بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
{الادب العربي وانواعه }
نهر يستقى ماؤه من ظلال الكلمة العربية
هنا وفي كل عدد تجد أيها القارئ
قلم عربي معاصر ينير الفكر
خالدة سعيد
مدخل حول حركة الشعر الحديث
إذا حددنا حركة الشعر الحديث بأنها مجرد تغيير طرأ في أشكال الشعر فبعثر عمود الخليل وأزال القافية وسخر من فنون البديع والبيان المعروفتين نكون قد أخطأنا فهم هذه الحركة.
لكي لا تأتي نظرتنا إلى حركة الشعر الحديث جزئية يجب أن ننظر إليها كظاهرة لحركة كبيرة شاملة تشهدها حياتنا المعاصرة تتجلى بالثورة على الأسس والمفاهيم التي استقرت عليها طويلا. لنتذكر في هذا المجال التطور الذي لحق بوضع المرأة الاجتماعي والهزة التي أحدثها، لنتذكر أن النساء اضطررن أحيانا للتظاهر وتمزيق الحجب أمام دور الحكومة، كما اضطررن لتقبل شلالات المياه القذرة ترشق بها وجوههن مع سيول الشتائم والاتهامات بالخروج على الدين والأخلاق. لنتذكر أيضا ما كانت عليه فكرة الحرية الشخصية وما صارت إليه، وليس انتقال السلطة الفعلية والمعنوية من أيدي المشايخ والباشوات إلى أيدي الشعب أمرا مستقلا عن هذه الحركة. كان الغني غنيا والفقير فقيرا لحكمة نجهلها. كان الإنسان مخلوقا مكبلا ألقي به في هذا العالم ليمثل دورا أنيط به ثم يمضي كما جاء دون أن يكون غاية في ذاته، دون أن تكون لإنسانيته قيمة كبيرة. كان السلطان يحكمنا بإذن الله وبإذن الله كنا له نعاجا، وكان الله حبيس المعابد. كان الإنسان يباع ويشترى لأن رجلا من الناس يملك ورقة تثبت ملكيته له. وكان الشعر سجين البحور الستة عشر يأتمر بأمر الخليل الذي وهب يوما القدرة على تحديده. كان الشعر ابن البدوي الأول الذي وهب وحده حرية التعبير عن نفسه ثم حكم علينا أن نكون تابعين للموهوب الأول، لأنه ليس في إنساننا الجديد ما يستحق أن يعبر عنه بشكل آخر.
لو أن الشعر الحديث ثورة على الشكل وحسب لكان فقد مبرراته؛ ولكن موقف الشعر الحديث من العالم موقف مختلف. كان الشعر العربي القديم متفرجا على العالم اكتفى بوصف ظواهره وغنى انعكاسات هذه الظواهر السطحية. لم يكن الشعر عنده مغامرة تطمح إلى أن "تفسر العالم وتغيره" كما يرى بدر شاكر السياب، وإلى "أن تجعل ما يفلت من الإدراك العقلي مدركا" أو أن تكشف عن "عالم مجهول لم يعرف بعد" كما يرى أدونيس.. رسالة الشعر اليوم غيرها بالأمس.
فهذه القوة الغامضة السحرية التي أريد لها حين نشأتها أن تكون تعاويذ مبهمة، أو أحجية، وكلاما خاصا معجزا، وسفرا شفويا (بإطار من مفاتيح التذكر) لأمجاد القبيلة أو الحزب، ثم حداء ناقة "إكليلا للمرأة" و "تصعيدا للمواقف" هذه الأداة عينها تقفز اليوم لتكون جسرا بين واقع الإنسان المادي العلمي وبين الروح والقوى الغيبية التي احتضرت في هذا الزمن، بين عالمنا المكشوف وعالم الإنسان الخبيء خلف منعطفات الخيال والذاكرة.
يوم كانت للأشياء أرواح وإرادة، يوم كان العالم مملكة الآلهة الجميلة والشريرة، وكانت أحداثه صراعا بين هاتين القوتين، كان الشعر مبثوثا في العالم وكان الشعراء رواة لهذا الصراع. ويوم عاد العالم تفاعلا كيماويا باهتا، يوم تقلص ظل الآلهة وعاد القمر كتلة حجرية بلا روح، والمطر تكاثفا لبخار الماء، غدا الإنسان وحيدا وسط عالم جامد، فلا آلهة تستمع صلواته وتشاركه الهم والفرح، ولا آلهة تدبر شؤون وتمطر له المنّ والسلوى أو الطير الأبابيل، يومئذ أصبح على الشاعر أن يعيد الروح إلى الأشياء، أن يحمل قلق الإنسان وخيبته وشكوكه وتناقضات حياته، أن يكون نبي عصره الذي يقف بين الجموع يحدث الآلهة ويوحي إلى الناس بحديثها. ولذا نرى أدونيس يعتبر الشعر الحديث "رؤيا"؛ أما بدر السياب فيقول: "لو أردت أن أتمثل الشاعر، لما وجدت أقرب إلى صورته من الصورة التي انطبعت في ذهني للقديس يوحنا، وقد افترست عينيه رؤياه، وهو يبصر الخطايا السبع تطبق على العالم كأنها أخطبوط هائل".
وهكذا لم يعد الشعر خطابا يمدح السلطان، ولا "حلية لصدر أنثى" ولا افتخارا بمآثر القبيلة. إن أحب الحديث فلا يتغزل بعينين وثغر ونهد، بل يضعنا أمام المصير الذي ينتزع كيانين من وحدتهما، أمام هذه التجربة الأزلية التي تتجدد، أمام هذا القلق الفرح الدائخ الذي يجري في العروق.
وبالطبع لا بد لهذه الرؤيا الجديدة، لهذه المغامرة التي تخلت عن النظرة والمواقف القديمة من أن تتخلى بالتالي عن كل الشروط الشكلية المسبقة، لا بد لها من أن ترفض النظرة القديمة إلى الشكل وإلى الجمال أصلا. وقد تخلى عصرنا بدوره عن كل الأشكال التزيينية؛ تخلى عن المثال اليوناني- الروماني للجمال الذي تجلى في التناسق والانسجام والفخامة، تخلى عن فكرة النموذج الطبيعية. لقد رفض الفن أن يكون آلة لا قطة،، ورفض الشعر أن يكون بناء هندسيا- صوتيا. اللوحة الحديثة أو التمثال الحديث نموذج فرد لرؤية مبدعها وليست نسخة عن نموذج جامد في الطبيعة. لقد اقتضى منطق التطور أن يتخلى الفن عامة عن القواعد والتقنيات التي جهد عصر النهضة في بنائها، فانطلقت القصة من أسر العقدة، وتخلى التصوير والنحت عن علم التشريح. فالشكل الحديث عامة يتجه نحو رفض القوالب، نحو الحرية وهي غير الفوضى.
ولنذكر أن التعقيد والزخرف اللذين لحقا قوالب الشعر في أواخر العهد العباسي كانا يرسمان الخط البياني المنحدر الذي أوصل الشعر إلى عهد الانحطاط. التلهي بالزخارف والشكليات كان بداية العقم.
كان بديلا عن الإبداع الحقيقي. ولنذكر أن عهد النهضة عندنا بدأ برفض هذه الزخارف جميعها، وأن أذن الجمهور نفسه أصبحت تمقت السجع وتنفر منه.
عندما بدأ الشعراء يتخلون عن الأشكال القديمة ظهر هذا التساؤل: ما هو الوزن أو الشكل الذي سيحل محل أوزان الخليل؟ وقال قائل: المهم أن يتوصل المجددون إلى وزن ما وعندئذ سنرضى عن ثورتهم. وهذا يعني أن العقلية العامة تنتظر قالبا جديدا يحل محل قالب قديم. ثم ظهرت فئة أخرى تقول أن لتطور أوزان الخليل حدا، وتعني أن الشعر قد بلغ المرحلة النهائية من التطور. وطبيعي أن هذه الأقوال والتساؤلات بعيدة عن منطق التطور.
إذن ما هو الشكل المقبل للشعر الحديث؟
بدأت الانطلاقة الحديثة غامضة مترددة واقتصرت في بادئ الأمر على بعض التحول الشكلي بينما ظلت من حيث الجوهر أقرب إلى القديم، تلمست طريقها نحو الشعر الحقيقي وسط صخب الجمهور المستنكر. وفي مدى عشر سنوات استطاعت أن تبرز وتقف على قدمين ثابتتين وأن لم تفرض شخصيتها الحديثة حتى الآن. شهدت هذه الفترة تحولا واضطرابا ونصرا وتراجعا فيما يتعلق ببعض الشعراء. لكن الحركة ظلت ماضية في طريقها تبحث وتحاول أو تمد أصولها بعيدا في تاريخ الشعر العربي، وتفيد من محاولات التجديد التي انقطعت، ومن التجارب الشعرية في العالم. فماذا حققت حتى الآن؟
أولا- كرست الطابع الإنساني.
ثانيا- حررت الشكل من كل شرط سابق، أو قالب لأن الشكل تجسد المعنى وكيانه العضوي وهو يتبدل ليظل منسجما وملائما له.
ثالثا- هذه الحرية لا تعني الفوضى، بل تفترض دائما شكلا معينا لكل قصيدة.
رابعا- الشكل لا يعني الوزن والقافية أو انعدامهما بالضرورة.
الشكل الحديث أكثر من وزن وقافية. هو حركة القصيدة وطريقة تكونها، وعلاقة أجزائها ببعضها، والأصوات الداخلية فيها، أهي متقابلة، أم متتابعة، أم متجمعة حول بؤرة واحدة، ثم صورها وطبيعة الصور وأبعادها، وتراكب هذه الصور، وهي كلها من عناصر الشكل في القصيدة الحديثة.
خامسا- أن الإيقاع الصوتي بمعناه المعروف ضروري دائما في القصيدة لأن القصيدة الحديثة ليست للإنشاد أو الطرب.
سادسا- كل الكلمات شعرية إذا استعملت بشكل يعطيها دلالة جديدة شعرية. كذلك كل أنواع المعرفة يمكن الاستفادة منها في الشعر.
سابعا- تخلصت من الجزئية فرفضت الحادثة وخدمة الأغراض السياسية أو الشخصية أو الحزبية، وبالتالي تخلصت من الخطابية والتعليمية.
ثامنا- التعبير غير المباشر والاستعانة بالرموز التاريخية ليتمكن الشعر "من التعبير شعريا عن اللاشعر" كما يقول بدر السياب. وسيظل الشعراء يمدون هذه العناصر بعناصر جديدة أو يمحون منها بعضها. وعلينا أن نتهيأ باستمرار لكشوف جديدة أخاذة تفتح في آفاقنا رحابا جديدة وتعلم قلوبنا مغامرات وانخطافات جديدة.
وطبيعي أن الشعر الحديث هذا قد ابتعد عن مدارك الجمهور الذي تسيطر عليه الأفكار المسبقة المشتركة التي تقف جدارا في وجه حركات التجديد. بالإضافة إلى أن هذا الجمهور يجهل الرموز التاريخية والأسطورية، لأنه يجهل تاريخه وأساطيره. فضلا عن أن أذنه قد تربت على وقع القافية الرتيبة والأوزان المتكررة التي تكتفي بأن تطرب أذنه. وطبيعي أن ينفر جمهور المحافظين من هذه الحركة التي تعبث باستقرار مفاهيمه وتزعزعها، وهو الذي يتشبث بقواعد الماضي وقوانينه كأنها آيات منزلة لا ريب فيها. فلا عجب إذن إن نحن رأينا الشعر الحديث يرشق بأمثال هذه النعوت المضحكة: "مؤامرة على اللغة العربية"، "وتهرب من صعوبة الوزن والقافية"، "مسخ لن يكتب له البقاء"؛ فضلا عن "المؤامرة الاستعمارية" و "البورجوازية" إلى آخر هذه التعابير الغريبة.
لكن لا بد من إنصاف الجمهور فنعترف بأن كثرة الشعر المزعوم حديثا واختلاط الجيد بالرديء قد بلبل الأفكار وحمل الشعر الحديث وزرا كبيرا. بالإضافة إلى القفزة التي قام بها الشعر الحديث مبتعدا بها عن التراث الشعري العربي مخلفا بينه وبين هذا الجمهور هوة كبيرة.
فمن يزيل هذا الالتباس؟ من يمد الجسور بين الشعر الحديث والقارئ؟
هكذا يبدو لنا أن ناقد الشعر الحديث في موقف حرج. فهو يقدم مجهولا إلى جماعة تتهمه مسبقا ولا رغبة لها في التعرف إليه ولا ثقة لها به. فما هو سلوك ناقد الشعر الحديث والحالة هذه؟
يقول ستانلي هايمن: "عندما تتسع الهوة بني الأدب وذوق الجمهور تصبح لمهمة الناقد التي تتطلب منه أن يكون جسرا بين الأثر الغامض والقارئ أهمية كبيرة. أي مهمة ترجمة غموض الشاعر. حيث يقتنص لمحاته الأسطورية ويفسرها، ويضيء الصور الغامضة ويحلل المركبة مهنا ويدرس دلالات الكلمات واقترانها، ويبين اتجاه حركات القصيدة ويسمي أصواتها ويوضح علاقة هذه الأصوات ببعضها ويشير إلى أبعادها؛ وبالنتيجة يقدم القصيدة للقارئ مدروسة محللة وقد هتكت أستارها وبطل سحرها، وتحولت إلى موضوع مدروس، وهو ما يفقد القصيدة الحديثة شيئا من رسالتها، ويحرم القارئ متعة الجهد والخلق، ذلك أن قراءة القصيدة الحديثة، جهد يخلق القصيدة – الصدى، التي تولد في مشاعر القارئ وتنمو فيها. ولكن معظم الناس يجهلون حتى قراءة القصيدة الحديثة، لأنهم يقرأونها على ضوء النظرة القديمة إلى الشعر، يقرأونها فيصابون بخيبة أمل عندما لا يدغدغ أذنهم صليل القافية ولا تفجأهم لعب التورية والطباق والجناس، وعندما لا تتأرجح الكلمات في دوامة الوزن . فما السبيل إلى فتح النوافذ في نفس القارئ على عالم القصيدة؟
يبرز أمامنا منحى آخر وهو عرض نماذج للقراءة الراقية الخالقة، القراءة- المشاركة، القراءة – المعاناة والحضور الفعلي. وهي فكرة جيدة، لكنها غير مجدية بالنسبة للذين لم ينفتحوا على الشعر الحديث ويهربون من غموضه. ذلك أن نماذج القراءة هذه غالبا ما تكون أكثر غموضا من القصيدة نفسها، لأنها ليست تبسيطا بل عرض لاستجابة القارئ والأصداء التي لاقتها في نفسه، والآفاق التي فتحتها في هذه النفس. ولأن هذه القراءة قد توقظ كوامن الذكريات أو تثير المشكلات وتفتح الجراح القديمة. وهناك رد آخر على هذه الطريقة وهو أن هذه أن هذه القراءة تتضمن كثيرا من العناصر الشخصية، مما يجعل تعميمها متعذرا وقليل الفائدة.
ولكن مهما تكن مزالق الطريقتين لا بد لناقد الشعر الحديث من الأخذ بطرف من كل منهما ليؤدي مهمة الترجمة والإيصال. فيستعيض عن عرض نماذج القراءة بنموذج واحد لبعض القصائد، أو لإحدى الصور، محاولا دائما التبسيط.
ولكي يتجدد النقد ويغدو نقدا حديثا يتمكن من مواكبة الشعر الحديث أو تقدمه، عليه أن يستفيد من كل المعارف في فهمه للشعر وعكسه على القراء، من مذاهب التحليل النفسي، إلى دراسة المجتمعات البدائية، ومن نظريات علم الاجتماع إلى مذاهب النقد القديمة والحديثة. كما أن عليه أن يستفيد من الأساطير القديمة وتعليلها للكون، والمعتقدات القديمة والطقوس التي ارتبط بها، لأن لهذه الأساطير والمعتقدات ذيولا تعيش في حياتنا على شكل حكايات وأمثال وعادات ومعتقدات ننساها عندما نكبر لكنها تظل تجد لها منفذا تطل به على حاضرنا. وقد رأى بعض النقاد الغربيين لهذه الرواسب الأسطورية أهمية جعلتهم يتبعون منهجا يعتمد على دراسة الشعر والرواية على ضوء الأسطورة.
هذه المعارف العامة تجعل للناقد بصيرة نافذة أشبه بالعين السحرية التي ترى ما على الأرض وما تحت الأرض وما غاب وراء الأفق، فتلمح الطيف العابر للجمال وتدرك مدلول أكثر الرموز غموضا، وتكشف ظروف القصيدة، وتتبع خواطر الشاعر حتى طفولته.
هذه البراعة، هذه البصيرة النفاذة تمكن النقد من احتضان حركة الشعر الحديث لا السير في مؤخرتها. تمكن الناقد من تقديمها إلى القارئ على أضواء الثقافة المتعددة، كما تمكنه من فتح الطريق بموكبها المتقدم، تمكنه من تمييز الزائف من الأصيل، وعلى رأس كل ذلك تساعد الشعر في اختباره للتقنيات الجديدة.
النقد الذي يدرس في الجامعات العربية أو في كليات الأدب العربي، هو النقد القديم الذي يلبس عقول المحافظين والذي ساد قبل ستمائة عام. هذا النقد يتطاول ويفرض نفسه أستاذا لجيلنا ولكن حركة أدبية تتخطى المألوف. أما النقد الحديث الجدير بتفهم الحركات الحديثة وتوجيهها وتعليلها وتحليل آثارها ومقارنتها بالحركات المماثلة في العالم على ضوء المعارف والاختبارات البشرية الأدبية منها والعلمية، هذا النقد ما يزال وليدا تتجل شخصيته بعد، لم تستكمل مقوماتها، لم يتجل في مؤلف خاص، بل ما يزال مقالات في المجلات أو آراء عابرة في مقدمة ديوان. بالإضافة إلى أن الكتاب الذين يعتبرون النقد اتجاههم الوحيد نادرون عندنا. أما معظم الذين كتبوا في النقد وهم كثرة- فيعيش النقد على هامش حياتهم الأدبية، لم يعتبروا النقد رسالتهم، وحين كتبوا في نقد الشعر الحديث لم يستحضروا في أذهانهم الحركة ككل، بكل ملابساتها وعوائقها ومتاعبها ومطامحها وانتصاراتها، وحين كتبوا في النقد كان تذوقهم للشعر الرائد الأول والوحيد تقريبا؛ فهم لم يكونوا ثقافتهم، لم يوجهوا مطالعاتهم وجهة النقد، لم يكن النقد هدفا رئيسيا حاضرا في أذهانهم. وهكذا نرى أن كثيرين ممن كتبوا في النقد، كان الشعر أو القصة أو الفلسفة محور اهتمامهم الأول. وهذا ما جعل نقدنا الحديث يتجلى في متفرقات هي محاولات في النقد غير المنهجي.
ولم يتوفر لدينا النتاج الجدي الذي يمكن أن يحمل اسم "النقد الحديث". ولنعترف أن النقد عندنا لم يساعد حركة الشعر الحديث كثيرا إلا في الفترة الأخيرة، لكن الفرصة لم تفت وما يزال أمام النقد الكثير ليعمله. وفي طليعة هذا الكثير، أن يسد الفجوات التي تتخلل أساسه. فقد ظل حتى الآن طفيليا على الشعر، يعتمد في معظمه على نقد المجموعات العشرية أو القصائد، أو يعتمد على التأريخ السريع لفترة بعينها. فليست لدينا الدراسات التخصصية التي تتناول ناحية معينة من نواحي الشعر الحديث، إلا فيما ندر. و إذا كان النقد يطمح لأن يمد الجسور بين الشعر الحديث والقارئ فلا بد من أن يعمل على مد الجسور بين الشاعر الحديث وتراثه. إذ لا يخفى أن الشعر الحديث يواجه مشكلة صميمية هي مشكلة التراث، فإلى أيّ حضارة يمد جذوره وهل هناك تراث يمكن أن يكون خلفية للقصيدة. هذه المشكلة من أهم ما على النقد مواجهته.
لكن أمام النقد الحديث في مرحلته البنائية هذه صعوبات لعلها مسؤولة أيضا عن بعض تخلفه. من هذه الصعوبات:
أولا- أن الشعر الحديث نفسه عبارة عن تجارب فردية، فليس ما يجمع بين الشعراء الحديثين سوى نية التجديد. بينما كل شاعر يعمل منفردا، لتجاربه الخاصة. واتجاهه الخاص.
ثانيا- عدم توفر النتاج الكافي الذي يفرض شخصيته الحديثة. فضلا عن أن بين نتاج الشعراء الذين نعتبرهم حديثين الكثير من القصائد غير الحديثة. وكثيرا ما نسمي شاعرا حديثا من أنتج قصيدتين حديثتين أو ثلاثة، أي لمجرد اتجاهه نحو الحديث. ثالثا – في هذا الحشد من الشعر المزعوم حديثا كثير من القديم الدخيل الذي يدعّي الحداثة لمجرد تلاعب جزئي بتوزيع الوزن، وأحيانا بتوزيع الأسطر. بينما يحتفظ بنظرته القديمة إلى رسالة الشعر وإلى العالم، وفي موقفه وأسلوب التعبير عن موقفه.
رابعا- الأوضاع السياسية في العالم العربي التي تعيق التعاون بين أدباء البلاد العربية كما تعيق الاتصال الثقافي عن طريق المجلات أو الكتب، هذا التعاون الذي يمكنه أن يساعد في قيام حركة نقدية ناشطة، وفي تبادل النظرات والتعليقات.
خامسا- غموض مفهوم التراث، وغموض شخصية التراث، وطغيان الأفكار السياسية على المفاهيم الحضارية مما سبب بلبلة وخلطا في هذا الموضوع، وجعل الكتاب ينقسمون، فمن قائل بأن تراثنا يشمل فترة معينة، ومن قائل أنه بعيد الأغوار في تاريخ هذه البقعة من العالم، إلى ثالث يراه في تراث العالم أجمع.
قد أواجه بهذا السؤال الذي يلقي على كل من يتحدث عن القصور: وأنت ماذا فعلت؟ لا شيء غير هذه المحاولات المتواضعة وغير اعتبار النقد وجهة رئيسية في الكتابة.
م/ن