أ- موضوع الرسالة، والشبه التي أثارها كفار مكة حول دعوة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
ب- قصة أصحاب الجنة "البستان"، لبيان نتيجة الكفر بنعم الله تعالى.
ج- الآخرة وأهوالها وشدائدها، وما أعدَّ الله للفريقين: المسلمين والمجرمين.
ولكن المحور الذي تدور عليه السورة الكريمة هو موضوع إِثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
* ابتدأت السورة الكريمة بالقسم على رفعة قدر الرسول صلى الله عليه وسلم وشرفه وبراءته مما ألصقه به المشركون من اتهامه – وحاشاه – بالجنون، وبينت أخلاقه العظيمة، ومناقبه السامية {ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإِنَّ لك لأجراً غير ممنون وإِنك لعلى خُلُقٍ عظيم} .. الآيات.
* ثم تناولت موقف المجرمين من دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أعدَّ الله لهم من العذاب والنكال {فلا تطع المكذبين ودُّوا لو تُدهن فيدهنون ولا تطع كل حلاَّف مهين ..} الآيات.
* ثم ضربت مثلاً لكفار مكة في كفرانهم نعمة الله العظمى ببعثة خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم إليهم وتكذيبهم به بقصة أصحاب الجنة "الحديقة" ذاتِ الأشجار والزروع والثمار، حيث جحدوا نعمة الله ومنعوا حقوق الفقراء والمساكين، فأحرق الله حديقتهم وجعل قصتهم عبرةً للمعتبرين {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذْ أقسموا ليصر مُنَّها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم} الآيات.
* ثم قارنت السورة بين المؤمنين والمجرمين، على طريقة القرآن في الجمع بين الترغيب والترهيب {أفنجعل المسلمين كالمجرمين ..} الآيات.
* وتناولت السورة الكريمة القيامة وأحوالها وأهوالها، وموقف المجرمين في ذلك اليوم العصيب، الذي يكلفون فيه بالسجود لربِّ العالمين فلا يقدرون {يوم يكشف عن ساقٍ ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون} الآيات.
* وختمت السورة الكريمة بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذى المشركين، وعدم التبرم والضجر بما يلقاه في سبيل تبليغ دعوة الله كما حدث من يونس عليه السلام حين ترك قومه وسارع إلى ركوب البحر {فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم} الآيات.
بيان رفعة قدر النبي صلى الله عليه وسلم
{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ(1)مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ(2)وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ(3)وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4)فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ(5)بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ(6)إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(7)}
سبب النزول:
نزول الآية (2) {ما أنت ..}:
أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: كانوا يقولون للنبّي صلى الله عليه وسلم: إنه مجنون، ثم شيطان، فنزلت: {ما أنت بنعمة ربِّك بمجنون}.
نزول الآية (4) {وإِنك لعلى خلق عظيم}:
سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه، فقالت: كان خلقه القرآن، ألست تقرأ القرآن: {قد أفلح المؤمنون} إلى عشر ءايات [المؤمنون: 10].
{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} نون حرف من الحروف المقطعة، ذكر للتنبيه على إعجاز القرآن .. أقسم تعالى بالقلم الذي يكتب الناس به العلوم والمعارف، فإن القلم أخو اللسان ونعمة من الرحمن على عباده والمعنى: أُقسم بالقلم وما يكتبه الكاتبون على صدق محمد وسلامته مما نسبه إليه المجرمون من السفه والجنون، وفي القسم بالقلم والكتابة إشادة بفضل الكتابة والقراءة، فالإِنسان من بين سائر المخلوقات خصه الله بمعرفة الكتابة ليفصح عما في ضميره {الذي علَّم بالقلم * علَّم الإِنسان ما لم يعلم} وحسبك دليلاً على شرف القلم أن الله أقسم به في هذه السورة تمجيداً لشأن الكاتبين، ورفعاً من قدر أهل العلم، ففي القلم البيان كما في اللسان، وبه قوام العلوم والمعارف، قال ابن كثير: والظاهر من قوله تعالى {وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} أنه جنس القلم الذي يكتب به، وهو قسم منه تعالى لتنبيه خلقه على ما أنعم به عليهم من تعليم الكتابة التي بها تنال العلوم {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} أي لست يا محمد بفضل الله وإنعامه عليك بالنبوة مجنوناً، كما يقول الجهلة المجرمون، {يا أيها الذي نُزِّل عليه الذكر إنك لمجنون} قال ابن عطية: هذا جواب القسم، وقوله {بنعمة ربك} اعتراض كما تقول للإِنسان: أنت – بحمد الله – فاضل {وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} أي وإِنّ لك لثواباً على ما تحملت من الأذى في سبيل تبليغ دعوة الله غير مقطوع ولا منقوص {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} أي وإنك يا محمد لعلى أدب رفيع جم، وخلق فاضل كريم، فقد جمع الله فيه الفضائل والكمالات .. يا له من شرف عظيم، لم يدرك شأوه بشر، فربُّ العزة جل وعلا يصف محمداً بهذا الوصف الجليل {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وقد كان من خلقه صلى الله عليه وسلم العلم والحلم، وشدة الحياء، وكثرة العبادة والسخاء، والصبر والشكر، والتواضع والزهد، والرحمة والشفقة، وحسن المعاشرة والأدب، إلى غير ذلك من الخلال العلية، والأخلاق المرضية ولقد أحسن القائل:
إذا الـلــه أثنى بالذي هو أهــله عليك فما مقدار ما تمدح الورى؟
{فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} أي فسوف ترى يا محمد، ويرى قومك ومخالفوك -كفار مكة – إذا نزل بهم العذاب {بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ} أي أيكم الذي فتن بالجنون؟ هل أنت كما يفترون، أم هم بكفرهم وانصرافهم عن الهدى؟ قال القرطبي: والمفتون: المجنون الذي فتنه الشيطان، ومعظم السورة نزل في "الوليد بن المغيرة" و "أبي جهل" وقد كان المشركون يقولون: إن بمحمد شيطاناً، وعنوا بالمجنون هذا، فقال الله تعالى سيعلمون غداً بأيهم المجنون أي الشيطان الذي يحصل من مسه الجنون واختلاط العقل {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} أي هو سبحانه العالم بالشقي المنحرف عن دين الله وطريق الهدى {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} أي وهو العالم بالتقي المهتدي إلى الدين الحق، وهو تعليل لما قبله وتأكيد للوعد والوعيد كأنه يقول: إنهم هم المجانين على الحقيقة لا أنت، حيث كانت لهم عقول لم ينتفعوا بها، ولا استعملوها فيما ينجيهم ويسعدهم.
الأخلاق الذميمة عند الكفار
{فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ(8)وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ(9)وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ(10)هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ(11)مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ(12)عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ(13)أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ(14)إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءاياتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ(15)سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ(16)}
{فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} أي فلا تطع رؤساء الكفر والضلال الذين كذبوا برسالتك وبالقرآن، فيما يدعونك إليه، قال الرازي: دعاه رؤساء أهل مكة إلى دين آبائه، فنهاه الله أن يطيعهم، وهذا من الله إلهاب وتهييج للتشدد في مخالفتهم {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} أي تمنوا لو تلين لهم يا محمد، وتترك بعض ما لا يرضونه مصانعة لهم، فيلينوا لك ويفعلوا مثل ذلك، قال ابن جزي: المداهنة: هي الملاينة والمداراة فيما لا ينبغي، روي أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لو عبدت آلهتنا لعبدنا إلهك فنزلت الآية {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ} أي ولا تطع يا محمد كثير الحلف بالحق والباطل، الذي يكثر من الحلف مستهيناً بعظمة الله {مَهِينٍ} أي فاجر حقير {هَمَّازٍ} أي مغتاب يأكل لحوم الناس بالطعن والعيب {مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} أي يمشي بالنميمة بين الناس، وينقل حديثهم ليوقع بينهم وهو الفنان، وفي الحديث الصحيح (لا يدخل الجنة نمام) {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} أي بخيل ممسك عن الإِنفاق في سبيل الله {مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} أي ظالم متجاوز في الظلم والعدوان، كثير الآثام والإِجرام، وجاءت الأوصاف {حلاف، هماز مشاء، مناع} بصيغة المبالغة للدلالة على الكثرة {عُتُلٍّ} أي جاف غليظ، قاسي القلب عديم الفهم {بَعْدَ ذَلِكَ} أي بعد تلك الأوصاف الذميمة التي تقدمت {زَنِيمٍ} أي ابن زنا، وهذه أشد معايبه وأقبحُها، أنه لصيق دعي ليس له نسب صحيح، قال المفسرون: نزلت في "الوليد بن المغيرة" فقد كان دعياً في قريش وليس منهم، ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة سنة – أي تبناه ونسبه لنفسه بعد أن كان لا يعرف له أب – قال ابن عباس: لا نعلم أحداً وصفه الله بهذه العيوب غير هذا، فألحق به عاراً لا يفارقه أبداً، وإِنما ذَمَّ بذلك لأن النطفة إِذا خبثت خبث الولد، وروي أن الآية لما نزلت جاء الوليد إلى أمه فقال لها: إن محمداً وصفني بتسع صفات، كلها ظاهرة فيَّ اعرفها غير التاسع منها يريد أنه {زَنِيم} فإن لم تصدقيني ضربت عنقك بالسيف، فقالت له: إن أباك كان عنيناً – أي لا يستطيع معاشرة النساء – فخفت على المال فمكنت راعياً من نفسي فأنت ابن ذلك الراعي، فلم يعرف أنه ابن زنا حتى نزلت الآية {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} أي لأن كان ذا مال وبنين قال في القرآن ما قال، وزعم أنه أساطير الأولين؟ وكان ينبغي أن يقابل النعمة بالشكر لا بالجحود والتكذيب {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءاياتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} أي إذا قرئت ءايات القرآن على ذلك الفاجر قال مستهزئاً ساخراً: إنها خرافات وأباطيل المتقدمين اختلقها محمد ونسبها إلى الله، قال تعالى رداً عليه متوعداً له بالعذاب {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} أي سنجعل له علامة على أنفه بالخطم عليه يعرف بها إلى موته، وكنى بالخرطوم عن أنفه على سبيل الاستخفاف به، لأن الخرطوم للفيل والخنزير، فإذا شبه أنف الإِنسان به كان ذلك غاية في الإِذلال والإِهانة كما يعبر عن شفاه الناس بالمشافر، وعن أيديهم وأرجلهم بالأظلاف والحوافر، قال ابن عباس: سنخطم أنفه بالسيف فنجعل ذلك علامة باقية على أنفه ما عاش، وقد خطم يوم بدر بالسيف، قال الإِمام الفخر الرازي: لما كان الوجه أكرم موضع في الجسد، والأنف أكرم موضع من الوجه لارتفاعه عليه، ولذلك جعلوه مكان العز والحمية واشتقوا منه الأَنفَة، وقال في الذليل: رغم أنفه، فعبر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإِذلال والإِهانة، لأن السمة على الوجه شين، فكيف على أكرم موضع من الوجه!!
سبب النزول:
نزول الآية (17):
{إنا بلوناهم ..}: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج أن أبا جهل قال يوم بدر: خذوهم أخذاً، فاربطوهم في الحبال، ولا تقتلوا منهم أحداً، فنزلت: {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة} أي في قدرة أهل مكة على المؤمنين، كما اقتدر أصحاب الجنة على الجنة.
قصة أصحاب الحديقة
{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ(17)وَلا يَسْتَثْنُونَ(18)فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ(19)فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ(20)فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ(21)أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ(22)فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ(23)أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ(24)وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ(25)فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ(26)بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ(27)قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ(28)قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ(29)فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ(30)قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ(31)عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ(32)كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(33)}
ثم ذكر تعالى قصة أصحاب الحديقة وما ابتلاهم تعالى به من إتلاف الزروع والثمار وضربه مثلاً لكفار مكة فقال {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} أي إنا اختبرنا أهل مكة بالقحط والجوع بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما اختبرنا أصحاب البستان المشتمل على أنواع الثمار والفواكه، وكلفنا أهل مكة أن يشكروا ربهم على النعم، كما كلفنا أصحاب الجنة أن يشكروا ويعطوا الفقراء حقوقهم، قال المفسرون: كان لرجل مسلم بقرب صنعاء بستان فيه من أنواع النخيل والزروع والثمار، وكان إذا حان وقت الحصاد دعا الفقراء فأعطاهم نصيباً وافراً منه وأكرمهم غاية الإِكرام فلما مات الأب ورثه أبناؤه الثلاثة فقالوا: عيالنا كثير والمال قليل ولا يمكننا أن نعطي المساكين كما كان يفعل أبونا، فتشاوروا فيما بينهم وعزموا على ألا يعطوا أحداً من الفقراء شيئاً، وأن يجنوا ثمرها وقت الصباح خفية عنهم، وحلفوا على ذلك، فأرسل الله تعالى ناراً على الحديقة ليلاً أحرقت الأشجار وأتلفت الثمار، فلما أصبحوا ذهبوا إلى حديقتهم فلم يروا فيها شجراً ولا ثمراً، فظنوا أنهم أخطأوا الطريق، ثم تبين لهم أنها بستانهم وحديقتهم وعرفوا أن الله تعالى عاقبهم فيها بنيتهم السيئة، فندموا وتابوا بعد أن فات الأوان {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} أي حين حلفوا ليقطعن ثمرها وقت الصباح، قبل أن يخرج إليهم المساكين {وَلا يَسْتَثْنُونَ} أي ولم يقولوا إن شاء الله حين حلفوا، كأنهم واثقون من الأمر {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} أي فطرقها طارق من عذاب الله، وهم في غفلة عما حدث لأنهم كانوا نياماً، قال الكلبي: أرسل الله عليها ناراً من السماء فاحترقت وهم نائمون {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} أي فأصبحت كالزرع المحصود إذا أصبح هشيماً يابساً، قال ابن عباس: أصبحت كالرماد الأسود، قد حرموا خير جنتهم بذنبهم {فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ} أي نادى بعضهم بعضاً حتى أصبحوا ليمضوا على الميعاد إلى بستانهم {أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ} أي اذهبوا مبكرين إلى ثماركم وزروعكم وأعنابكم إن كنتم حاصدين للثمار تريدون قطعها {فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} أي فانطلقوا نحو البستان وهم يخفون كلامهم خوفاً من أن يشعر بهم المساكين قائلين {أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} أي لا تدخلوا في هذا اليوم أحداً من الفقراء إلى البستان ولا تمكنوه من الدخول {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} أي ومضوا على قصد وقدرة في أنفسهم يظنون أنهم تمكنوا من مرادهم، قال ابن عباس: {عَلَى حَرْدٍ} على قدرة وقصد، وقال السدّيّ: على حنق وغضب، وقال الحسن: على فاقة وحاجة، وقول ابن عباس أظهر {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} أي فلما رأوا حديقتهم سوداء محترقة، قد استحالت من النضارة والبهجة إلى السواد والظلمة، قالوا لقد ضللنا الطريق إليها وليست هذه حديقتنا، قال أبو حيان: كان قولهم ذلك في أول وصولهم إليها، أنكروا أنها هي واعتقدوا أنهم أخطأوا الطريق، ثم وضح لهم أنها هي وأنه أصابها من عذاب الله ما أذهب خيرها فقالوا عند ذلك {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي لسنا مخطئين للطريق بل نحن محرومون، حرمنا ثمرها وخيرها بجنايتنا على أنفسنا {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ}؟ أي قال أعقلهم وأفضلهم رأياً: هلا تسبحون الله فتقولون "سبحان الله" أو "إن شاء الله"، قال أبو حيّان: نبههم ووبخهم على تركهم ما حضهم عليه من التسبيح، ولو ذكروا الله وإحسانه إليهم لامتثلوا ما أمر به من مواساة المساكين، واقتفوا سنة أبيهم في ذلك، فلما غفلوا عن ذكر الله وعزموا على منع المساكين ابتلاهم الله، وقال الرازي: إن القوم حين عزموا على منع الزكاة واغتروا بمالهم وقوتهم، قال الأوسط لهم توبوا عن هذه المعصية قبل نزول العذاب، فلما رأوا حالة البستان ذكرهم بالكلام الأول، فاشتغلوا بالتوبة ولكن بعد خراب البصرة {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} أي فقالوا حينئذٍ: تنزه الله ربنا عن الظلم فيما فعل، بل نحن كنا الظالمين لأنفسنا في منعنا حق المساكين {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ} أي يلوم بعضهم بعضاً يقول هذا أنت أشرت علينا بهذا الرأي، ويقول ذاك: بل أنت، ويقول آخر: أنت الذي خوفتنا الفقر ورغبتنا في جمع المال، فهذا هو التلاوم {قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} أي قالوا يا هلاكنا وتعاستنا إن لم يغفر لنا ربنا، فقد كنا عاصين وباغين في منعنا الفقراء، وعدم التوكل على الله، قال الرازي: والمراد أنهم استعظموا جرمهم {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا} أي لعل الله يعطينا أفضل منها بسبب توبتنا واعترافنا بخطيئتنا {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} أي فنحن راجون لعفوه، طالبون لإِحسانه وفضله .. ساق تعالى هذه القصة ليعلمنا أن مصير البخيل ومانع الزكاة إلى التلف، وأنه يضن ببعض ماله في سبيل الله فيهلك كل ماله مصحوباً بغضب الله، ولذلك عقب تعالى بعد ذكر هذه القصة بقوله {كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي مثل هذا العذاب الذي نزل بأهل الجنة ينزل بقريش، ولعذاب الآخرة أعظم وأشد من عذاب الدنيا لو كان عندهم فهم وعلم، قال ابن عباس: هذا مثل لأهل مكة حين خرجوا إلى بدر، وحلفوا ألا يرجعوا إلى مكة حتى يقتلوا محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويشربوا الخمور، وتضرب القينات – المغنيات – على رؤوسهم، فأخلف الله ظنهم، فقتلوا وأُسروا وانهزموا كأهل هذه الجنة لما خرجوا عازمين على الصرام فخابوا .
جزاء المؤمنين المتقين
{إِنَّ لِلْمتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ(34)أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35)مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(36)أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ(37)إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ(38)أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ(39)سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ(40)أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ(41)يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ(42)خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ(43)}
ثم أخبر تعالى عن حال المؤمنين المتقين بعد أن ذكر حال المجرمين من كفار مكة فقال {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} أي إن للمتقين في الآخرة حدائق وبساتين ليس فيها إلا النعيم الخالص، الذي لا يشوبه كدر ولا منغص كما هو حال الدنيا {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}؟ الاستفهام للإِنكار والتوبيخ أي أفنساوي بين المطيع والعاصي، والمحسن والمجرم؟ {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}؟ تعجب منهم حيث إنهم يسوُّون المطيع بالعاصي، والمؤمن بالكافر، فإن مثل هذا لا يصدر عن عاقل {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ}؟ أي هل عندكم كتاب منزل من السماء تقرؤون وتدرسون فيه {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} هذه الجملة مفعول لتدرسون أي تدرسون في هذا الكتاب ما تشتهون وتطلبون؟ وهذا توبيخ آخر للمشركين فيما كانوا يزعمونه من الباطل حيث قالوا: إن كان ثمة بعث وجزاء، فسنعطى خيراً من المؤمنين كما أعطينا في الدنيا، قال الطبري: وهذا توبيخ لهؤلاء القوم وتقريع لهم فيما كانوا يقولون من الباطل، ويتمنون من الأماني الكاذبة {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي هل لكم عهود ومواثيق مؤكدة من جهتنا ثابتة إلى يوم القيامة؟ {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} هذا جوابه أي إن لكم الذي تريدونه وتحكمون به؟ قال ابن كثير: المعنى أمعكم عهود ومواثيق مؤكدة أنه سيحصل لكم ما تريدون وتشتهون {سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} أي سل يا محمد هؤلاء المكابرين أيهم كفيل وضامن بهذا الذي يزعمون؟ وفيه نوع من السخرية والتهكم بهم، حيث يحكمون بأمور خارجة عن العقول، يرفضها المنطق وتأباها العدالة {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} أي أم لهم شركاء وأرباب يكفلون لهم بذلك، فليأتوا بهم إن كانوا صادقين في دعواهم، قال ابن جزي: وهذا تعجيز للكفار والمراد إن كان لكم شركاء يقدرون على شيء، فأتوا بهم وأحضروهم حتى نرى حالهم .. ولما أبطل مزاعمهم وسفه أحلامهم، شرع في بيان أهوال الآخرة وشدائدها فقال {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} أي اذكر يا محمد لقومك ذلك اليوم العصيب الذي يكشف فيه عن أمر فظيع شديد في غاية الهول والشدة، قال ابن عباس: هو يوم القيامة يوم كرب وشدة، قال القرطبي: والأصل فيه أن من وقع في شيء يحتاج فيه إلى الجد شمر عن ساقه، فاستعير الساق والكشف عنها في موضع الشدة كقول الراجز:
قد كشفت عن ساقها فشدوا وجدَّت الحرب بكم فجدوا
{وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} أي ويدعى الكفار للسجود لرب العالمين فلا يستطيعون لأن ظهر أحدهم يصبح طبقاً واحداً، وفي الحديث (يسجد لله كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً) {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} أي ذليلة متواضعة أبصارهم لا يستطيعون رفعها {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أي تغشاهم وتلحقهم الذلة والهوان {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} أي والحال أنهم كانوا في الدنيا يدعون إلى السجود وهم أصحاء الأجسام معافون فيأبون، قال الإِمام الفخر الرازي: لا يدعون إلى السجود تعبداً وتكليفاً، ولكن توبيخاً وتعنيفاً على تركهم السجود في الدنيا، ثم إنه تعالى يسلب عنهم القدرة على السجود ويحول بينهم وبين الاستطاعة حتى تزداد حسرتهم وندامتهم على ما فرطوا فيه، حين دعوا إليه في الدنيا وهم سالمو الأطراف والمفاصل.
تخويف الكفار من قدرة الله، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر
{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ(44)وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ(45)أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ(46)أَمْ عِنْدَهُمْ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ(47)فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ(48)لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ(49)فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ(50)وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ(51)وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(52)}
{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} أي اتركني يا محمد ومن يكذب بهذا القرآن لأكفيك شره وأنتقم لك منه!! وهذا منتهى الوعيد {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} أي سنأخذهم بطريق الاستدراج بالنعم، إلى الهلاك والدمار، من حيث لا يشعرون، قال الحسن: كم من مفتون بالثناء عليه، وكم من مغرور بالستر عليه، قال الرازي: الاستدراج أن يستنزله إليه درجة حتى يورطه فيه، فكلما أذنبوا ذنباً جدَّد الله لهم نعمة وأنساهم الاستغفار، فالاستدراج إنما حصل لهم من الإِنعام عليهم، لأنهم يحسبونه تفضيلاً لهم على المؤمنين، وهو في الحقيقة سبب لهلاكهم {وَأُمْلِي لَهُمْ} أي أُمهلهم وأُطيل في أعمارهم ليزدادوا إثماً {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} أي إن انتقامي من الكافرين قوي شديد وفي الحديث (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) ثم قرأ صلى الله عليه وسلم {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} وإنما سمى إحسانه كيداً كما سماه استدارجاً لكونه في صورة الكيد، فما وقع لهم من سعة الأرزاق، وطول الأعمار، وعافية الأبدان، إحسانٌ في الظاهر، وبلاء في الباطن، لأن المقصود معاقبتهم وتعذيبهم به {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} أي أتسألهم يا محمد غرامة مالية على تبليغ الرسالة، فهم معرضون عن الإِيمان بسبب ذلك التكليف الثقيل ببذلهم المال؟ والغرض توبيخهم في عدم الإِيمان فإن الرسول لا يطلب منهم شيئاً من الأجر، قال الخازن: المعنى أتطلب منهم أجراً فيثقل عليهم حمل الغرامات في أموالهم فيثبطهم عن الإِيمان {أَمْ عِنْدَهُمْ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} أي أم هل عندهم اللوح المحفوظ الذي فيه الغيب، فهم ينقلون منه أنهم خير من أهل الإِيمان، فلذلك أصروا على الكفر والطغيان؟ وهو استفهام على سبيل الإِنكار والتوبيخ {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} أي فاصبر يا محمد على أذاهم، وامض لما أُمرت به من تبليغ رسالة ربك {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} أي ولا تكن في الضجر والعجلة، كيونس بن متى عليه السلام، لما غضب على قومه لأنهم لم يؤمنوا فتركهم وركب البحر ثم التقمه الحوت، وكان من أمره ما كان {إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} أي حين دعا ربه في بطن الحوت وهو مملوء غماً وغيظاً بقوله {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمين}{لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ} أي لولا أن تداركته رحمة الله {لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} أي لطرح في الفضاء الواسع الخالي من الأشجار والجبال، وهو ملام على ما ارتكب، ولكن الله أنعم عليه بالتوفيق للتوبة فلم يبق مذموماً {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} أي فاصطفاه ربه واختاره لنفسه فجعله من المقربين، قال ابن عباس: رد الله إليه الوحي وشفعه في قومه {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} أي ولقد كاد الكفار من شدة عداوتهم لك يا محمد أن يصرعوك بأعينهم ويهلكوك، من قولهم نظر إلي نظراً كاد يصرعني، قال ابن كثير: وفي الآية دليل على أن العين وإصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عز وجل، ويؤيده حديث (لو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين) {لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} أي حين سمعوك تقرأ القرآن، ويقولون من شدة بغضهم وحسدهم لك: إن محمداً مجنون، قال تعالى رداً عليهم {وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} أي وما هذا القرآن المعجز إلا موعظة وتذكير للإِنس والجن، فكيف ينسب من نزل عليه إلى الجنون؟! ختم تعالى السورة ببيان عظمة القرآن، كما بدأها ببيان عظمة الرسول، ليتناسق البدء مع الختام في أروع بيان وأجمل ختام.