إن المشكلة الاقتصادية الأساسية التي عانى الإنسان منها منذ فجر التاريخ وحتّى يومنا هذا تتمثل بمشكلة الفقر، ويتحدث رجال الاقتصاد الوضعي عن ذلك من خلال بيان طرفي المشكلة الاقتصادية المتمثلين بندرة الموارد الطبيعية وتزايد الحاجات الإنسانية أكبر من نسبة تزايد الموارد الطبيعية، الأمر الذي يؤدي إلى إيجاد المشكلة الاقتصادية التي يتمثل معظمها في مشكلة الفقر•
وبناء عليه: فإنَّ سبب نشوء مشكلة الفقر حسب اجتهاد رجال الاقتصاد، يرجع إلى أن الحاجات الإنسانية تتزايد بنسبة أكبر من تزايد الموارد الطبيعية، وهذا يعني أن معدل النمو السكاني ومعدل حاجاتهم يتزايدان بمعدل أكبر من تزايد الموارد الطبيعية، لكونها (الموارد الطبيعية) تتصف بالندرة، ولكن هل يقبل علماء الاقتصاد الإسلامي هذه النتيجة؟ للإجابة على هذا السؤال لابد من بيان مدى ندرة أو وفرة الموارد الطبيعية، ثم بيان مدى كفاية الموارد الطبيعية•
الموضوع :
(مدى ندرة أو وفرة الموارد الطبيعية)
نتناول توضيح ذلك على الصعيد العالمي، ثم على صعيد بلد معين، ثم على صعيد العالم الإسلامي•
1-مدى ندرة أو وفرة الموارد على الصعيد العالمي:
يجب على الباحث الذي يقوم بدراسة هذه المسألة أن تكون عنده نظرة شمولية لهذا الموضوع، وأن ينطلق من مبادئ النظام الاقتصادي في الإسلام خلال تحليله لتلك المسألة•
وإن النظرة الشمولية تحتم على الباحث أن ينظر إلى الموضوع نظرة كونية لا قطرية، خلال تفحصه للموارد الطبيعية بهدف معرفة ندرتها أوفرتها، والناظر في آيات القرآن الكريم يكتشف أن الأصل في الموارد الطبيعية هو الوفرة وليس الندرة•
ولتوضيح المعنى السابق المتمثل بوفرة الموارد ندلل على ذلك بآيات عدة من القرآن الكريم فيما يلي:
– قال تعالى{والأرض مَدَدْناها وأَلْقيْنَا فيها رواسي وأنْبَتْنَا فيها من كُلِّ شيءٍ مَوْزونٍ• وجعلنا لكم فيها معايِش ومن لسْتُم له برازقين• وإنْ من شَيْءٍ إلاّ عندنا خزائنه وما ننزله إلاّ بقدَر معلوم} >الحجر، الآيات 19-20-21<•
والخطاب الوارد في هذه الآية عام لجميع خلقه في مشارق الأرض ومغاربها، أراد ربّنا سبحانه وتعالى من خلال هذا الخطاب أن يخبرنا بأنّه جعل في هذه الأرض التي تعتبر المصدر الأساسي للموارد الطبيعية، ما يؤمِّن أسباب معيشتنا عليها، مّما هو موزون بالوزن >2<، من الثمار والزروع والجواهر والمعادن على اختلاف أنواعها وكل ما يحتاجه عباده، وقد أودعها- اللّه سبحانه- أسباب المعيشة لكنّه لا يخرجها إلّا بأجَلٍ معلوم وقدرٍ معلوم، وذلك بمقدار ما يكفي عباده في كُلِّ عَصْر من العصور، ولذلك قال تعالى:{وَجَعَلنَا لكم فيها مَعايش}، أي ما يؤمّن أسباب معيشتكم ويكفيكم وفي ذلك إشارة إلى الوفرة•
وكلمة >معايش< كلمة جامعة لكل ما يتعيش به، ويكون سبباً يعيشها في هذه الحياة الدنيا، وذلك بالشكل الذي يؤمن حاجات الإنسان وحاجات جميع مخلوقات اللّه
ومما يؤكد أيضا وفرة الموارد ما ذكره >سيد قطب< في تفسير هذه الآىة >3< حيث قال يرحمه اللّه:
والآية الكونية هنا تتجاوز الآفاق إلى الأنفس، فهذه الأرض الممدودة للنظر والخطو، وهذه الرواسي الملقاة على الأرض، تصاحبها الإشارة إلى النبت الموزون، ومنه إلى المعايش التي جعلها الله للناس في هذه الأرض، وهي الأرزاق المؤهلة للعيش والحياة فيها• وهي كثيرة شتى، يجملها السياق ويبهمها، {جعلنا لكم فيها معايش}، وجعلنا لكم كذلك {من لستم له برازقين}، فهم يعيشون على أرزاق اللّه التي جعلها لهم في الأرض، وما أنتم إلا أمة من هذه الأمم التي لا تحصى، أمة لا ترزق سواها إنما الله يرزقها ويرزق سواها، ثم يتفضل عليها، فيجعل لمنفعتها ومتاعها وخدمتها أمما أخرى تعيش من رزق الله، ولا تكلفها شيئا، هذه الأرزاق، ككل شيء، مقدر في علم الله، تابع لأمره ومشىئته، يصرفه حيث يشاء وكما يريد، في الوقت الذي يريده حسب سنته التي ارتضاها وأجراها في الناس•
أما من جهة الأرزاق {وإنْ من شيءٍ إلاّ عندنا خزائنُه، وما ننّزلُه إلاّ بقَدَرٍ معلوم}، فما من مخلوق يقدر على شيءٍ أو يملك شيئاً، إنما خزائن كُلّ شيء، أي مصادر الموارد، عند اللّه، ينزلها على الخلقِ في عوالمهم المختلفة بقدر معلوم•
فالذي تقدم يدل على وفرة الموارد على صعيد الكرة الأرضية•
قال تعالى:{وما من دابَّةٍ في الأرض إلاّ على اللهّ رزقُها} هود->6<•
وقال أيضا {وكأيِّن من دابَّةٍ لا تحمل رزقها اللّه يرزقها وإياكم} >6< العنكبوت ->60<•
ولقد أخبر ربنا سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين أنه متكفل بأرزاق المخلوقات من سائر دواب الأرض صغيرها وكبيرها،حتى ولو كانت ضعيفة لا تقدر على كسب رزقها فإن الله سبحانه وتعالى يرزقها مع ضعفها بالإضافة إلى رزقه إيّانا نحن البشر >الله يرزقها وإياكم< وهذا يُدلّ أيضا على أن الأصل في المواد، أو الأرزاق، هو الوفرة وليس النّدرة•
وإذا نظرنا إلى هذه المسألة نظرة شمولية، من دون أن نحصرها في بلد ما•
فإننا بناءً عليه: لا يمكن القول بوجود مشكلة فقر إذ انطلقت من مبدأ أن الأصل في الموارد هو الوفرة وليس الندرة، ذلك لأن الخطاب الوارد في الآيات السابقة هو خطاب عام يتناول جميع الناس، كما أن وفرة الرزق وما يستتبعه من حاجات أخرى هو للبشر جميعاً، بل إن هذه الوفرة في الموارد أو الرزق تغطي حاجات البشر بل سائر مخلوقات اللّه تعالى، وإذا نظرنا إلى الموضوع نظرة شموليَّة، ومن دون أن نحصر البحث في إقليم جغرافي بعينه•
فإن سياق الكلام يقودنا للبحث عن وفرة الموارد الطبيعية أو ندرتها على صعيد إقليم جغرافي، بعينه، أي دراسة هذه المسألة في بلد مُعَين تتمّثل صورتها بمايلي:
2- مدى ندرة أو وفرة الموارد الطبيعية على صعيد بلد معين:
يتفاوت توزيع الموارد الطبيعية على صعيد الكرة الأرضية فإذا نظرنا إليها على أنها مكونة من أقاليم جغرافية محددة أو دول متعددة فقد نرى إقليما جغرافياً معينا غنياً بمورد معين، وأقول في هذه الحال: إن هذا المورد يتصف بالوفرة بالنسبة لهذا الإقليم، كما هو الحال بالنسبة للسعودية التي تنتج مورد البترول، ومقابل ذلك قد نرى إقليماً جغرافياً معينا أو دولة ما- لا ينتج المورد السابق، فأقول في هذه الحال:
إن وجود هذا المورد في تلك الدولة يتصف بالندرة، كما هو الحال لإنتاج مورد البترول في لبنان• وقد ينتج المورد نفسه في بلد ما، لكنّه لا يكفي حاجات الأسواق المحلية، وأقول في هذه الحال أيضاً: إن إنتاج هذا المورد في ذلك البلد يتصف بالندرة، كما هو الحال بالنسبة لباكستان وتركيا، فإنهما تنتجان البترول بكميات قليلة، لكنهما تضطران لأن تؤمنا حاجتيهما من البترول من خلال استيراده من الخارج•
وبصفة عامة يمكن القول: إنه على صعيد بلدٍ معين قد تتصف الموارد الطبيعية بالندرة أو الوفرة، فإذا اتصفت تلك الموارد بالندرة، فهذا يعني أن ذلك البلد يعاني من مشكلة الفقر، واذا اتصفت -الموارد- بالوفرة، فهذا يعني أن هذا البلد لايعاني من مشكلة فقر•
وبناء عليه: فإنه على صعيد بلد ما- إقليمي جغرافي معين – يمكن القول: إن سبب مشكلة الفقر تتمثل بندرة الموارد، وأن تلك الموارد لا تفي بحاجات المستهلكين المتزايدة• الأمر الذي يؤدي إلى إيجاد المشكلة الاقتصادية، التي تتمثل في مشكلة الفقر بشكل أساسي
3- مدى ندرة أو وفرة الموارد الطبيعية على صعيد العالم الإسلامي:
-يمتلك العالم الإسلامي رصيداً متنوعاً وكبيراً من الموارد الطبيعية سيصار إلى توضيحه فيما يلي: >5<
– بالنسبة لواقع الزراعة في العالم الإسلامي: فإن العالم الإسلامي يشغل مساحة كبيرة تقدر بنحو 2.935 مليون هتكار، وهذه المساحة تمثل نحو 22 في المئة من مساحة العالم البالغة 13.392 مليون هتكار، لكن المساحة الصالحة للزراعة تبلغ 5.210 مليون هتكار، وهي تمثل نصف مساحة العالم القابلة للزراعة ويزرع من هذه المساحة نحو 2.525 ألف هتكار وهي تمثل 11.4 في المئة من المساحة القابلة للزراعة في العالم الإسلامي، وهذا يعني أن هناك كمية كبيرة من المساحة الصالحة للزراعة تقدر بنحو 2.600 مليون هتكار معطلة، ويمكن أن يكون لها دور في تأمين حاجة العالم الإسلامي من الغذاء الذي يقوم بتأمين القسم الأكبر منه من الخارج، ذلك لأن إنتاجه الزراعي لا يكفي الاستهلاك المحلي•
كذلك فإن العالم الإسلامي يتمتع بثروة غابية نادرة، لأن تنوع المناخ في العالم الإسلامي أدى إلى تنوع الغابات من جهة كثافة النمو الشجري في أنحائه، وقد لعبت كميات الأمطار الساقطة من حيث توزيعها وموسم سقوطها دوراً كبيراً في تباين وكثافة الأشجار لكن استخدام الثروة الغابية الطبيعية لايحقق سوى 9 % تقريبا من إنتاج الغابات في العالم، وتأتي الأخشاب في طليعة ذلك الإنتاج•
وما قيل عن الثروة الزراعية يقال عن الثروتين الحيوانية والمائية، ذلك لأن إنتاجهما لا يكفي حاجات سكان العالم الإسلامي بسبب عنصري الإهمال وعدم المضي قدماً في تطوير الأساليب المؤدية إلى زيادة الموارد في مجال الثروة الحيوانية والمائية•
كذلك يمتلك العالم الإسلامي ثروة معدنية تعتبر مهمة في بعض المجالات كما هو الحال بالنسبة لإنتاج البترول، إذا يسهم العالم العربي بنحو 47 في المئة من الإنتاج العالمي، وأن إنتاجه في بعض الدول، كما هو الحال بالنسبة للسعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة – يدخل في ميدان التجارة الدولية من خلال تصديره إلى الخارج•
وبناء على ما تقدم يمكن القول: إن العالم الإسلامي يتمتع بموارد طبيعية كثيرة، وأن تلك الموارد تتصف من حيث الأصل بالوفرة وليس بالندرة، وإذا فرض أن إنتاج أحد الموارد يتصف بالندرة كما هو الحال بالنسبة للحديد مثلا، فإن هناك إمكانية لاستيراد ذلك من الدول المنتجة له من دون أن يشكل ذلك عبئا على الميزان التجاري الإجمالي للدول الإسلامية•
ويستنتج مما تقدم – بالنسبة للعالم الإسلامي- أن الأصل في موارده الطبيعية هو الوفرة، وهذا الاستنتاج يمكننا من القول: إن مشكلة الفقر ليست موجودة، أولا ينبغي أن تكون موجودة وإن وجدت لسبب من الأسباب فإنه بالإمكان إيجاد حل لها بما يلي
(مدى كفاية الموارد الطبيعية)
من خلال بيانها على الصعيد العالمي أولاً، ثم على صعيد بلدٍ معيّن ثانيا، ثم على صعيد العالم الإسلامي ثالثاً، مع الإشارة إلى أن مفهوم كفاية الموارد معناه أن الموارد الطبيعية تحقق إشباع الحاجات للناس
1- مدى كفاية الموارد الطبيعية على الصعيد العالمي
فقد اتضح من خلال بيان >مدى ندرة أو وفرة الموارد الطبيعية على الصعيد العالمي< أن الموارد الطبيعية تتصف بالوفرة على الصعيد العالمي – حسب رأي علماء الاقتصاد الإسلامي، وهذا يعني حكما أن تلك الموارد تسد حاجات المستهلك على الصعيد العالمي•
ويستدل على ما تقدم بقوله تعالى:{ قُلْ أَئنّكم لتَكفرون بالذي خَلَقَ الأرضَ في يومَين وتجعلون له أنداداً ذلك ربُّ العالمين• وََجَعَل فيها رواسِيَ من فوقها وبَارك فيها وقَدّر فيها أقْواتها في أربعة أيامٍ سواءً للسّائلين} >فصِّلت، 9-10<
تتحدث هاتان الآياتان عن خلق اللّه سبحانه وتعالى للأرض في يَوْمَيْن، ثم عن جعل الجبال عليها، وبث البركة في هذه الأرض بالإضافة إلى تقدير أرزاق العباد في باطنها، بالشكل الذي يكفي مخلوقاته عليها من لدن آدم عليه السلام إلى أن يرث اللّه تعالى الأرض ومن عليها، وذلك في يومين إضافيين، وبذلك يصبح مجموع الأيام أربعة•
ولقد فَسَّرَ الإمام >الطبريّ< الآيتين، لكنه اقتصر على ذكرمايهم توضيح النقطة المتمثلة بكفاية الموارد الطبيعية، فقال في تفسير قوله تعالى:{وبارك فيها}: وبارك في الأرض فجعلها دائمة الخير لأهْلِها >6< وقال في تفسير قوله تعالى:{وقَدَّر فيها أقواتها}: تأويله أن يقال: إن الله تعالى أخبر أنه قدر في الأرض أقوات أهلها، وذلك ما يقوتهم من الغذاء، ويصلحهم من المعاش، ولم يخصص جل ثناؤه بقوله {وقَدّر فيها أقوَاتها}أنَّه قَدّر فيها قوتا دون قوت، بل عمّ الخير عن تقديره فيها جميع الأقوات، ومما يقوت أهلها ما لا يصلحهم غيره من الغذاء، وذلك لا يكون إلاّ بالمطر والتصرف في البلاد لما خص به بعضاً دون بعض ومما أخرج من الجبال من الجواهر، ومن البحر من المأكل والحلّي >7<•
ويفهم مّما ذكره الإمام >الطبري< أن الله سبحانه وتعالى عندما خلق هذه الأرض قدّر فيها حاجة أهلها من الرزق، وحاجة الذين يتعاقبون عليها جيلاً بعدجيل،وهذا المفهوم عن الأرض- على اعتبار أنها مصدر الموارد الطبيعية، وأن تلك الموارد تكفي حاجات الإنسان على الصعيد العالمي- أكده علماء الاقتصاد الإسلامي حيث ذكروا >8< أن الأرض لا تضيق ولن تضيق عن استيعاب البشر وتوافير ما يحتاجون إليه من موارد مهما كثر تعدادهم أو تقدّم بهم الزّمن، لأنّ اللّه سبحانه وتعالى عندما أراد استخلاف آدم وذريته في هذه الأرض قدر أن تكون الأرض كافية ولذلك فإنه لم يثبت حتى الآن، ولن يثبت عدم قدرة الأرض على استيعاب بني البشر، وعلى عدم كفاية حاجاتهم على الصعيد العالمي، وإنه – سبحانه وتعالى- لما خلقها ضّمنها من الأرزاق ما يفوق تلك الحاجات مهما تضاعفت أو تعاظمت•
والمشكلة بعد ذلك لا تتعلّق بوجود الموارد الطبيعية، فهي موجودة في هذه الأرض منذ أن خلقها اللّه سبحانه وتعالى، لكنها تتعلق بمدى قدرة العقل البشري على اكتشافها، لأن اللّه سبحانه وتعالى خلق تلك الأرض، وجعلها مذللة لبني البشر، وخلق الإنسان ليعيش عليها، وزوده بالعقل الذي يستطيع من خلاله اكتشاف تلك الموارد وتسخيرها لصالحه بالشكل الذي يكفي حاجاته، وإذا كان رجال الاقتصاد الوضعي يقولون: >9< إن كمية النفط في العالم محددوة، فإن على رجال الاقتصاد الإسلامي أن يردوا عليهم قائلين لكن مصادر الطاقة البديلة غير محدودة، واذا كان رجال الفريق الأول يقولون: إن كمية الأراضي الخصبة قليلة، فإن على علماء الفريق الثاني أن يردّون عليهم قائلين: لكن طرق الزراعة المؤدية إلى زيادة الإنتاج الزراعي غير محدودة، بل هناك إمكانية لأن تحصل العملية الزراعية من دون الحاجة إلى تربة•• والفضل في ذلك كله يرجع إلى قدرة العقل البشري على اكتشاف البدائل المؤدية إلى تأمين حاجات الإنسان، ذلك لأن فرص الاكتشاف والاختراع غير محددة•
وبعد أن تبين أن الموارد الطبيعية على الصعيد العالمي تكفي حاجات البشر، لذلك فإنه لايمكن القبول بوجود مشكلة فقر على الصعيد العالمي، لأن الموارد تفوق الحاجات، وإذا وجدت، فإن ذلك يعتبر أمراً عارضا وهناك إمكانية لإيجاد علاج لها•
2- مدى كفاية الموارد الطبيعية على صعيد بلدٍ معين
أتضح من خلال بيان >مدى ندرة أو وفرة الموارد الطبيعية على صعيد بلدٍ معين<، أن هناك صورتين محتملتين لذلك: فإما أن تتصف موارد بلد معين بالوفرة >10< ويقال في هذه الحال: إن موارده تكفي حاجاته المحلية، أبو ربما يصدر قسم منها للخارج، ويكون لذلك دور في تحقيق فائض في الميزان التجاري، ويستنتج من هذه الصورة أن إمكانية وجود مشكلة الفقر ضئيلة في هذا البلد – من حيث الأصل – بسبب وفرة الموارد الطبيعية فيه، وكفاية تلك الموارد لحاجات مواطنيه•
أما الصورة الثانية فتتمثل بأن تكون موارد بلد ما >11< نادرة، أي تتصف بالندرة، ويقال في مثل هذه الحال: إن موارد هذا البلد لا تكفي حاجات الناس فيه، فيضطرون إلى استيرادها من الخارج إذا كان البلد يمتلك أثمانها، وإلا فإنه سيحقق عجزاً في ميزانه التجاري، ويستنتج من هذه الصورة أن إمكانية وجود مشكلة الفقر كبيرة في هذا البلد- من حيث الأصل بسبب ندرة الموارد الطبيعية فيه، وعدم كفايتها لتحقيق إشباع الحاجات لمواطينه•
ويمكن اختصار ما تقدم بما يلي:
-إذا اتصفت الموارد الطبيعية بالوفرة فإن كفاية الموارد لإشباع حاجات الناس تقضي على وجود مشكلة الفقر•
– إذا اتصفت الموارد الطبيعية بالندرة- أي عدم كفاية الموارد الطبيعية لإشباع حاجات الناس فهناك وجود مشكلة فقر•
3-مدى كفاية الموارد الطبيعية على صعيد العالم الإسلامي
تبين من خلال الحديث عن >مدى ندرة أو وفرة الموارد الطبيعية على صعيد العالم الإسلامي< أن العالم الإسلامي يتمتع بأرض صالحة للزراعة تقدر بنحو 2.75 في المئة من مساحته الإجمالية البالغة 3.935 مليون هكتار، وهي تمثل نصف مساحة العالم القابلة للزراعة، لكنه لا يزرع من تلك المساحة، إلا 2.525 ألف هكتار، وهي تمثل 11.4% من المساحة الزراعية للعالم الإسلامي الصالحة الزراعة•
كما أنه -العالم الإسلامي – يتمتع بثروات غابية وحيوانية ومائية- يمكن أن يكون لها دور كبير في تغطية حاجاته، وربما التصدير إلى الخارج، لو تم الاهتمام بها بالشكل المطلوب، وتم- أيضا، تطوير الأساليب المؤدية إلى زيادة مواردها، مع الإشارة إلى أن تلك الموارد بواقعها الحالي لا تكفي حاجة العالم الإسلامي الحالية، وإنه يقوم بتأمينها من خلال استيرادها من الدول المنتجة لها•
ويتمتع العالم الإسلامي بثروة نفطية مهمة، إذ يسهم بنحو 47 في المئة من الإنتاج العالمي، وهذا يعني أنه يكفي حاجاته من الموارد النفطية، ويصدر الباقي إلى الخارج•
ويمكن القول: إن الموارد الموجودة في العالم الإسلامي تتصف بالوفرة بالنسبة للكثير من مفرداتها (الموارد)، وهذا يعني أنها تكفي الحاجات المحلية للمستهلكين، بل يتم تصدير بعضها إلى الخارج، كما هو الحال بالنسبة للبترول، الذي تحقق عائداته فائضاً، ويلعب ذلك الفائض دوراً مهماً في تأمين حاجة العالم الإسلامي من الموارد التي لا تنتج محليا، وذلك من خلال استيرادها من الخارج•
وبناء عليه: يمكن القول من حيث الأصل – على صعيد العالم الإسلامي – عدم وجود مشكلة فقر، لأن سبب مشكلة الفقر يرجع إلى ندرة الموارد وتزايد الحاجات، بل إن تلك المشكلة تنشأ من أن الموارد تتزايد بنسبة أقل من نسبة تزايد الحاجات، وهذا الأمر ليس موجوداً على صعيد العالم الإسلامي برمته، بسبب وفرة موارده الطبيعية، التي من المفترض أن تؤمن حاجات سكانه•
ثالثا: حقيقة مشكلة الفقر
تبين من خلال بيان النقطة السابقة أن الأصل في الموارد الطبيعية هو الوفرة وليس الندرة على الصعيد العالمي، بل حتى على صعيد العالم الإسلامي، لكنه مع ذلك توجد مشكلة فقر في بلدان كثيرة، وما يمكن أن يقال في هذا المجال يتمثل بمايلي: >الفقر في ظل الوفرة هو أكبر التحديات التي يواجهها العالم بصفة عامة، والعالم الإسلامي بصفة خاصة<، مع الإشارة إلى أن دول الكرة الأرضية تنقسم إلى قسمين: دول الشمال الغنية التي تتصف بالقلة السكانية، ودول الجنوب التي تتصف بالكثافة السكانية•
ما حقيقة مشكلة الفقر إذا؟
أجاب علماء الاقتصاد الإسلامي عن ذلك فقالوا: إن مشكلة الفقر تكمن في وجود التفاوت الشديد في الثروة والدخول بين الأفراد إذا أردنا قياس ذلك على مستوى المجتمع المحلي، أو بين الدول على مستوى المجتمع العالمي، فمعنى ذلك أن المشكلة الاقتصادية التي تمثل مشكلة الفقر تعتبر عنصراً أساسياً فيها ليست كما تصورها الرأي الاقتصادي التقليدي السائد بأنها مشكلة تعدد الحاجات وندرة الموارد، وإنما هي مشكلة سوء توزيع الثروة والدخول >12<، فتلك هي حقيقة مشكلة الفقر، إنها مشكلة الإنسان وسوء تنظيمه الاقتصادي، وهو الأمر الذي تداركه الإسلام منذ فجر ظهوره >13<•
فحقيقة المشكلة >14< إذا تتمثل في سوء توزيع الثروة، وليست في الندرة، لأن الله سبحانه وتعالى لم يبخل على عباده ومخلوقاته بما هم في حاجة إليه من معايش، فهو سبحانه المتكفل برزقهم جميعاً، وبرزق من ليسوا له برازقين، وإن إنسان الحضارة الوضعية هو المتسبب في إيجاد هذه المشكلة وفي تضخيمها، بل في قصر إيجادها في معظم الأحوال على البلاد النامية التي تضم قسماً كبيرا من الدول الفقيرة، وقد ظهر ذلك جليا من خلال استغلال الدول المتقدمة صناعياً لثروات الشعوب المستضعفة نتيجة للسيطرة التي مارستها عليها بأساليب متنوعة من دون رحمة أو وازع من خلق أو دين، هذا على الصعيد العالمي•
أما على الصعيد المحلي لكل دولة على حدة فيمكن أن يكون لسوء توزيع الثروة دور في إيجاد مشكلة الفقر بالإضافة إلى عوامل أخرى، تتمثل أبرزها بما يلي: >15<
1- اختلاف توزيع الموارد والكثافة السكانية على مستوى الدول والأقاليم، سواء كان ذلك على شكل أراضٍ صالحة للزراعة أو معادن أو مناخ جيد أو أيد عاملة وما الى ذلك•
2- قصور الإنسان وتقاعسه عن استغلال الموارد التي أنعم اللّه سبحانه وتعالى عليه، ربّما لأسبابٍ اجتماعيَّة أو سياسيَّة أو ثقافيَّة•
3- مبالغة البشر في حاجاتهم المادّيَّة وعدم وجود رشْدٍ كافٍ في الاستهلاك سواءً على المستوى الفرديّ أو الإقليمي أو الدّوليّ، حيث تستهلك الوحدات الاقتصاديَّة بناءً على قدراتها الشرائىَّة دون النّظر للحاجة الفعليَّة وحاجة الآخرين•
4- الأزمة الرّوحيَّة التي يعاني منها العالم: فعلى الرّغم من كثرة الاجتماعات الدوليَّة، وانتشار المنظّمات العالميَّة بهدف مساعدة الدّول الفقيرة، إلاّ أنَّ أثَرَها على الدّول الفقيرة مازال محدوداً، فالجشَع وحب الذّات وتحقيق الأهداف الخاصَّة لكلِّ دولةٍ تتغَلَّب على ما تنادي به الأديان من حبً وتراحم بين الأمم وبين الأفراد، ففي الوقت الذي تعاني فيه كثير من الدّول من نقصٍ في سلعها الأساسيَّة (الاستراتيجيَّة) – وبخاصّةً الغذائىَّة كالقمح – ويتهدّدها شبح المجاعة، توجد دول أخرى لديها فائض في هذه السلع، أو على الأقل لديها القدرة على توفير حاجة الدّول الأخرى الفقيرة، ومع ذلك فإنّها تعزف عن تلبية هذا النَّقص، إمّا لأسباب اقتصاديَّة بَحْتَة أو لأسبابٍ سياسيَّة أو عسكريَّة•
رابعاً: مدى إمكانيَّة إلغاء مشكلة الفقر بشكل كلِّي
هل هناك إمكانيَّة لإلغاء مشكلة الفقر بشكل كلِّي؟
قبل الإجابة على هذا السّؤال، لابُدّ من التّوقف عند مسألة توزيع الأرزاق بين النّاس، ومن الذي يقوم بذلك؟
إنَّ الذي يقوم بتقسيم الأرزاق بين عباده هو اللّه سبحانه وتعالى• وعندما يقوم الناس فيما بينهم بهذا الأمر، فإنّهم مسخّرون للقيام بذلك• قال تعالى: {أهُمْ يَقْسمُون رَحْمَة رَبِّك نحن قسَمْنَا بينهم مَعيشَتَهم في الحياة الدّنيا ورَفَعْنَا بعضهم فوق بعضٍ درجات ليتّخِذَ بعضهم بعضاً سُخْريّاً وَرَحْمَة رَبِّك خيرٌ مِمَّا يجمعون} >الزخرف
( قال الإمام الطبرَيّ في تفسير هذه الآية: بل نحن نقسم رحمتنا بَيْن من شئْنا من خَلقِنَا، فنجعل من شئنا رسولاً، ومن أرَدْنَا صِدِّيقاً، ونتّخذ من أرَدْنَا خَليلاً، كما قسمنا بينهم معيشتهم التي يعيشون بها في حياتهم الدّنيا من الأرزاق والأقوات، فجَعَلْنا بعضهم فيها أرْفَعَ من بعض درجَة، بل جعلنا هذا غنيّاً، وهذا فقيراً( >16<
وقال تعالى أيضاً {إنَّ رَبَّكَ يبسُطُ الرِّزْقَ لمَنْ يشاءُ ويَقْدِرُ إنَّه كان بعبادِهِ خبيراً بصيراً} >سورة الإسراء-30<
يخبر اللّه سبحانه وتعالى في هذه الآية كما ذكر >الحافظ ابن كثير< >أنّه تعالى هو الرّازق القابض الباسط المتصرّف في خَلْقِهِ بما يشاء، فيغني من يشاء، ويفقر من يشاء، لما له في ذلك من الحكمة، ولهذا قال: {إنّه كان بعباده خبيراً بصيراً< أي خبيراً بصيراً بمن يستحقّ الغِنىَ ويستحقّ الفقر >17<
ويتضح مِمّا تقدّم: أنّ اللّه سبحانه وتعالى هو الذي يتولّى تقسيم الأرزاق بين عباده، وهو الذي يجعل من يشاءُ غنّياً، ومن يشاء فقيراً، لحكمةٍ يعلمها ونجهلها نحن، وورد تأكيد ذلك في الحديث القدسي الذي رواه الإمام الطبرانيّ وغيره (إنّ من عِبادي من لا يصلِحُ إيمانَهِ إلاّ الغنَى، ولو أفْقَرتُهُ لأ فْسَدَه ذلك، دَعَاني فَأجبتُه، وَسَأَلني فَأعطَيْتُه، ونصَح لي فنصَحْتُ له، وإنَّ من عبادي من لا يُصْلِحُ إيمانَه إِلاّ الفقرُ، وإن بسَطتُ لَه لأفَسَدَه ذلك( >18<•
وينتقل الكلام بعد ذلك للإجابة على السّؤال المطروح: هل هناك إمكانيَّة لإلغاء مشكلة الفقر بشكل كُلِّيٍّ؟
أكد القرآن الكريم في الآيات السّابقة أن الفقر في ذاته لا يقبل المحو من الوجود، وأنّ النّاس لا يزالون مختلفين فقراً وغِنىً إلى أن يرثَ اللّه سبحانه وتعالى الأرض ومن عليها•
وعلى الرّغم >19< من أنّ الإسلام دعا إلى تطبيق مبدأ العدالة الاجتماعيَّة، لكنّ تطبيق ذلك المبدأ ليس موجباً لإلغاء الفقر من هذا الوجود، بل هو يوجب تخفيف ويلاته النّفسيَّة والمادّيَّة، فلا يحقد الغنيّ فيكون الخراب، ولا يحرم الفقير من القوت والكساء والإيواء، فتضيع قوى عاملة كان يمكن أنْ تعمل، وتدرّ على الجماعة بعملها خيراً، وتدفَعُ عنها وعن نفسها ضراً•
وقد يكون الفقر ابتلاءً من اللّه سبحانه وتعالى لاختبار إيمان العبد وصبره، من خلال الجوع ونقص الأموال والثمرات، ولذلك قال تعالى: {ولنبلونّكم بشيءٍ من الخوف والجوع ونَقْصٍ من الأمْوالِ والأنفس والثمرات وبشرّ الصّابرين} >البقرة-155<
ويستنتج مِن كُلِّ ما تقدّم استحالة إزالة مشكلة الفقر بشكل كُلِّيّ، وإنَّ ما يمكن القيام به تجاه تلك المشكلة يتمثل بالتخفيف من آثارها، وربما إخراج بعض من يعانون منها، بل ربمّا تطهير بعض المجتّمعات منها خلال فترة زمنيَّة محدّدة، وذلك كما حصل في عهد الخليفة الرّاشد الخامس >عمر بن عبدالعزيز<]، حيث شكا إليه عامل الصّدقات في إفريقيا أنّه لا يجدُ فقيراً يعطيه من الصَّدقات، وبيت مال الصّدقات مملوء، فكتب إليه: سّدد الدّيْن عن المدينين، فَسَدّد، ثم شكا إليه: أنّ في بيت مال الصّدقات فَضْلاً، فكتب إليه: >إشترِ رقاباً وأعتقها
( الهوامش )
1- الندرة: وجود السلع والموارد التي تحت تصرفنا بكميات محدودة بالنسبة للحاجات التي يمكن إشباعها، وضد الندرة الوفرة، وهي تعني وجود السلع والموارد بكميات كبيرة التي تؤدي إلى إشباع الحاجات (معجم المصطلحات الاقتصادية لـ >أحمد بدوي< ص 262)•
2- تفسير >القرطبي< جـ 9 ص 12 •
3- في ظلال القرآن جـ 5 ص 197 – 198 بتصرف بسيط•
5- في جغرافية العالم الإسلامي للدكتورة >سارة >حسن منيمنة< ص 110 وما بعدها•
6- تفسير الطبري من كتابه جامع البيان عن تأويل آي القرآن جـ 6 ص 454 •
7 – المرجع نفسه جـ 6 ص 455 •
8- خصائص الاقتصاد الإسلامي وضوابطه الأخلاقية للدكتور >محمود محمد بابللي< ص 133 •
9- مدخل للفكر الاقتصادي في الإسلام للدكتور >سعيد سعد مرطان< ص 69 – 70 •
10-ومثل على ذلك عادة بالدول المصدرة للبترول، التي كانت تحقق عائدات كبيرة من وراء بيع البترول، وتحقق بالتالي فوائض مالية مرتفعة والجدير ذكره أن معظم تلك الدول أصبحت مدينة بسبب الحروب التي جرت وما زالت تجري في المنطقة، وتتحمل تلك الدول قسماً كبيراً من تبعاتها، من دون أن يكون لها دور في إيجادها أو المشاركة فيها•
11- ويمثل على ذلك عادة في معظم دول العالم الثالث، وخصوصاً تلك الدول النامية الواقعة في القارة الأفريقية، التي تعاني من مشكلة العجز الغذائي عن ندرة الموارد الزراعية والكثافة السكانية المتزايدة مثل موريتانيا والنيجر والسودان والجزائر والمغرب•
12- يعيش 23 في المئة من سكان العالم في الدول المتقدمة -ما يعرف بدول الشمال ويحصلون على 82 في المئة تقريبا من الدخل العالمي، بينا يعيش 77 في المئة من سكان العالم في الدول النامية – أو ما يعرف بدول الجنوب، ولا يحصلون إلا على 18 في المئة من الدخل العالمي، وهنا يظهر بشكل جلي سوء توزيع الثروة والدخول بين الشعوب•
13- موسوعة الاقتصاد الإسلامي للدكتور محمد عبد المنعم الجمال ص36 •
14- خصائص الاقتصاد الإسلامي وضوابطه الأخلاقية للدكتور محمود محمد بابلي ص 142 -143
15- مدخل للفكر الاقتصادي في الإسلام للدكتور >سعيد سعد مرطان< ص 72 – 73
16- تفسير الطبري، ج 6 ص519
17- تفسير ابن كثير، ج 3 ص40
18- جامع العلوم والحكم لـ >الحافظ ابن رجب< ص 358
19- تنظيم الاسلام للمجتمع لـ >محمد أبوزهرة< ص35