرأن ذلك الشعر الذي كتبه على الصخرة زادت أحزانهن و أخذن يلطمن على وجوههن، ثم أقبلت أخوة كليب إلى ذلك المكان و ازدحمت الرجال و النسوان و الأبطال و
الفرسان و السادات و الأعيان يرثونه بالأشعار و جرت دموعهم كالأنهار. و ابنته اليمامة علمت أنه لا يوجد من يأخذ بثأرها و يطفي لهيب نارها سوى البطل الأوحد و السيف المهند و الضحضاح الشهير الذي ليس له نظير عمها المهلهل الملقب بسالم الزير، فسارت إليه هي و أخواتها.(2)
ما قبل الحرب:
و لما بلغ بني بكر هذا الخبر اعتراهم القلق و الضجر و خافوا من العواقب و حلول النوائب، فجمعوا المواكب و الكتائب و سار بهم الأمير مرة إلى وادي الذئاب و هو مكان شهير يبعد ثلاثة أيام عن قبيلة الزير.
و هناك انضمت إليهم بعض القبائل من العربان فكانوا نحو ثلاثمئة ألف و أقاموا في ذلك المكان. و لما سمع الزير برحيل مرة و أولاده إلى تلك الديار قال: لا بد أن أقتفي الآثار و أفني الكبار و الصغار، ثم أمر القائد الصغير بسرعة المسير فامتثلوا ما أمر و فعلوا ما ذكر، و في الحال دق الطبل الرجوج فارتجت منه السهول و المروج، و هو الطبل الذي كان لتبع حسان، و لم تكن إلا ساعة من الزمان حتى ركبت الأبطال و الفرسان و ركب المهلهل متسربلاً بالسلاح كأنه ليث الغابة و على رأسه الرايات و من حوله القواد و الجنود، فعند ذلك سارت المواكب قاصدة وادي الذئاب و ما زال العسكر يقطع البر الأقفر إلى أن أشرف على تلك الديار. و في اليوم الثالث في منتصف النهار لما قرب المكان و انكشف للعيان و رآه الأمير مرة و من معه من الرجال و الفرسان قالوا: لقد أقلب علينا الزير بالجموع و الفرسان و المشاهير و اليوم تباع الأرواح بيع السماح، و في الحال انتخب الأمير مرة ألفاً من الأبطال و أرسلهم لملاقاة الأعداء في تلك البيداء، و كان المقدم عليهم ابنه الأمير جساس و جماعة من عظماء الناس، فسار الجحفل طالباً جيش المهلهل ثم فرق ألفاً أخرى في الصحراء و قدم عليها ابنه همام و حثهم على الحرب و الصدام، و أقام هو و باقي العسكر على الجانب الأيسر إذا انكسرت الفرقتان يحمل بمن معه من الفرسان. و لما شاهد المهلهل تلك الحال و انقسام الرجال و الأبطال قسم عسكره ثلاثة أقسام و تقدم و لما اقتربت العساكر من بعضها البعض و انتشرت جموعها في تلك الأرض حملت الفرق على الفرق و الجيش على الجيش قد انطبق، و قصد المهلهل فرقة الأمير مرة بعشرة آلاف من أهل الشجاعة و اشتبك القتال. (1)
حرب البسوس بين بكر وتغلب:
و لما أصبح الصباح و أضاء بنوره و لاح ، تبادر العساكر إلى ميدان الحرب و الكفاح و اصطفت الفرق إلى صفوف و ترتبت المئات و الألوف و تأهب المهلهل للحرب و الطعان فركب ظهر الحصان و تقدم في معركة الطعان و تبعه امرؤ القيس ابن أبان و سائر الأبطال و الفرسان بقلوب أقوى من الصوان، و ركب الأمير مرة و بقية الفرق و تمنطقوا بالسلاح و الدرق و دقت الطبول و صهلت الخيول و ارتفعت الرايات على رؤوس الأمراء و السادات من جميع الجوانب و الجهات، و هجم كل فريق على فريق و تقاتلوا بالسيوف و المزاريق و التقت الأمم و قام الحرب على ساق و قدم. و ما مضى ساعة من النهار حتى اشتد لهيب النار و طلع قتام الغار و انذل الجبان و حار و ارتفع الصياح و علا و ارتجفت أقطار الفلا و لبست الأرض من الدماء حللاً و عظم البلا و الويل و عاد بياض النهار كسواد الليل. و اقتحم المهلهل صفوف الأعادي كأنه ليث البوادي و جال الميامن و المياسر و طعن بهم طعناً يذهل النواظر و يحير العقول و البصائر و هو يقول: يا لثار كليب مهجة فؤادي و من كان سندي و اعتمادي. و لما طال المطال أشفى غليله من قتال الأبطال
و قال:
ذهب الصلح أو تردوا كليباً أو نبيد الحيين بكراً و ذهلاً
ذهب الصلح أو تردوا كليباً أو أدق الرجال قهراً و ذلاً
ذهب الصلح أو تردوا كليباً أو تعم السيوف شيبان قتلاً
فانذهلت الفرسان من هول قتاله و حربه و نزاله و ما زال الحرب يعمل و الدم يبذل و الرجال تقتل إلى أن ولى النهار و ارتحل و دخل الليل و أقبل، فرجع الأمير المهلهل بباقي الجيش و الجحفل، و جميع أكابر عشيرته و أهله و إخوته يتحادثون فيما يجري و يكون، فاستقر الرأي على سرعة الإنجاز و الجهاد في الحرب و البراز قبل أ يطول الأمر و تفوتهم الغلبة و الظفر، ثم أكلوا الطعام و باتوا في الخيام. و لما طلع النهار و أشرقت الشمس بالأنوار تأهبوا للحرب و الكفاح فتقلدوا بالسيوف و الرماح و دقوا الطبول و ركبوا ظهور الخيول و تقدمت الفرسان و الأبطال إلى ساحة القتال و كذلك فعل الأمير مرة و الأمير جساس و من يلوذ بهم من عظماء الناس، و التقت العساكر و تقاتلوا بالسيوف و الخناجر، و كان الأمير المهلهل في أول الجحفل فصاح و حمل و التقى الفرسان بقلب أقوى من الجبل و هو يهدر كالأسد و يضرب فيهم بالسيف المهند. و كان كلما قتل فارساً يقول : يا لثارات كليب، فقصدته الأبطال من اليمين و الشمال و هو يضرب فيهم الضرب الصائب و لا يبالي بالعواقب حتى مزق الصفوف بحملاته و فرق الألوف بطعناته، و ما انتصف النهار حتى قتل مائة بطل كرار و كانوا من الأبطال و الفرسان المعدود. و كذلك فعل امرؤ القيس بن أبان و باقي القواد و الشجعان و ما زالوا على تلك الحال إلى أن ولى النهار و أقبل الليل بالاعتكار فارتدوا عن الحرب و الصدام و رجعوا إلى المضارب و الخيام. و كان قد قتل من عرب جساس في ذلك النهار عشرون ألف بطل كرار و من عرب المهلهل نحو ثلاثة آلاف بطل، و لما أصبح الصباح استعد الفرسان للحرب و الكفاح فركبوا ظهور الخيل و تقاتلوا بالسيوف و النصول و هجم المهلهل على الفرسان ثم حمل على الكتائب و أظهر الغرائب و العجائب و قتل كل شجاع غالب، و ما زال القوم في حرب و صدام و قتل و خصام مدة ثلاثة شهور
حتى أشفى الزير غليله من بني بكر و قتل منهم كل سيد جليل و فارس نبيل و كان عدد من قتلهم في تلك الوقائع نحو مائة ألف مقاتل ما بين فارس و راجل و قتل من جماعة الزير نحو عشرة آلاف بطل، فلما رأى جساس ما حل بقومه من النوائب خاف من العواقب و علم أنهم إذا ثبتوا أمامهم يهلكون هلاك الأبد و لا يبقى منهم أحد فولى و طلب لنفسه الهرب مع باقي طوائف العرب.
ما بعد الحرب:
غنم الزير غنائم كثيرة و أموالاً وفيرة ثم رجع مع الفرسان إلى الأطلال في أحسن حال و أنعم بال و نزل في قصر أخيه، و صارت ملوك العرب تكاتبه و تهاديه و كان يترقب الأوقات للحرب و الغزاة فشكرته اليمامة على ما فعل و قالت : لا عدمتك أيها البطل فإنك أخذت الثأر و طفيت لهيب النار و رجعت بالعز و الانتصار. فشكرها على هذا الكلام و قال : و حق رب الأنام لا يشفى فؤادي و لا يطيب لذيذ رقادي حتى أقتل الأمير جساس و أجعله مثلاً بين الناس و هذا الأمر سيتم عن قريب بإذن السميع المجيب.
مقتل جساس:
حين قتل جساس كليب كانت الجليلة حامل فلما طردها الزير إلى بيت أبيها و سكنت عند جساس أبيها فولدت غلاماً سمته "الهجرس" و لقبوه بـ" الجرو" فكان مع أخواله بني مرة وأولادهم و كان خاله يحسن إليه فبعد أن كبر الهجرس كان يظن أن شاليش أباه و لكنه علم بعد ذلك أن شاليش خاله و علم بمقتل أبيه كليب ثم ذهب إلى أمه فلما عرفت بأن الخبر وصل إليه و لم يعد خافياً عليه، أعلمته بالقصة من أول إلى آخرها و أوقفته على ظاهرها و باطنها فلما فرغت الجليلة أمه بكى الجرو بكاء شديداً و لام أمه على كتمان الأمر ثم إنه صبر إلى الليل حيث ركب بالعجل إلى عمه المهلهل و في أثناء الطريق رأى الجرو قصر أبيه و قبره المصفح بالذهب ، و عند وصوله إلى عند عمه دخل عليه و قبل يديه و اجتمعت شقايقه و أقاربه فوقعوا عليه و ترحبوا به و كان الزير أفرح الخلق به و لما استقر به الجلوس قال الجرو لعمه الحمد لله الذي جمع شملنا بعد الشتات فوالله العظيم رب موسى و ابراهيم لا تزول أحزاني يا عم حتى آخذ بثأر أبي و أقطع رأس جساس و أجعله مثلاً بين الناس فشكره جميع أهله و أعمامه فأخبر الجرو عمه المهلهل بالحيلة التي خططها لقتل جساس فسأله ما هي فأجابه الجرو إني أغير عليكم نهار غد و آخذ نوقكم و جمالكم و أخبره بأني أتيت اليوم بأموالهم و مواشيهم و غداً أجيئ إليك برأس الزير ثم أبرز لأحاربك و تكون أنت واضع قربة من الدم تحت جانبك الأيمن فأطعنك بالرمح فخذه تحت إبطك و ألقي نفسك على الأرض فتنشق القربة و يهرق الدم و أنا أصيح على جساس و أخبره أني قتلت عدوك يا خالي تقدم إليه و اقطع رأسه فقد ذهب القدر و بلغني اليوم الوطر، و عندما يأتي عليك فتقول إليه بالعجل و تعدمه الحياة و هو لا يعلم بقدومي عليكم و بهذه الوسيلة تتم الحيلة، فاستصوب الزير رأيه ثم ودعه و سار وحده إلى ديار بني مرة و رأى جساس في تلك الليلة حلماً غريباً أبصر أنه ربى ذئباً كان يوده و يحبه فلما انتشى و ترعرع تصاحب مع سبع كاسر فألفه إلى أن كان في بعض الأيام أغار السبع على مواشي بني مرة و هجم على نسائهم و أولادهم و جعل يفترس كبارهم و صغارهم، كان الذئب يساعده عليهم فاغتاظ جساس من أفعال الأسد فسل السيف و هجم عليه يريد قتله و إعدامه فوثب عليه الذئب من ورائه و نهشه فألقاه صريعاً على الأرض. فقام جساس مرعوباً من هذا الحلم، و لما أصبح الصباح ركب الزير يطلب الحرب و الكفاح و ركب الأمير جساس و هو في قلق و برأسه وسواس و كان الجرو قد وعد بهلاك القوم وقتل المهلهل.و في ذلك اليوم التقى الفريقان و برز الجرو إلى ساحة الميدان فبرز إليه الزير فالتقاه الجرو و طعنه بالرمح طعنة كاذبة فسحبها الزير من تحت إبطه فراحت خائبة و ألقى نفسه على الأرض من ظهر الحصان خديعة على عيون الفرسان(2)
ليظهر لهم أنه قد مات و حلت به الآفات. فعند ذلك صاح الجرو بأنه نال المراد بقتل الزير الذي أهلك العباد، ثم نادى الجرو خاله جساس ليقطع رأس عدوه فلما رأى جساس الزير يتخبط بدمه تقدم و نزل عن القميرة و هو يظن أنه قد بلغ غابة مراده و لما اقترب نته نهض الزير على قدميه و قبضه من لحيته و هجم الجرو أيضاً عليه و وضع الرمح على كتفيه، فعند ذلك علم جساس بأنها حيلة قد تمت عليه و تأكد عنده صحة المنام فـأخذ يخاطب الجرو و يتوسل إليه بأن يعفو عنه فصاح الجروو قال لا بد من قتلك كما قتلت أبي فعند ذلك طعنه الجرو بالرمح في صدره خرج يلمع من ظهره فتقدم الزير و قطع رأسه ثم وضع الزير فمه على عنق جساس و شرب دمه و كان الجرو ينهش في لحمه حتى بلغ مراده و شفي فؤاده و سلموا رأس جساس إلى بعض العبيد ليعطوه إلى إخوته و هجم مع قومه في بالقي الأبطال على بني مرة في الحالو أذاقوهم الوبال و بلغوا منهم الآمال ، و لما علم بنو مرة بقتل جساس أيقنوا بالموت لأنه كان القائد الأكبر و عليه الاعتماد في الحرب فولوا الأدبار و ركنوا إلى الفرار و أما الذين سلموا منهم فإنهم طلبوا الأمان من الزير و الجرو فأجاروهم و عفوا عنهم.
الخاتمة:
تميزت القبائل العربية دائما بالرغبة في الغزو والثأر كذلك كما حدث بين قبيلتي بكر وتغلب في حرب البسوس ، فقد جاءت هذه الحرب مليئة بالأحداث والمشاهد البطولية وجاءت أيضا مليئة بالقصائد الشعرية التي تتميز بطابع خاص في اختيار الألفاظ والمعاني المناسبة والصور الملائمة التي تتفق مع الأحداث، وأخذ الناس يبحثون في بطون التاريخ عن أبطالهم اللذين سجلوا أروع الإنتصارات على الأعداء ، علهم يستلهمون منهم البطولة والشجاعة ، ويعيدون لأمتهم فخرها وعزها ومجدها وكرامتها..