المقدمة
كان أبو عثمان عمر بن بحر الجاحظ (776 -869) هو علامة النثر في ذلك الوقت، كان الجاحظ ابنا لعبد من العبيد في بغداد، تلقى الجاحظ دراسته العريقة في البصرة، والعراق وأصبح واحدا من أبرز المفكرين، ومن أهم مؤلفاته كتاب الحيوان الذي يتضمن مقتطفات من نوادر الحيوانات موضحا مزيجا فضولي من الحقيقة والخيال، ويعد كتابه أيضا "البخلاء" هو بمثابة دراسة فطنة في النفسية الإنسانية، وكان تلك الكتاب من أحسن الكتب التي استكشفت وأوضحت طباع الشخصية العربية، في ذلك الوقت.
استحوذت أبحاث الجاحظ وكتاباته علي جزءا هائلا من الأدب العربي. ومع النصف الثاني من القرن العاشر، ظهر شكل جديد من الأدب يسمى بالمقامات، تسرد تلك المقامات نوادر عابر سبيل يتكسب عيشه بذكائه وفطنته. قدم تلك المقامات البادي آل زمان الحمدانية (1008 d.)، ولكن وجد اثنين وخمسون فقط من أربعة آلاف من مقامته، فالباقي لم يصمدوا عبر الأجيال.
في خدمة العقل
وضع أبو عثمان عمرو بن بحر الكناني الشهير بالجاحظ -لجحوظ واضح في عينيه- 96 عامًا هي كل عمره، ووضع كل ثقافة العرب واليونان والفرس التي عرفها عصره والتي جمعها الجاحظ ووعاها.
كان الجاحظ منهوم علم لا يشبع، ومنهوم عقل لا يرضى إلا بما يقبله عقله بالحجج القوية البالغة.
كان صبيًا يبيع الخبز والسمك في سوق البصرة، ثم بدأ يأخذ العلم على أعلامه.. فأخذ علم اللغة العربية وآدابها عن الأصمعي وأبي عبيدة وأبي زيد الأنصاري، ودرس النحو على الأخفش، وتبحر في علم الكلام على يد إبراهيم بن سيار بن هانئ النظام البصري..
وكان يذهب إلى مربد البصرة فيأخذ اللغة مشافهة من الأعراب، ويناقش حنين بن إسحاق وسلمويه فيتعرَّف على الثقافة اليونانية، ويقرأ ابن المقفع فيتصل بالثقافة الفارسية، ثم لا يكتفي بكل ذلك، بل يستأجر دكاكين الوارقين ويبيت فيها ليقرأ كل ما فيها من كتب مؤلفة ومترجمة، فيجمع بذلك كل الثقافات السائدة في عصره؛ من عربية وفارسية ويونانية وهندية أيضا.
ولادته
ولد سنة 159 هجرية في خلافة المهدي ثالث الخلفاء العباسيين، ومات في خلافة المهتدي بالله سنة 255 هجرية، فعاصر بذلك 12 خليفة عباسياً هم: المهدي والهادي والرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي بالله، وعاش القرن الذي كانت فيه الثقافة العربية في ذروة ازدهارها.
كان الجاحظ موسوعة تمشي على قدمين، وتعتبر كتبه دائرة معارف لزمانه، كتب في كل شيء تقريبًا؛ كتب في علم الكلام والأدب والسياسية والتاريخ والأخلاق والنبات والحيوان والصناعة والنساء والسلطان والجند والقضاة والولاة والمعلمين واللصوص والإمامة والحول والعور وصفات الله والقيان والهجاء.
منهجه في معرفة الحلال والحرام
يقول : "إنما يعرف الحلال والحرام بالكتاب الناطق، وبالسنة المجمع عليها، والعقول الصحيحة، والمقاييس المعينة" رافضًا بذلك أن يكون اتفاق أهل المدينة على شيء دليلاً على حله أو حرمته؛ لأن عظم حق البلدة لا يحل شيئا ولا يحرمه، ولأن أهل المدينة لم يخرجوا من طباع الإنس إلى طبائع الملائكة "وليس كل ما يقولونه حقًا وصوابًا".
فقد كان الجاحظ لسان حال المعتزلة في زمانه، فرفع لواء العقل وجعله الحكم الأعلى في كل شيء، ورفض من أسماهم بالنقليين الذين يلغون عقولهم أمام ما ينقلونه ويحفظونه من نصوص القدماء، سواء من ينقلون علم أرسطو، أو بعض من ينقلون الحديث النبوي.
فإذا كان بعض فلاسفة الشرق والغرب فد وقفوا أمام أرسطو موقف التلميذ المصدق لكل ما يقوله الأستاذ فإن الجاحظ وقف أمام أرسطو عقلا لعقل؛ يقبل منه ما يقبله عقله، ويرد عليه ما يرفضه عقله، حتى إنه كان يسخر منه أحيانا.. ففي كتابه الحيوان يقول الجاحظ عن أرسطو وهو يسميه صاحب المنطق: "وقال صاحب المنطق: ويكون بالبلدة التي تسمى باليونانية "طبقون"، حية صغيرة شديدة اللدغ إلا أنها تُعالج بحجر يخرج من بعض قبور قدماء الملوك-، ولم أفهم هذا ولمَ كان ذلك؟!"
ويقول الجاحظ: "زعم صاحب المنطق أن قد ظهرت حية لها رأسان، فسألت أعرابيًا عن ذلك فزعم أن ذلك حق، فقلت له: فمن أي جهة الرأسين تسعى؟ ومن أيهما تأكل وتعض؟ فقال: فأما السعي فلا تسعى؛ ولكنها تسعى على حاجتها بالتقلب كما يتقلب الصبيان على الرمل، وأما الأكل فإنها تتعشى بفم وتتغذى بفم، العض فأنها تعض برأسيها معًا. فإذا هو أكذب البرية".
ايمانه بأهمية الشك
كان يؤمن بالشك الذي يؤدي إلى اليقين عن طريق التجربة، فهو يراقب الديكة والدجاج والكلاب ليعرف طباعها، ويسأل أرباب الحرف ليتأكد من معلومات الكتب.. قال أرسطو: إن إناث العصافير أطول أعمارًا، وإن ذكورها لا تعيش إلا سنة واحدة… فانتقده الجاحظ بشدة لأنه لم يأت بدليل، ولامه لأنه لم يقل ذلك على وجه التقريب بل على وجه اليقين.
كما هاجم الجاحظ رجال الحديث، لأنهم لا يحكّمون عقولهم فيما يجمعون ويروون، ويقول: ولو كانوا يروون الأمور مع عللها وبرهانها خفّت المؤنة، ولكن أكثر الروايات مجردة، وقد اقتصروا على ظاهر اللفظ دون حكاية العلة ودون الإخبار عن البرهان.
فهو لا يقبل ما يرويه الرواة من أن الحجر الأسود كان أبيض اللون واسودَّ من ذنوب البشر، فيقول ساخرًا: "ولماذا لم يعد إلى لونه بعد أن آمن الناس بالإسلام؟!".
رفضه للخرافات
والجاحظ يرفض الخرافات كلها ، وينقد من يرويها من العلماء أمثال أبي زيد الأنصاري، فيقول: إن أبا زيد أمين ثقة، لكنه ينقصه النقد لأمثال هذه الأخبار التي يرويها عن السعالي والجن، وكيف يراهم الناس ويتحدثون إليهم ويتزوجونهم وينجبون؟.
وكان الجاحظ يرفض وضع صحابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مكانة أعلى من البشر، بحيث لا يحق لأحد أن يتعرض لأعمالهم ويقيمها وينقدها، فهو يرى أن من حق المؤرخ أن يتناول أعمالهم بميزان العقل، لأنهم بشر كالبشر يخطئون ويصيبون، وليسوا ملائكة، وإذا كانت صحبتهم للرسول -صلى الله عليه وسلم- تعطيهم حق التوقير فإن هذه الصحبة نفسها تجعل المخطئ منهم موضع لوم شديد؛ لأنه أخطأ رغم صحبته وقربه من الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
ورفض الجاحظ بشدة القول بأن سب الولاة فتنة ولعنهم بدعة"، وعجب من أن الذين يقولون بذلك الرأي مجمعون على لعن من قتل مؤمنًا متعمدًا، ثم إذا كان القاتل سلطانًا ظالمًا لم يستحلوا سبه ولا لعنه ولا خلعه، وإن أخاف العلماء وأجاع الفقراء وظلم الضعفاء..، فالجاحظ -كمعتزلي- كان يرى ضرورة الخروج على الإمام الظالم في حالة وجود إمام عادل، مع الثقة في القدرة على خلع الظالم وإحلال العادل محله، دون إحداث أضرار أكثر مما يتوقع جلبه من المنافع.
وكان الجاحظ يؤكد أن العقل الصحيح أساس من أسس التشريع.
والأسلوب أحد المميزات الكبرى التي تمتع بها الجاحظ، فهو سهل واضح فيه عذوبة وفكاهة واستطراد بلا ملل، وفيه موسوعية ونظر ثاقب وإيمان بالعقل لا يتزعزع.
الجاحظ من أغزر كتّاب العالم
فقد كتب حوالي 360 كتابًا في كل فروع المعرفة في عصره… وكان عدد كبير من هذه الكتب في مذهب الاعتزال.. وبحث مشكلاته.. والدفاع عنه… لكن التعصب المذهبي أدى إلى أن يحتفظ الناس بكتب الجاحظ الأدبية.. ويتجاهلوا كتبه الدينية فلم يصل إلينا منها شيء.
ومن أشهر وأهم كتب الجاحظ كتابا "البيان والتبيين" و"الحيوان".
ويعتبر البيان والتبيين من أواخر مؤلفات الجاحظ.. وهو كتاب في الأدب يتناول فيه موضوعات متفرقة مثل الحديث عن الأنبياء والخطباء والفقهاء والأمراء… والحديث عن البلاغة واللسان والصمت والشعر والخطب والرد على الشعوبية واللحن والحمقى والمجانين ووصايا الأعراب ونوادرهم والزهد.. وغير ذلك.
__________________
البخلاء
لم يكن الجاحظ في كتابه "البخلاء" أديباً فحسب، بل إنه بلغ في معرفته للنفس الإنسانية وقدرته الفائقة على تحليلها الأعمال وبراعتها وأغراضها مبلغ المتخصصيين في علم النفس… والمعاصرين منهم. فقد ألف هذا الكتاب الضخم في جزئية صغيرة من جزئيات النفس، وظاهرة واحدة من ظواهرها المتعددة وهي ظاهرة البخل وقد حلله تحليلاً غريباً، ودقق وكتب في تجربة البخيل وتدليسه على نفسه، وطرق البخلاء في البخل وتعدد نواحيهم، ووجهة نظرهم… وقد أسبغ على الموضوع الجاف هذا مسحة المرح التي أضفتها روحه المرحة ونفسه الفكهة، حتى لا تتمالك أحياناً نفسك من الضحك العميق، فيمزج الجد بالهزل والعلم باللهو والفلسفة بالفن وإفادة بمؤانسة وإمتاع… كل ذلك من خلال أسلوبه الناقد الساخر الذي أكسبه حلة المعاصرة.
كتاب الحيوان
وهو من مؤلفات الجاحظ الأخيرة أيضا- أول كتاب وضع في العربية جامع في علم الحيوان.. لأن من كتبوا قبل الجاحظ في هذا المجال أمثال الأصمعي وأبي عبيدة وابن الكلبي وابن الأعرابي والسجستاني وغيرهم.. كانوا يتناولون حيوانًا واحدًا مثل الإبل أو النحل أو الطير.. وكان اهتمامهم الأول والأخير بالناحية اللغوية وليس العلمية.. ولكن الجاحظ اهتم إلى جانب اللغة والشعر بالبحث في طبائع الحيوان وغرائزه وأحواله وعاداته.
ولأن الجاحظ كان غزير العلم.. مستوعبًا لثقافات عصره.. فقد كانت مراجعه في كتبه تمتد لتشمل القرآن الكريم والحديث النبوي والتوراة والإنجيل وأقوال الحكماء والشعراء وعلوم اليونان وأدب فارس وحكمة الهند بالإضافة إلى تجاربه العلمية ومشاهداته وملاحظاته الخاصة.
وقد كان للجاحظ أسلوب فريد يشبه قصص ألف ليلة وليلة المتداخلة… إذ أن شهرزاد تحكي لشهريار قصة… ثم يحكي أحد أبطال هذه القصة قصة فرعية.. وتتخلل القصة الفرعية قصة ثالثة ورابعة أحيانًا..ثم نعود للقصة الأساسية.. فالجاحظ يتناول موضوعًا ثم يتركه ليتناول غيره.. ثم يعود للموضوع الأول.. وقد يتركه ثانية قبل أن يستوفيه وينتقل إلى موضوع جديد… وهكذا.
فكتابه "الحيوان" مثلاً لم يقتصر فيه على الموضوع الذي يدل عليه عنوان الكتاب.. بل تناول بعض المعارف الطبيعية والفلسفية.. وتحدث في سياسة الأفراد والأمم.. والنزاع بين أهل الكلام وغيرهم من الطوائف الدينية.. كما تحدث في كتاب الحيوان عن موضوعات تتعلق بالجغرافيا والطب وعادات الأعراب وبعض مسائل الفقه … هذا عدا ما امتلأ به الكتاب من شعر وفكاهة تصل إلى حد المجون بل والفحش.
فكل فصل من الفصول -كما يقول أحمد أمين عن كتاب البيان والتبيين- "فوضى لا تضبط، واستطراد لا يحد… والحق أن الجاحظ مسئول عن الفوضى التي تسود كتب الأدب العربي، فقد جرت على منواله، وحذت حذوه، فالمبرد تأثر به في تأليفه، والكتب التي ألفت بعد كعيون الأخبار والعقد الفريد فيها شيء من روح الجاحظ، وإن دخلها شيء من الترتيب والتبويب.. والجاحظ مسئول عما جاء في الكتب بعده من نقص وعيب، لأن البيان والتبيين أول كتاب ألف في الأدب على هذا النحو وأثر فيمن جاءوا بعده.. وأوضح شئ من آثار الجاحظ في كتب الأدب إذا قورنت بالعلوم الأخرى الفوضى والمزاح ومجون يصل إلى الفحش أحيانًا.
اسلوب تألفيفه للكتاب
وقد أوضح الجاحظ في "الحيوان" أسلوب تأليفه للكتاب قائلاً "متى خرج -القارئ- من آي القرآن صار إلى الأثر، ومتى خرج من أثر صار إلى خبر، ثم يخرج من الخبر إلى الشعر، ومن الشعر إلى النوادر، ومن النوادر إلى حكم عقلية ومقاييس شداد، ثم لا يترك هذا الباب ولعله أن يكون أثقل والملال أسرع حتى يفضي به إلى مزح وفكاهة وإلى سخف وخرافة ولست أراه سخفًا".
ويبدو أن عدم ثقة الجاحظ في القراء على وجه العموم كانت سبباً في سلوكه هذا السبيل… فهو يقول: "ولولا سوء ظني بمن يظهر التماس العلم في هذا الزمان، ويظهر اصطناع الكتب في هذا الدهر لما احتجت إلى مداراتهم واستمالتهم، وترقيق نفوسهم وتشجيع قلوبهم -مع فوائد هذا الكتاب- إلى هذه الرياضة الطويلة، وإلى كثرة هذا الاعتذار، حتى كأن الذي أفيده إياهم أستفيده منهم، وحتى كأن رغبتي في صلاحهم رغبة من رغب في دنياهم"
والأسلوب أحد المميزات الكبرى التي تمتع بها الجاحظ، فهو سهل واضح فيه عذوبة وفكاهة واستطراد بلا ملل، وفيه موسوعية ونظر ثاقب وإيمان بالعقل لا يتزعزع.
والجاحظ بهذا الفكر الذي يعلي من شأن العقل، وهذه الثقافة المتنوعة الجامعة، وهذا العمر المديد بما يعطيه للمرء من خبرات وتجارب، وهذا الأسلوب المميز: استحق مكانه المتميز في تاريخ الثقافة العربية بما له من تأثير واضح قوي في كل من جاءوا بعده.
أما ما يؤخذ عليه فهو ما يؤخذ على المعتزلة عموم.
ولعل الجاحظ يكون قد هيأ لأبي نواس أجواء التدرج في القول الجمالي من النثر المقنع عقلاً، إلى الشعر المزكى وجدانياً ولو استعان أبو نواس بشعر غيره ليفصل بين شقي القيمة المادية والروحي، وبذلك تكون طريقة أبي نواس غير طريقة الجاحظ في التأسيس للقيم، ومن ثم كان الاختلاف في جوهر القيم عند الرجلين.
والجاحظ كان قد أقام جدلاً من وحي مذهبه الاعتزالي حين ارتقى بفكره وهوى بفكر خصمه من خلال ما ذهب إليه أبو نواس نفسه، حينما عايرَ قيمه بميزان المادة دون الروح، على الرغم من أنه استعان بالقول الجمالي، وبذلك يكون الجاحظ قد هدم قولاً جميلاً بمنظور خصمه منحرفاً بمنظوره هو.
وينقلنا الجاحظ إلى قضية مهمة حين يبسط منظوره الطبيعي على القيم الجمالية فيقول:
"وقد علمنا أن من يقرض الشعر، ويتكلف الأسجاع، ويؤلف المزدوج ويتقدم في تحبير المنثور، وقد تعمق في المعاني وتكلف إقامة الوزن والذي تجود به الطبيعة وتعطيه النفس سهواً رهواً مع قلة لفظه وعدد هجائه أحمد أمراً، وأحسن موقعاً من القلوب وأنفع للمستمعين من كثير خرج بالكد والعلاج، ولأن التقدم فيه وجمع النفس له، وحصر الفكر عليه لا يكون إلا ممن يحب السمعة ويهوى النفج والاستطالة، وليس بين حال المتنافسين، وبين حال المتحاسدين إلا حجاب رقيق وحجاز ضعيف."(1)
ولعل اتكاءه على المنظور الطبيعي جعله يرقى بالحيوان على الإنسان نفسه، من حيث الاستطاعة الحسية، إذ يقول مبرزاً ما يعجز عنه الإنسان ويقدر عنه الحيوان:
"وسخر حناجرها (أي الحيوانات) له من ضروب النغم الموزونة والأصوات الملحنة، والمخارج الشجية، والأغاني المطربة، فقد يقال إن جميع أصواتها معدلة وموزونة موقعة (….) فبلغت بعفوها وبمقدار قوى فطرتها، من البديهة والارتجال… ما لا يقدر عليه حذاق رجال الرأي وفلاسفة علماء البشر"(2)
والملاحظ أن الجاحظ يجمع بين القيم الجمالية والقيم الطبيعية وفي ذلك إيحاء إلى أن الجمال كلما كان طبيعياً كان أحسن.
إن الحيوان لا يملك الاستطاعة "لأنه لم يمنح العقل والتفكير"(3)، ولكن أي عقل وأي تفكير يكون الجاحظ قصدهما؟…
لاشك أنهما المتعلقان بالإنسان، أما العقل والتفكير المؤديان إلى الإدراك الغريزي، فهما موجودان عند الحيوان، ذلك أن الحيوانات "لها منطق تتفاهم به حاجات بعضها إلى بعض، ولا حاجة بها أن يكون لها في منطقها فضل لا تحتاج إلى استعماله، ولذلك معانيها في مقدار حاجاتها"(4).
وهذه الحاجات ليست فكرية كما هو الشأن عند الإنسان الذي يمتلك من الحاجات ما يضاهي به الحيوان، وما يتميز عن غيره به وصفه إنساناً، ومن ثم فحاجة الإنسان غير حاجة الحيوان.
واقتراب الحيوان من الإنسان إن كان سببه "المشابهة والمشاكلة"(5). فإن الحيوان نفسه يحمل قيماً، يمكن أن تسهم في حياة الفرد بطريق مباشر وآخر غير مباشر:
أما الطريق المباشر: فهو عندما يكون الحيوان نفسه مصدر قيم فطرية ـ مادية ـ وخلقية وجمالية.
وأما الطريق غير المباشر، فهو ما يمكن أن يستنبط من حكم أصلها الحيوان.
ونتيجة لقيمة الحيوان ودوره في حياة الإنسان تكونت بينهما ألفة وكأن الأول منح منطقاً معيناً، والثاني أعطي قدرة على التبيين هي العقل.
فقد يفهم الإنسان بعض مظاهر السلوك الغريزي عند الحيوان ولو كان صادراً في قوالب صوتية، إلا أن هذه الأصوات تظل مبهمة إلا عند الإنسان الذي ألف مثل ذلك السلوك نتيجة معرفته السابقة بوضعية الحيوان ـ مصدر ذلك السلوك ـ من تلبية حاجاته، وهذا ما قصده أبو عثمان بقوله: "فنحن قد نفهم بحمحمة الفرس كثيراً من حاجاته ونفهم عن السنور كثيراً من إرادته وكذلك الكلب والحمار والصبي الرضيع"(6).
نعم، لقد أدرك الجاحظ قيمة الأصوات التي تعبر عن حاجات الحيوان والإنسان عفوياً وجمع بين صوت الصبي الرضيع، المتمثل في الصراخ الذي عدّه العلماء ظاهرة غير لغوية على الإطلاق، ولذلك فإن الأم التي تزعم أنها تعرف حاجات ابنها من صراخه قائم على معرفة سابقة بوضعه من تلبية حاجاته الفطرية.
وأما قول الجاحظ المتعلق بالأصوات التي يصدرها السنانير في قوله: "ثم أحص ما تسمعه وتتبعه وتوقف عنده فإنك ترى من عدد الحروف ما لو كان لها من الحاجات والعقول والاستطاعات ثم ألفتها لكانت لغة صالحة الموضع متوسطة الحال: "فإنه يؤخذ من باب التجوز"(7).
ويفصل الجاحظ القول في هذه المسألة حينما يفرق بين الإنسان والحيوان بما امتلك الأول من معرفة عقلية كانت سبب الاستطاعة وانعدام المعرفة عند الثاني.
"والفرق الذي هو الفرق إنما هو الاستطاعة والتمكين وفي وجود الاستطاعة وجود العقل والمعرفة"(8)
فالإنسان لم يمنح العقل دون سائر الخلق للاعتبار والتفكير، ولم يعط الاستطاعة إلا ليكون محجوجاً.
الخاتمة
عاش مشوه الخلقة ومات والكتاب على صدره قتلته مجلدات من الكتب وقعت عليه , لقد عمر الجاحظ طويلا , فعاش ما يقارب ستة وتسعين عام , وتوفي عالم 255هـ .بعد أن ترك عدد ضخم من الكتب في حقول المعرفة المختلفة , وأشهر هذه الكتب : الحيوان , البيان والتبيين , البخلاء , رسالة التربيع والتدوير , وغيرها من الكتب . ومن أهم خصائص أسلوب الجاحظ السخرية وهذه السمة تعيش في كتابات الجاحظ كما أنها كانت من صفاته الشخصية
من نوادره :
لا تقولي شيئا
أتى الجاحظ منزل صديق له , فطرق الباب , فخرجت اليه جارية عجمية فقال لها : قولي لسيدك الجاحظ بالباب فقالت : أقول الجاحد بالباب ؟فقال : لا قولي له , الحدقي بالباب ـ أي صاحب العين الناتئة فقالت : أقول الحلقي بالباب ؟فقال لها : لا تقولي شيئا , ورجع الى بيته
.
المصادر
Redirect
www.arabeagaeonline.net
نداء الإيمان – موقع كل المسلمين
www.nadiadab.edunet.nt