…..
تكريم الانسان في الاسلام
لقد " احترم الإسلام الذات الإنسانية وكرمها ، قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70] ، وكفل للإنسان أن يعيش آمنا، لا يعتدي عليه أحد، ومنعه من أن يعتدي على الآخرين، قال تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة:193]، وأعطى الإنسان الحق، في أن يتصرف في شؤون نفسه، وحمله مسؤولية هذا التصرف قال تعالى: لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:286 ] ، وأباح للإنسان أن يأكل ما يشاء ، ويشرب ما يشاء ، ويلبس ما يشاء ، ولكنه حدد ذلك بأوامره ونواهيه ، فلا يحل له أن يأكل ما حرمه الله ، كالميتة ، ولا يجوز له أن يشرب ما حرمه الله ، كالخمر ، ولا يجوز له أن يلبس ما نهى الله عنه كالحرير للرجال .. ، وهكذا فالحرية الشخصية أو حرية الذات محددة بأوامر الله ونواهيه " (عبد العزيز خياط ، المجتمع المتكافل في الإسلام ، 1392: 82) ، ومن هنا فإن القرآن " يبدأ في إقامة المجتمع الطاهر النظيف ، يطهر الفرد ، فيطهر عقيدته ونفسه ، ويسمو بدوافعه ، ويوزع طاقاته بين الأرض والسماء ، وبين الدنيا والآخرة ، وبين الحاضر والآتي ، وبين ذاته ودعوته ، ويتعهده بفرائض تروضه على الحياة النظيفة والخلق الكريم ، والأسرة هي الوحدة الأولى في المجتمع ، والبيئة الصغيرة للفرد ، لهذا أقامها القرآن على أساس من الحق والعدل والإحسان ، وأحاطها بفيض من البر والمواساة والحب " ( محمد شديد ، منهج القرآن في التربية ، 1989: 136) .
وكما أن القرآن الكريم اهتم بالفرد والأسرة فقد اهتم بالمجتمع أيضا ، " فالدين جاء ليحكم شؤون الحياة كلها ، على مستوى الفرد والجماعة ، في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية ، والسياسية والعلمية وسواها ..، فهو دين جاء ليربط العبد بربه ، تعبداً ورجاءً وخوفا ، ومن ثم جاءت الشعائر التعبدية ، وهو دين جاء ليحكم حياة الناس ، ويدير شؤونهم ، فليس كهنوتا ولا رهبانية ، ولا عزلة عن واقع الحياة .. وهو دين جاء ليضبط التعبد ، ويضبط الحركة ، بضابط الكتاب والسنة ، فلا يكون هناك مجال للعواطف المجردة ، ولا للأمزجة الشخصية ، فلابد من العلم بالكتاب والسنة ، حتى نصحح عباداتنا وأعمالنا "( سلمان العودة ، من أخلاق الداعية ،1411: 58-60) .
ومن أبرز تكريم الله للإنسان أن أنعم عليه بهذا الدين " فالإيمان هو أقوى الأساليب وأمضاها في مواجهة جميع أنواع المشكلات ، في هذه الحياة الدنيا ، ومنها المشكلات النفسية ، فكلما قوي إيمان الإنسان وزاد ، كلما كان أقوى في مقاومة المشكلة النفسية ، وأبعد من أن يقع فريسة لها " ، (صالح الصنيع ، التدين والصحة النفسية ،1421: 412) .
إن النفس تسمو وتزكو بزيادة الإيمان ، وحيث أن الإيمان – كما هو مذهب أهل السنة والجماعة – يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، وحيث أن سكينة النفس هي الينبوع الأول للسعادة ، ولكن كيف السبيل إليها ؟ إذا كانت شيئا لا ينتجه الذكاء أو الصحة أو القوة أو المال أو الشهرة أو غير ذلك من نعم الحياة المادية ، إن للسكينة مصدرا واحدا وأساسيا هو الإيمان بالله عز وجل ، الإيمان الصادق العميق الذي لا يكدره شك أو يفسده نفاق ، إن هذه السكينة من ثمار درجة الإيمان وشجرة التوحيد الطيبة ( سيد مرسي ، الإيمان والصحة النفسية ، 1415: 153) .
وإن الشخصية تتشكل في المنهج الإسلامي من خلال إشباع الحاجات وفق ما بينه المنهج الإسلامي ، ومن هذه الحاجات ما ذكره علماء النفس ومنها ما غفلوا عنه مثل : الحاجة إلى الهداية ، والتي تتمثل في التطلع إلى الهداية والرغبة في التعرف الواعي على الخالق سبحانه ، فالهداية إلى الإيمان نعمة كنعمة الطعام والشراب .. ، ومن الحاجات كذلك الحاجة إلى التوبة ، حيث تتناسب وطبيعة الإنسان المعرض للخطأ والانحراف والقابل للندم والأسف والرجوع ، ومن هذه الحاجات ، الحاجة إلى الذكر من الغفلة والنسيان ، وهي تناسب طبيعة الإنسان المطبوع على الغفلة والمستهدف من قبل الشيطان وجنده ، ومن ذلك الحاجة إلى الانتماء ، وهي وإن كانت من الحاجات المذكورة في علم النفس إلا أن الإسلام أسسها بطريقة مختلفة ، فلم يجعل الانتماء على أساس الأرض أو اللون أو الجنس ، وإنما جعله على أساس العقيدة والفكر ، وعلى أساس الوحدة النفسية والقلبية المبنية على وحدة الشعور والولاء والتوجه ( عبد العزيز النغيمشي ، بحث الإرشاد النفسي ،1411) .
كما أن الشخصية تتشكل في المنهج الإسلامي من خلال ترقيها في درجات الإيمان – وفق المفهوم الشرعي للإيمان – ، إذ تنبني وفق مفهومي الدين والإيمان اللذين يقررهما القرآن والسنة ، وذلك بتدرجها في سلم الإيمان الذي يؤهلها لاكتساب صفات وسمات معينة حسب الدرجة التي تقع فيها ، تبعا للمبادئ الأربعة لمفهوم الإيمان وآثاره وهي : أن العمل والسلوك مكون رئيس للإيمان ، وأن الإيمان يزيد وينقص ، وأن المؤمنين يتفاوتون في الإيمان ، وأخيرا إن للمؤمنين صفات وسمات ( المرجع السابق ) .
إن التجربة الإيمانية داخل الفرد تؤثر فيه بالقدر الذي تصبغه بصبغتها الصافية ، وتحدد سلوكه في مواجهة الأحداث المتجددة ، إنها ترفض " الأنا " لتتحول إلى شعور عام مميز قوامه الأخلاق والمبادئ والتصورات الفريدة التي يبصر بها الفرد من خلال منظارها الخاص (حسني جاد الكريم ، محاولة لإعادة بناء الذات المسلمة ، 1984 :33 ) ، ولذا نرى كيف أن الإسلام أحدث تغييرا شاملا في شخصية الفرد العربي الجاهلي ، فقد حوله من الوثنية والكفر وعبادة الأصنام ووأد البنات والنهب والعصبية القبلية ، إلى التوحيد والإيمان وعبادة الله وحده سبحانه والأمانة والتسامح ، الأمر الذي جعل التاريخ يسجل لتلك الشخصيات الفذة في القرون الأولى في عصر الإسلام درجة عظيمة من المكانة والرفعة ، وهذا لم يكن ليتم لولا نجاح التربية الإسلامية ، في شتى جوانب تلك الشخصيات الرائعة ، ولا غرو فالجانب الإيماني من أهم الجوانب في تكوين شخصية المسلم وتشكيلها ، لِمَ للإيمان من أثر واضح على النمو النفسي والأخلاقي والاجتماعي والعقلي والانفعالي والصحي ، فالعقيدة الصحيحة أساس الفكرة السليمة والرأي السديد الخلق الفاضل ، ومن هنا كان الجانب الإيماني من أولى الجوانب في تكوين الشخصية المؤمنة ، بل يُعد المرتكز الأساس في تكوين جوانب الشخصية كافة ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما بدأ في تكوين شخصيات أصحابه صلى الله عليه وسلم بهذا الجانب ، حيث بدأ بغرس العقيدة الإسلامية (عبد الرحمن الغامدي ، بحث الجوانب المكونة لشخصية الإنسان المسلم ،1416 ) .
وإن الإيمان إذا تمكن وتغلغل في النفس فـ " إنه يضفي على صاحبه قوة ، تنطبع على سلوكه كله ، فإذا تكلم كان واثقا من قوله ، وإذا اشتغل كان راسخا في عمله ، وإذا اتجه كان واضحا في هدفه ، ومادام مطمئنا إلى الفكرة التي تملأ عقله ، و إلى العاطفة التي تعمر قلبه ، قلما يعرف التردد سبيلا إلى نفسه ، وقلما تزحزحه العواصف العاتية عن موقفه ، بل لا عليه أن يقول لمن حوله : قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ{39} مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ{40}:الزمر39-40] ، إن رآهم على صواب تعاون معهم ، وإن وجدهم مخطئين نأى بنفسه واستوحى ضميره وحده ، قال رسول -صلى الله عليه وسلم : [ لا تَكونوا إمَّعَةً ، تقُولونَ إنْ أحسَنَ النَّاسُ أحسناً ، وإنْ ظَلَموا ظَلَمنا ، ولكنْ وطِّنُوا أنفُسكُم ، إنْ أحسَنَ النَّاسُ أن تُحسنُوا ، وإنْ أسَاءوا فلا تَظلِموا ] رواه الترمذي (1403 م3: 246) " (طه العفيفي من وصايا الرسول -صلى الله عليه وسلم ، 1405م3: 13) .
وللعبادات أثرها في الفرد المسلم ، فالعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله من الأعمال والأقوال والأفعال ، فالعبادة لا تقتصر على الجوانب الأساسية المخصوصة من الأعمال والأقوال كالصلاة والصيام والحج والذكر ، فإنه وإن تكن هذه الأمور عظيمة في قدرها وأهميتها وتأثيرها ، لكنها ليست هي وحدها العبادة دون غيرها من الممارسات والأفعال ، فمن المعلوم أن الإسلام بما يتَّسِم به من الشمول والاتساع والمرونة ، يمتد امتدادا يتناول كل أطراف الحياة ومناحيها من القضايا والمشكلات والأمور ، فهو يمتد ليشمل فرائض ومندوبات شتى يؤجر فاعلها من الله أجرا كبيرا (أمير عبد العزيز ، الإنسان في الإسلام ، 1406: 60 ) .
إذن فالإسلام دين شامل : يشمل العقائد والعبادات والمعاملات ، وكلها تدخل في التكاليف التي أمر الله بها الإنسان عندما عُرِضت عليه الأمانة ، وقد قرن الله سبحانه التكاليف بمطالبة الإنسان بالنتائج السلوكية التي يستلزم أداء هذه التكاليف ، ذلك أن الله أراد من دعوة الإنسان إلى الإيمان بالله واليوم الآخر والقدر والملائكة والكتاب والنبيين ، أن يقرن هذا الإيمان بحركة فكرية وعاطفية في أعماق الإنسان تتحول إلى قوة دافعة ، تحقق مدلولها في عالم الواقع .. قوة تدفع الإنسان إلى تحقيق عبوديته لله في سلوكه وأعماله ومجتمعه .
وللحياة التعبدية مهام منها : تنظيم سلوكي للإنسان ينظم الإنسان من خلالها علاقته بالله والناس ، وكذلك تنظيم عاطفي مبني على محبة العبد لربه وارتباطه بخالقه ينفذ أوامره ، لأنه يعرف أن فيها مصلحته ، وينتهي عن نواهيه لأنه يعرف أن فيها ضرره ، فما الدقائق والساعات والأيام التي يقضيها الإنسان في العبادات الراتبة كالصلاة والصيام والزكاة والحج ، إلا تذكرة بهذه الصلة المستمرة بالله وترويض للنفس على الخضوع الدائم لله عز وجل ، كما أنها – أي الحياة التعبدية – تنظيم اجتماعي مبني على تحقيق التوازن الاجتماعي في المواعيد والمطعم والملبس والإنفاق ، فالله نظم حياة الإنسان ، فجعل الليل لراحته والنهار لشغله ومعاشه ، ويأكل الطيبات ويمسك عن المحرمات وينفق المال في مصارفه الشرعية ، كما أن الحج تنظيم اجتماعي للحياة على أساس جمع الناس في موقف واحد يدعون ربا واحدا بتلبية واحدة في لباس واحد تحت لواء الله سبحانه ، استجابة لنداء الله على لسان نبيه إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، كما أنها تنظيم للعلاقات الاقتصادية بين الناس وفق ما شرع الله ، وتنظيم كل ما يتعلق بالنواحي المالية والاقتصادية من بيع وشراء ورهن وزراعة ومضاربة .. وغير ذلك من الأمور الاقتصادية التي تلزم الإنسان في علاقته بالناس جميعا ، كما أنها تنظيم حياتي نفسي : فالصلاة تنظيم للحياة اليومية على أساس أنها صلة بين العبد وربه ، ولقاء منظم في أوقات محددة مع الله فيرتبط قلب الإنسان بالله عز وجل ارتباطا يجعله ربانيا ، وتنظيم نفسي للتغلب على شهوتي البطن والفرج ، وتقوية الإرادة الإنسانية في مواجهة المغريات ، حتى تبقى خاضعة لشريعة الله ومرضاته ، بعيدة عن غضبه عز وجل (أحمد عليان ، بحث الإنسان في الإسلام ، 1416) .
وإن للعبادات المختلفة أثر واضح في تربية الفرد والمجتمع ، ونتائج ثابتة دائمة في عقل الناشئ ، وفي تكوين شخصيته وأسلوب تفكيره ، وفي نمط حياته السلوكية وفي مشاعره و عواطفه ، وفي إرادته وعزيمته ، نظرا لأن العبادات شاملة لكل جوانب الحياة الإنسانية ، منها العبادة الجسدية والفكرية والمالية ، ومنها ما يتعلق بصلة العبد بربه ، ومنها ما يتعلق بصلة الإنسان بغيره من الناس وصلته مع نفسه .
وينتج عن العبادات أساس أخلاقي دائم والتزام تصدر عنه صفات عظيمة منها : الأمانة : حيث يسعى أن يكون الإنسان أمينا مع نفسه وأمينا مع الناس وأمينا مع الله سبحانه ، وتحمل الأمانة العامة يؤدي الأمانة لمن ائتمنه ولا يخن من خانه ، ومنها الوفاء بالعهد : فالله عز وجل أخذ العهد على الإنسان على ألا يشرك به شيئا وأن يبرَّ والديه ويحسن إلى جاره ، فالعهد مسئولية على الإنسان أن يؤديها ، ومنها الصدق : وهو من الصفات التي يتميَّز بها المؤمن لأن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة ، فالإنسان الصادق إنسان يُعتمد عليه في كل أمر ، وغير الصدق صفات كثيرة بعث بها محمد صلى الله عليه وسلم ليغرسها في نفوس أمته .. إن هذه الصفات الخلقية تصدر عن الإنسان المؤمن تلقائيا وبعيدا عن أي مصلحة أو اعتبارات شخصية أو رياء أو مداهنة للناس .. حيث الغاية والهدف مرضاة الله سبحانه (أحمد عليان 1416) .
فما أعظم هذا الدين وأعظم جريرتنا في التفريط به !!